تعرّضت جريدة “الحياة” للحجب في سوريا يوم أمس، ربما بسبب مقال محمد شقير الذي عرض فيه بدقّة تزايد الضغوط السورية على المسؤولين اللبنانيين لفرض ما يسمّى “التنسيق الأمني” بين البلدين. علماً أن “الصلّوخ” سارع لنفي هذه الضغوط السورية، في حين سارعت “الأخبار” الإلهية إلى إبراز النفي الصلّوخي.
مقال وليد شقير المنشور اليوم في “الحياة” يطرح الأسئلة المناسبة حول مغزى بعض العمليات الإرهابية التي تبدو “مخابراتية” أكثر منها “أصولية”
* *
ربما كان أحد نجاحات الذين يسعون الى إبقاء حال اللااستقرار في لبنان أنهم ساهموا في إنشاء وضع وقيام معادلات، يستحيل معها وضوح الرؤية، بحيث تصبح الأحداث الأمنية والدموية التي يشهدها البلد منذ 4 سنوات، قابلة لتفسيرات شتى متناقضة معظم الأحيان، خاضعة للأهواء السياسية، وليس للوقائع، أو لاستخدام انتقائي للوقائع، بل أحياناً كثيرة لتزوير الحقائق وتشويهها خدمة للهدف السياسي، حتى لو كان ذلك على حساب دماء سالت وضحايا سقطت بعقل بارد.
إنها الصورة الأكثر وضوحاً للفوضى السياسية والأمنية، التي يتيحها الانقسام السياسي الحاد في البلاد، الذي اختلطت فيه أسباب الصراع الإقليمي والدولي القائم في المنطقة مع الانقسامات الطائفية الحادة والمريضة في المجتمع اللبناني، ووظائفها الخارجية، فيزيد ذلك الأمور غموضاً وإمعاناً في إخضاع الوقائع للاجتهادات وتعززه الفوضى وضبابية الرؤية.
هكذا لا يعود ممكناً تحديد من الذي يفجر عبوة في تجمع جنود للجيش اللبناني، أو في حافلة تقل جنوداً… أو من الذي يلقي كل أسبوع أو أقل قنبلة في أحد الشوارع في طرابلس، لإعادة إطلاق شرارة القتال المذهبي، ويصبح توحيد التحليل، في غياب الوقائع والمعطيات الواضحة، متعذراً.
لكن النتيجة الرئيسة لكل ذلك، من بين نتائج عدة، هي تسهيل “الإفلات من العقاب” في لبنان. فهذه العبارة التي تتردد على كل شفة ولسان في المجتمع الدولي تكاد تكون شعاراً في ظل هذه الفوضى التي تقوم حملات إعلامية تسهم في تعميمها. فاستخدام الإعلام في تسهيل وتبرير المزيد من الفوضى، هو إحدى الوسائل التي يحسب لها كل معني حساباً في السعي الى هذا الهدف. ولم تعد نظرية “الفوضى البناءة” مقتصرة على السياسة الأميركية المتهورة وحدها، بل هي أسلوب يتقنه الكثير من الدول والمنظمات الإرهابية المتعددة الجنسية والعلاقات الاستخبارية المتداخلة وفقاً لعملها في هذا البلد أو ذاك. وهناك فرقاء كثر يهمهم “الإفلات من العقاب” في لبنان، عبر تعميم الفوضى، وتوجيه أصابع الاتهام في الحوادث الأمنية في كل اتجاه، بما فيه حول عمليات الاغتيال، نتيجة غياب المعطيات الجازمة وضبابية الرؤية. فتعميم الفوضى يوزع الاتهامات والشبهات ويتيح لمن يعتقد نفسه الأقوى، أن يوظف كل ذلك سياسياً.
وفي حمأة الفوضى التي تغرق الأحداث الأمنية في سوق الاستنتاجات السياسية، يضيع أيضاً الهدف السياسي من وراء التفجيرات الأمنية، لتصبح مجرد تواريخ متلاحقة يتعب الناس من بذل أي جهد لملاحقتها أو للتدقيق في المعطيات حولها.
وفي هذا السياق يصبح تفسير استهداف الجيش بالتفجيرات تفسيراً عاماً، مسطحاً، أو يجري ربط هذا الاستهداف بالانتقام من نجاحه في معركة نهر البارد… وتهمل تفسيرات محتملة أخرى، منها الضغط على قيادته الجديدة لتطويعها، أو توجيه الإنذارات المتتالية لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الآتي من الجيش، أو إنهاكه وإضعاف حركته… لمنعه من الحؤول دون الفوضى… التي تسهّل الإفلات من العقاب…
والفوضى الإعلامية المرافقة لفوضى الأمن، تقفز فوق محاولة الإجابة عن أسئلة عدة: إذا كانت أصابع الاتهام توجه الى تنظيمات أصولية وتكفيرية ترافقها تحليلات توحي بأن بقايا “فتح الإسلام” قد تكون المعنية، أو مجموعات تلوذ بـ “القاعدة”، فلماذا لم يصدر أي بيان يتبنى استهداف الجيش مثلما سبق أن حصل، ومثلما تفعل هذه المجموعات في العراق؟
وإذا كانت دمشق مثلاً التي سرّب حلفاؤها أن لديها معطيات عن أن “القاعدة” تسعى الى ملاذ آمن في شمال لبنان، أطلعت زعماء فرنسا وتركيا وقطر عليها خلال القمة الرباعية في دمشق مطلع الشهر الماضي، وأن هذا ما يبرر خوف الرئيس بشار الأسد من أن “الشمال اللبناني قاعدة للتطرف وخطر على سورية”، فهل أن مسؤولي الأمن اللبنانيين حصلوا على معطيات من زملائهم السوريين الذين ينسقون معهم في ما يسمى لجنة الارتباط والتنسيق القائمة والمستمرة بين جيشي البلدين، حول المجموعات المتطرفة التي رصدتها دمشق؟
ألا يدفع الربط بين أحداث أمنية في سورية، من قبل دمشق، وبين الأحداث في الشمال، الجانب السوري الى إبلاغ لبنان، عبر لجنة الارتباط، بما يملكه من وقائع؟
الحياة