بعث إلى قارىء، غاضب على ما يبدو، برسالة عبر البريد الالكتروني.
بعثها تعقيبا على مقال “نعم يغتصبن!”
لم يقل فيها شيئا من عنده، بل ضمنها حديثا منسوبا إلى الرسول عليه السلام، يقول، وهنا انقل عنه “عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح”.
وصمت!
فتأملت.
ثم تذكرت.
تذكرت لحظة حاسمة في حياتي، غيرت الكثير من مفاهيمي وقناعاتي.
في السابعة عشرة من عمري كنت.
جديدة على بلدي اليمن، عائدة إليها من اربع سنوات في المغرب، بلد الطيبة والحفاوة والاسلام المتسامح، طالبة في الصف الثاني الثانوي.
وحينها كانت اليمن، كالمغرب، كمصر، وكغيرها من بلدان العالم العربي، تعايش بدء موجة تأسلم اخوانية سلفية. بدت مظاهرها في انتشار حلقات ما يسمى بالـ”دعوة” و”الدرس الديني”. وبرز تحالف الدولة الرسمي مع المؤسسة الدينية “الداعية”، كل لأسبابه السياسية، في صمت السلطات التربوية عن انتشار تلك الحلقات في باحات المدارس.
مدارس البنات ومدارس البنين، لا فرق هنا، لا بين الذكر ولا الانثى. فالدعوة يجب ان تنتشر.
ولأني كنت عائدة جديدة على مثل هذه المظاهر من التدين، ولأني كنت اتوق لعلاقة روحانية مع الخالق، ثم لأني كنت أمرّ بفترة من العمر يبحث ويجرب فيها الانسان، وجدت نفسي انجذب إلى تلك الحلقات.
احببت حديث الداعية الشابة عن الحب والخير في الدين.
ذاك جانب احببته كثيراً.
لكني وجدتها بعد ذلك، تأخذ حبي للخير في الدين، لتلك الجوانب المضيئة التي نجدها في كل دين، وتتحول معها إلى افكار بدأت اجدها غريبة، ثم منفرة.
كانت تحدثنا عن الفن، ثم تقول إنه حرام. الله يحرمه.
ثم تحولت إلى الموسيقى تقول إنها حرام، الله يحرمها.
وانتقلت إلى الشعر تقول إنه حرام. الله يحرمه.
ثم ركزت على الفلسفة والمنطق، تقول إنهما حرام. الله يحرمهما.
ثم بدأت تحدثنا عن خالد الاسلامبولي، “الشهيد”، هكذا كانت تسميه، الذي “قتل” الرئيس انور السادات.
وهنا بدأت اسمعها، واخذ حذري.
فالـ”قاتل” لا يتحول إلى “شهيد”، حتى لو كان القتيل رئيسا اساء استخدام سلطاته.
ثم إن الله لا يدعو إلى القتل، اليس كذلك؟
وكنت من قبل لا اسمعها واتلقى فقط.
ورجوتك عزيزتي الشابة، رجوتك عزيزي الشاب، يا من تستمعان اليوم إلى تلك الحلقات، وتلك الدعوات، أن لاتسمعا فقط وتتلقيا.
إعملا عقلكما فيما تسمعا. وفكّرا. ثم فليستخر كل منكما روحه، وقلبه، ثم عقله.
حتى لا تتحولا إلى خراف جديدة في قطيع “المغسولة عقولهن وعقولهم”.
وأنا، في سن السابعة عشر، كنت اسمعها واتفحص كلامها وأدقق فيه، فأرى الثغرات في كل جوانبه.
تقول لي الفن حرام، واتذكر الافلام التي رأيتها وتركت اثرها في نفسي. العربية والإنجليزية. وأقول لنفسي ما الحرام في فن لم يكن متواجداً اساسا في زمن الرسول الكريم.
تقول لي الموسيقى حرام، واتذكر ام كلثوم، آه الطرب، ذاك الذي نهز رؤوسنا وقبله قلوبنا معه، ثم اتذكر سيمفونيات شهرزاد، السيمفونية التاسعة، كسارة البندق، وغيرهن، ممن وعيت على انغامهم في بيتنا، ثم افكر كيف كانت و لا زالت تمثل غذاءاً نورانيا لروحي.
وأتساءل “حسناً. أفهم انه في زمن الرسول لم تصل معرفتهم إلا للدف والمزمار، لكنهم في زمنه لم يعرفوا ايضا سوى الجمل والسواك. فهل اكف عن استخدام السيارة، والطائرة، ثم معجون وفرشاة الاسنان لأن زمن الرسول لم يشهد كل هذه المحدثات؟ لكل زمن ادواته. اليس كذلك!”
وتقول لي الشعر حرام، فاردد في سري شعر ابو العلاء المعري، وصوت ابي يمازحني بابياته، واتساؤل ما الحرام في ذلك؟ مالحرام في الجمال والرونق في الكلمات، ما الحرام في الفكر نضمُنه الجمال، و رصف الافكار بالكلمات، ثم كيف تُحرم الشعر وهو اساس الثقافة العربية؟”
ثم تقول لي الفلسفة والمنطق حرام، فاذكر ابن رشد، واذكر الفارابي، واذكر احاديث أبي فاتأمل، واقول ما الذي يخيفها من الفكر، من إعمال العقل؟ لماذا تخاف هكذا من التفكير؟
وانتبهت إلى أنها تحرم كل ما له علاقة بالحضارة، كل ما له علاقة بالثقافة، كل ما له علاقة بالتمدن، وكل ما له علاقة بالحياة.
وعندما تحدثت عن القتل، قلت لنفسي، القاتل لا يكون شهيداً، فأين الله في كل هذا؟
لكن كل ذلك لا يساوى تلك اللحظة الحاسمة التي مرت علي، في احدى تلك الحلقات، لحظة جعلتني افيق واستفيق.
هذه المرة، كانت الحلقة في بيت، بعيد عن الاعين.
والداعية الأكبر سناًً الان، تحدثنا عن المرأة التي يريدها الله في الاسلام. إسلامها.
وبدأت تعدد الصفات والخصائص، إلى أن وصلت إلى حديث ينسب هو الاخر إلى النبي الكريم. كالحديث الذي ارسله لي القارىء الغاضب.
يقول فيه إن إمرأة مرض ابوها، واصبح على فراش الموت، وارادت ان تزوره، لكن زوجها رفض، فخرجت رغما عن أمره، وزارت اباها، فلعنتها الملائكة.
عندما رددت “الداعية” ذلك الحديث، واستمعتُ جيدا إلى فحواه، نظرت إليها كأني انظر إليها لأول مرة. كأني اراها كما هي لأول مرة. هززت رأسي، وخرجت من عندها، وأنا ادري انها اخر مرة.
لم اعد إليها ولا إلى حلقات “مجموعتها” من جديد.
كان “الحديث” الفاصل بيننا.
فالله، عزيزاتي، عادل. وأن تلعن الملائكة امرأة لأنها قررت ان تزور اباها الذي يحتضر، لأن زوجها لم يرد ذلك، أمر يتنافي مع معايير العدل.
ليس عدلا.
فالمسألة لاتحتمل الأخذ والرد.
ليس فيها نظر.
الله عادل. وما دام عادلاً فليس من العدل ان يعاقب الضحية وينصر الجلاد.
فالأحرى ان تلعن الملائكة الزوج الذي تحجر قلبه ورفض ان تخرج زوجته لتزور اباها المحتضر.
ولأن المنطق مقلوب هنا، ادركت ان ما تتحدث عنه صاحبتنا لا علاقة له بالله.
أين الله في هذا الحديث أعزائي؟
أين رحمته، أين رفقه بنا، عزيزاتي؟
ثم أين عدله؟
أيكون الرجل ظالماً وتقف الملائكة معه؟
تماما كا لحديث الذي اشار إليه القارىء العزيز.
دعا الرجل زوجته إلى فراشه. فرفضت.
فتلعنها الملائكة؟
وإذا دعت المرأة زوجها إلى فراشها، ورفض الرجل؟ كان متعبا، مريضا، او لارغبة لديه، فهل ستلعنه الملائكة ايضاً؟
لا اسمع رداً؟
هل نقحم الله والملائكة في اخص خصوصياتنا؟
حتى في الفراش؟
في علاقة يفترض ان تقوم على المحبة والمودة، لا الغصب.
والله عز وجل، هو الذي يفترض فيه ان يغصب المرأة أن تهب نفسها في وقت لا تريد ان تهب نفسها فيه؟
جسدها وهي حرة فيه.
وما دامت تحب رجلها، ويحبها، فسيعرفان كيف يتفاهمان.
وفي كل الأحوال، فإن الامتناع يزيد من الشوق في العلاقة، حتى لا يتحول إلى خبز بايت ناشف.
هل نتحدث هنا عن الله سبحانه وتعالى، عزيزاتي؟ عن الإيمان به؟ أم عن رؤية تدعو المرأة إلى أن لا تكون فرداً، كياناً، أو روحاً مستقلاً؟ تدعوها أن تكون جزءا من الرجل، من رغباته، من اوامره، وأن تخضع، تخضع، ثم تخضع.
الله لا علاقة له بهذا الحديث.
فالله لن يدعو إبنة إلى تجاهل ابيها المحتضر، أي رب سيكون، لو فعل؟
والله لن يأمر أمراة إلى ممارسة الجنس مع زوجها رغماً عن انفها، حتى وهي كارهة.
لو كان رجلاً، وليس كل الرجال هكذا، اعرف ذلك، لكن لو كان رجلاً من هذا النوع سيفعل.
لكن سبحانه ليس ذكراً، تماما كما أنه ليس انثى.
هو الرحمن وكفى.
وهو رب الرجل، ورب المرأة.
لا يميز بينهما.
ويقولون “الله يميز بينهما، والله هو الذي يقول”. والواقع أنهم “هم من يميزون” و “هم الذين يقولون”، تنزه سبحانه عما يقولون.
وما دام الامر كذلك، فأي دين تروج له تلك الداعية؟
وقد استغرقني الامر اكثر من عقدين، حتى تمكنت من الفصل بين ما يقولونه، ويصرون انه الدين، وبين الايمان الروحاني، ذلك الذي يملاً المرء بمحبة الله والخلق والكون، لكنه يصر في الوقت نفسه على إمكانية أن يعيش الانسان منسجما مع عصره، ومفاهيم المساواة وحقوق الإنسان كما نعرفها اليوم.
تمكنت من فعل ذلك، لكني ادركت في الوقت ذاته أن الحل الذي وجدته لنفسي، لا يكفي. بل يجب أن يكون مؤسسا وعاماً، ولن يحدث ذلك إلا بإصلاح جوهري للدين، إصلاح لا يكتفي بالتجميل الذي دأبنا على اللجوء إليه منذ اكثر من قرنين، ونصمت عن النص الديني بدءا من القرآن الشريف وأنتهاءا بالاحاديث التي تنسب إلى النبي الكريم.
ولكي لا يكون حديثي عاماً سأقدم لكم في المقال القادم مثلاً محدداً عن المرأة في النصوص الدينية، واطرح وجهة نظري عليكم، فأستمعوا إلي، ولا تنفروا، ثم ميزوا، وقرروا..
elham.thomas@hispeed.ch
• كاتبة يمنية- سويسرا
لحظة! فساد و حريم واسلام و قمر! اين تقع تلك الصرخات النسائية الانسانية الصادقة من الدعوة للاصلاح والتغيير أو اقله التجديد؟ اميل الى الابتهاج و الغبطة لدى قرائتي اي تناول تنويري او حتى تثويري جريء لفهمنا المزعوم السائد و المتوارث لفقه “الشرع” و تطبيقاتنا الحياتية المعاشة قي بعض جوانبها مدعين غطاء مقدس , لعل اهم ما يمكن ان تثمر عنه تلك الصرخات الانسانية ,والتي تسمو بمعظمها الى مراتب عالية من التحليل المنطقي و الصقل الادبي المعروك بتفاصيل وشذرات فلسفية , هو خفض تشامخ ذاك الفهم المتنطح الى قمم قدسية, فالقدسية كلها للرب تعالى وليست لفهم بشري – قاصر حتما –… قراءة المزيد ..
لحظة!
السادة مسؤل الموقع المحترمين, ارسلت تعليق امس و اليوم دون ان استلم اشعار باستلامكم النص ارجو ان ترشدوني ان امكن للسبب و قد حاولت ذلك من جهازين مختلفين دون فائدة و لكم الشكر
لحظة!انني اوفقك بان الفكر السلفي قد اساء كثيرا الى الاسلام من خلال الفهم الحرفي للنصوص ولكن هناك فهم اخر في الاسلام يجمع بين رؤية العقل والوحي فهناك كثير من الاراء الفقهية الناضجة لا تمثل المدرسة السلفية فالفكر السلفي خصوصا المتشدد يرفض كثير من تلك الامور فالفن كما في النحت والرسم والنقش لا يحرم الا به اساءة للقيم والاخلاق كبروز عورة الرجل او المراة مثلا ااو تعظيم طاغوت من الطواغيت او تمثال يمثل الوثينية وفي غير ذلك جائز فحتى الاثار لا يجوز تحطيمها وفق التصور الصحيح للاسلام وهكذا بالنسبة الى الفلسفة والفرفان والمنطق فلا تحرم وهكذا اذا بحثتي عن اراء الاسلام… قراءة المزيد ..