يكثر في لبنان هذه الأيام الحديث عن تبدلات في وضع الطائفة السنيّة احدثتها الأوضاع الأمنية التي شهدتها مدينة بيروت في الشهر الفائت. ومدار هذه الأحاديث يتركز على افتراض تعرض نفوذ تيار «المستقبل» الى اهتزاز بفعل السيطرة العسكرية لمسلحي المعارضة وتحديداً التنظيمين الشيعيين «حزب الله» و «حركة أمل» على مناطق نفوذ «المستقبل» وما أعقب هذه السيطرة من محاولات لتثبيت معادلة «هزيمة» «المستقبل» العسكرية. ولكن الساعين الى تثبيت هذه المعادلة سقطوا في اكثر من مأزق اثناء سعيهم هذا. فالقول بإلحاق هزيمة «عسكرية» ثم سياسية بتيار المستقبل يستبطن رغبة في ان يستثمر هذا «الانتصار» حلفاء سنّة للمعارضة، وهذا ما لم يحصل، بل حصل عكسه تماماً، فالجميع في لبنان يعرف ان «وثبة» المعارضة العسكرية على مناطق السنة في بيروت وغيرها من المدن ادت الى تصدع في نفوذ احزاب وشخصيات سنية حليفة للمعارضة بفعل شعور الشارع السني بـ»تواطؤ» هذه الأحزاب مع القوى التي وثبت على مناطقه ومدنه من الجنوب اللبناني الى الشمال مروراً بالعاصمة بيروت.
في مدينة صيدا الجنوبية مثلاً، حصل هذا الأمر على نحو جلي. فالنائب اسامة سعد، وهو حليف «حزب الله» شعر خلال ايام المحنة في الشهر الفائت بأن ما يجري في المدينة لجهة إقدام عناصر من خارج المدينة على الدخول اليها واستهداف مراكز «المستقبل» فيها لن يكون لمصلحته، ونجم عن الإرباك الذي اصابه جراء ذلك اضطراب واضح في ادائه حيال ما يجري، وتمثل هذا الإرباك في تصريحات متفاوتة وغير منسجمة تراوحت بين تحفظه على دخول مسلحين غرباء الى المدينة وبين دعوته «المستقبل» الى تسليم سلاحه ومراكزه الى «المعارضة» ملمحاً الى خطوات ميدانية في حال عدم الإستجابة. ويجزم مراقبون صيداويون بأن ما اقدمت عليه المعارضة في صيدا أصاب نفوذ سعد بتصدع كبير، وان «حزب الله» وحركة «امل» لم يأخذا مصالح حليفهما في المدينة في الإعتبار خلال ايام المحنة.
في بيروت تبدو نتائج ما جرى أوضح لجهة عجز المعارضة عن استثمار خطواتها العسكرية في سياق تعزيز نفوذ حلفاء سنة لها من أبناء المدينة، اذ لا وجود فعلياً لهؤلاء اصلاً، وما حصل في المدينة افقد من يطمح من حلفاء المعارضة من السنّة البيروتيين أي امل بحجز مكان له في المدينة. فأحداث السابع من ايار (مايو) عنت لسكان بيروت السنّة انهم مستهدفون بصفتهم هذه لا لكونهم مناصرين لتيار «المستقبل»، وأي شبهة تحالف مع المعارضة ستعني لصاحبها في العاصمة، بعد أحداث السابع من ايار، انسداداً في احتمالات استقباله في البيئة السنيّة. ومرة ثانية اسقطت المعارضة من حساباتها مصالح حلفائها السنّة.
في طرابلس، وهي المدينة السنية الأكبر في لبنان، كان ثمة ركيزة يمكن للمعارضة ان تبني عليها نفوذاً لا بأس به قبل أحداث السابع من ايار، ولكن يبدو ايضاً ان احتمالاً كهذا اطاحته الحملة العسكرية في بيروت. ففي طرابلس والى جانب النفوذ الأفقي وغير المضبوط لـ «تيار المستقبل»، ثمة حضور لا يمكن التغاضي عنه لشخصيات من المعارضة وأخرى قريبة منها وثالثة حليفة لـ «المستقبل» من دون ان تكون جزءاً منه. الرئيس عمر كرامي هو أحد وجوه المعارضة في المدينة، والرئيس نجيب ميقاتي يمثل خياراً سنياً فعلياً من غير قوى الموالاة في حال أتاحت الظروف احتمالاً كهذا. وهناك «التكتل الطرابلسي» الذي يرأسه الوزير محمد الصفدي، وهو جزء من «14 آذار» ولكنه يملك هامش تحرك أوسع اتاح له في الكثير من المحطات ان يقترب من المعارضة، او على الأقل لم يكن جزءاً من الحملات عليها.
انعكاس الحملة على الحلفاء
الأرجح ان خطوة المعارضة العسكرية في العاصمة والمناطق الأخرى ضيقت على هذه القوى الطرابلسية هامش التحرك وأفقدتها الكثير من الصفات التفاضلية. فإداء الرئيس عمر كرامي الذي رافق أحداث السابع من ايار يؤشر الى ارتباك كبير ناجم عن قناعته في ان ما يجرى لن يكون لمصلحته، وانه مطالب حتى من المقربين منه بمواقف تلجم الإندفاعة العسكرية للمعارضة في العاصمة. على هذا النحو فُسر تصريحه في تلك الفترة والذي قال فيه انه في حال كانت المحنة طائفية فهو لن يجد نفسه الا جزءاً من طائفته.
علماً ان استقبال طرابلس لأحداث السابع من ايار كان مختلفاً عن استقبال بقية المدن اللبنانية لهذه الأحداث، فالمدينة وبصفتها الحاضرة السنيّة الأكبر في لبنان شعرت بأنها مطالبة بدور اكبر في مواجهة «ما يتعرض له سكان بيروت وصيدا» وهي بهذا المعنى اكثر حساسية حيال قوى قد تُحسب على المعارضة، ومستعدة لـ«معاقبة من يبدي تساهلاً حيال استهداف ابناء الطائفة في المناطق الأخرى».
يتكرر ما جرى في صيدا وبيروت وطرابلس في منطقة البقاع الغربي إذ للسنّة اللبنانيين حضور. ففي تلك المنطقة بقايا نفوذ لشخصيات سنية قريبة من المعارضة مثل الوزير السابق عبد الرحيم مراد. ويؤكد مراقبون من أبناء المنطقة ان هذا النفوذ الذي بدأ بالتقهقر بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 شهد بعد أحداث السابع من ايار تسارعاً في التقهقر.
طبعاً لا يعني هذا العرض ان تيار «المستقبل» في احسن أيامه، اذ يبدي الكثير من القريبين منه تحفظاً وملاحظات على إدائه خلال ايام المحنة في الشهر الفائت. ولكن «وثبة» المعارضة العسكرية لم تكن تستهدف إنتاج بديل سني لـ»المستقبل»، وهي ان هدفت الى ذلك انما فعلته من قبيل إنتاج بديل راديكالي لا مكان فيه لمن يُحالفها من السنة. على هذا النحو يمكن فهم احتفاء المعارضة وإعلامها بقدوم السلفيين وباحتمال إطاحتهم «المستقبل». وعلى هذا النحو ايضاً يمكن فهم انعدام حساسية المعارضة حيال مصالح حلفائها من السنة خلال حملتها على العاصمة. وتُوج هذا الميل في العاصمة القطرية عندما سعت المعارضة خلال مفاوضات الدوحة الى قانون للانتخابات يحد من تأثير السنة في الكثير من المناطق، في حين صُور «المستقبل» بصفته مدافعاً عن ذلك النفوذ.
والحال ان ما نجم عن هذا الإصطفاف كان صورة لصراع لا مكان فيه للقسمة السياسية، فتقدمت الخيارات الطائفية العارية من أي إدعاء آخر، لا سيما على صعيدي «المستقبل» من جهة و»حزب الله» و»حركة امل» من جهة اخرى، فيما تولى الأنقسام المسيحي تلطيف فجاجة هذا الفرز. وفي هذه الحال تستحيل مهمة الطامحين لاستثمار «الانتصار العسكري» للمعارضة الا اذا كان انتصاراً لطائفة على اخرى، وهنا تلوح هزيمة «المستقبل» بصفتها «هزيمة» للطائفة السنية، وهو ما يهدد بتحول هذه الهزيمة الى انتصار.
فالجميع في لبنان يدرك ان هزيمة واحدة من الطوائف الكبرى فيه لن يكون حقيقة دائمة.
لا شك في ان الأوساط الحاضنة لـ»المستقبل» تشهد حالاً من الحيرة والأضطراب اذ لا أفق في هذا الفرز الطائفي الحاد فتفضي الى تحول في الخيارات. ويبدو ان البيئة المدينية منها ليست مرحبة بالخيار الراديكالي، اما الريفية والطرفية فهي اصلاً لم تكن نائية عنه وعلى رغم ذلك لم يفضِ تفشي دعوات اصولية وسلفية فيها في ذروة قوة هذه الدعوات في العالم الى تحول مهم في المزاج العام لمصلحتها. وصحيح ان تيار «المستقبل» يشكل ضمانة في وجه صعود الخيارات المتطرفة في البيئة السنيّة، لكن الصحيح ايضاً اننا في بداية مرحلة أفول هذه الدعوات في كل العالم، او على الأقل تصدعها.
آثار الصدمة
في موازاة ذلك ثمة اسئلة جديدة مطروحة على كل من يتصدى للشأن العام في الأوساط السنية اللبنانية، فأحداث السابع من ايار أحدثت صدمة دفعت الكثيرين الى إعادة النظر في العلاقة مع الدولة ومع الجماعات اللبنانية الأخرى. فمن يرصد المزاج السني اللبناني لا بد له من تسجيل حال من التبدلات ليس في الولاءات إنما في المخاض الداخلي للوجدان الجماعي لتلك الجماعة. يمكنك مثلاً ان تسمع من احد مناصري اسامة سعد في صيدا كلاماً حانقاً على تيار «المستقبل» بسبب عدم تصديه لمسلحي المعارضة في العاصمة، او في طرابلس من مناصر للداعية المؤيد لحزب الله فتحي يكن كلاماً عن «استباحة المعارضة للعاصمة»، ولا يعني كلام الرجلين نقلهما الولاء، انما مؤشر اختلاط المعاني وتضاربها.
اما في داخل تيار «المستقبل» فلا شــــك في ان ثمة ما يعتمل على نحو مختلف. فالتحديات الجديدة التي فرضها الواقع الميداني في العاصمة يملي أساليب عمل مخــــتلفة. فقد أدت السيطرة العسكرية لأحزاب المعارضة وعلى رأسها «حزب الله» على شــــوارع بيروت وان لأيام قليلة الى واقع مختلف. لم يعد الوجــــود العلني لتيار «المستقبل» بديهياً في الكثير من شوارع بيروت، والعودة تتطـــلب خطوات سياسية وميدانية لا تقتصر على الزيارات التي يقوم بها زعيم التيار النائب سعد الحريري الى الأحياء والمساجد، فصدمة السابع من ايار طرحت على اهالي بيروت تحديداً نوعاً من التساؤلات المرتبطة بمدى قدرة «المستقبل» على انشاء بيئة أمان لهم، وهو أمر يتطلب توقفاً عنده ومراجعة للكثير من المحطات.
وكشفت أحداث السابع من أيار ايضاً ان «المستقبل» في بيروت ولبنان عموماً لا يحتكر القدرات المادية والعملانية وان ثمة من ينافسه حتى داخل الطائفة السنية احياناً على تصدره تأمين الخدمات واستقطاب الكفاءات، وعلى قدراته الأعلامية. اذ يبدو ان المعارضة وتحديداً في السنتين الأخيرتين تمكنت من تعزيز قدراتها في الكثير من مجالات تفوّق «المستقبل»، وتولى حزب الله إنشاء هيئات وتشكيل مجموعات تستفيد من قدرات الحزب المادية والمعنوية لتوظفها في مجال منافسة «المستقبل». اما إعلامياً فالغلبة واضحة للمعارضة على صعيد عدد وسائل الأعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.
ربما مثّل عجز المعارضة عن إنتاج بديل سني لتيار «المستقبل» إحدى المآزق الكبرى لحملتها العسكرية في بيروت، فهي كانت في مواجهة خصم لا تعني «هزيمته العسكرية» قضاء على نفوذه السياسي (اتفاق الدوحة خير دليل على ذلك)، فماذا يبقى من هذه الحملة اذاً؟ لا إجابة حتى الآن سوى ما خلفته الحملة من مضاعفة الأنقسام الطائفي والمذهبي. اما اذا كانت النتيجة إحلال بديل راديكالي واصولي، فالمأزق اكبر من دون شك، الا اذا كان ثمة من يرى ان خيار الراديكالية السنية ينسجم مع ما يُخطط من مشاريع للبنان وللمنطقة، وهنا تلوح جهنم بصفتها المستقبل البديل.
الحياة
http://www.daralhayat.com/special/
features/06-2008/Item-20080616-9272abae-c0a8-10ed-0007-ae6dd1f6b096/story.html
“”المعارضة” اللبنانية تتخبط في “هزيمة المستقبل” وبدائلها حلفاء سنّة زادتهم حملتها ضعفاً
من الواضح ان حزب الله يستغل حلفائه اكانوا من السنة او المسيحيين. لكن الاخطر من ذلك ان حزب الله يسعى بكل قوته الى انهاء دور التيارات السنية المعتدلة كي تحل مكانها التيارات الاصولية. فحزب الله له مصلحة في تنامي الاصولية السنية . وقد رأينا ذلك في معركة نهر البارد. فالاصولية السنية تبرر احتفاظ حزب الله بسلاحه خاصة الان بعد ان باشرت سوريا المفاوضات مع اسرائيل .