“في كل مرة يتحدثون معي فيها عن الإله.. أشعر وكأنهم يريدون محفظتي أو حياتي”
برودون
*
نقرأ في العديد من حكايات الشعوب كيف تواجه المرأة – المدينة – الحمامة – الشجرة المصير الأسود عقاباً على التمرد والخيانة لتقاليد التابوهات والثوابت النصّية، ولا يكون إلا الموت، وليس أي موت، أنه الموت الضارع بدقة متناهية.. فعلى مستوى المرأة يصوب رب هذا التابو سهمه أو رصاصته إلى أهم الأعضاء التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات ألا وهو الرأس – العقل المحرض على التمرد والاختلاف.
حكاية شعبية يمنية أسمها “جُليد أبو حمار” وتعني الرجل المتخفي في جلد حمار مسلوخ. مضمون الحكاية: أجمع المنجّمون أن أخت “جُليد أبو حمار” ستكون السبب في موته، فقرر الأب فور مولدها أن يقوم بوأدها، وأوكل هذه المهمة لأخيها، لكن الأخ رق قلبه وحررها من الموت، وهاجرا معاً إلى الوادي البعيد. فكان الأخ يخرج صباحاً وبكامل عتاده من “النمرين، والخيل، والسلاح” ولا يعود إلا متأخراً، وسط تحذيراته لأخته بـ: ألا تخرج، ألا تغتسل، ألا تفتح الباب لأي مخلوق، ولاءات كثيرة تمحي طبيعتها الإنسانية. ووسط الوحدة والوحشة القاتلة واللاءات المكبلة للأخت روحاً وجسداً، تمردت على الوادي الضاج بالذكورة والفحولة الطاغية وترسانة الأوامر التي لا تتلاءم مع غريزة الحياة.
هربت الأخت لتتزوج بسلطان المدينة، الذي حررها عبر العجوز الساحرة. واعتبر الأخ صانع الأستار والوحشة والكواسر والـ”لااءات” أن ما فعلته أخته خيانة كبرى، لا تمحى إلا بالدم، فكيف أنقذها من الوأد فترد جميله بالغدر به؟! فقرر أن يثأر لنفسه ولمنظومته ذوات المخالب والحوافر، حيث تسلح بكل معدات نصيات الذكورة والتابوهات شحذ التاريخ والموروث واعتصرهم رحيقاً حقوداً للانتقام، وتوجه بعدته القتالية من: النمرين، والسلاح والخيل، وهتاف الانتقام الغاضب الماحق الذي كان يطلقه على كواسره فتنطلق بسرعة البرق: ” قلبي، فؤادي، حصان ابن هادي، دقوا الوادي” ليقتحم المدينة، ويقتل أخته. لكن حراس المدينة وقفوا له بالمرصاد عبر قتال دار بينهم فردوه على أعقابه.
لم يعترف “جُليد ” بالهزيمة، فتخفى في جلد حمار، فراوغ وتلون وخطط ونفذ للوصول إلى هدفه. ولأن المدن مفتوحة على كل الأطياف، فقد اخترقها ووصل إلى هدفه. فدخل متخفياً إلى المدينة ووصل إلى قلب ساحة الاحتفالات وبحركات بهلوانية نالت الإعجاب، طلب من السلطان أن يستأذنه بصيد الحمامة من بين الحمائم (وكان المقصود بالحمامة أخته التي كانت تشاهد الحفل). وافقه السلطان، فصوب “جُليد” سهمه نحو رأس أخته /الحمامة فأرداها قتيلة. قتل أخته /الحمامة كان اغتيالاً للمدينة، اغتيالاً للفرح الذي تشهده المدينة في احتفالاتها.
مرة أخرى: لماذا الرأس، ولماذا الحمامة؟
(2)
وأنا أشاهد مسلسل التوحش القادم من أودية الهلاك والخلاء الناطق بالموت والكواسر، للحمامة، للمرأة “بيروت” ربطتُ بين الحكاية وما يحدث في لبنان.
بيروت – الحمامة، مدينة الحرية، والكتاب، والفن، المدينة التي علمت الحواضر العربية أبجديات الحب والتمرد، والمحبة والجمال، إنها وطن فيروز، وجبران، وبشارة الخوري، ومي زيادة.. صوّب “جُليد أبو حمار” وميليشاته من الكواسر سهامه نحو رأسها / عقلها، وبذا سجّل أول استباحة لعقل بيروت بتدمير وحرق الكتاب والصحافة والمؤسسات التربوية، والطرقات، والشرفات، وأكاليل الغار، والميجنا، والعتابا.
عندما قالت بيروت: لا، في وجه جُليد الذي أنقذها من “الوأد” ذات مرة، مبتزاً إياها في كل لحظة لأن تدفع ضريبة ذلك الإنقاذ بموت آخر أشد وأداً وتوحشاً، فترتهن لقبضته الفكرية الخامينائية القاتلة.
تدرك بيروت أن كليهما موت أشد وحشية من الآخر.
لذا قالت: لا.
وتدرك أيضاً، إن الطريقين مختلفين ولن يلتقيا أبداً. بيروت، إما أن تكون مع الحياة، فتحيا، ولأنها كذلك لا تتقن غير فن الحياة، ووشوشات المؤانسة والاختلاف، والإيقاعات النابضة بصخب الحياة والخصب، بيروت التي لا تتوقف عن الغناء والرقص والحكي في المجالس والطرقات والأحراش والشرفات والمقاهى، من يكن كذلك فأنه يرفض الطريق الثاني، ويقول: لا للموت والعدم والتشيوء، وجليد أبو حمار وميلشياته لا يعرفون سوى منطق وثوابت الخلأ، والأودية الموحشة.
من يقول “لا” لجليد أبو حمار، فقد اختار موته بالسكتة العقلية.
من لا يرتهن لكواسره، وهتاف “القبضايات والزعران” الجاثمة على صدور وأنفاس الطرقات والحمائم والزهور والندى، والجريدة وديوان القصيدة، و”بكتب أسمك يا حبيبي عَ الحور العتيق” فقد حقت عليه الاستباحة بكل أنواعها وألوانها، وأولها الاستباحة الإلهية.
جُليد أبو حمار المتلون والمراوغ، المتخفي بجلد حمار ميت وأعرج، لا يعرف سوى فرض نصيته المخلبية الواحدة التي لا تقهر: لون واحد، والقبضة الواحدة، والصرخة الوحشية الآتية من بطون الكهوف، التي لا تجيد دق المهابيش، بل دق الأرض والبشر، هذا اللون تلفظه المدن، وتلفظه بيروت، حتى لو أُدميت.
(3)
قبل أسابيع.. صديقتي الحامية جداً كزيت ساخن، أهدتني وزملائي ميداليات تحمل صورة الصنم –الإله نصر الله، ووعدتنا أيضاً ب”تيشرتات” ستأتي من الصين قريباً مرسوم عليها صورة وقبضة نصر الله، مع بندقية الكلاشينكوف.
اعتذرتُ عن اخذ الميدالية وهي توزعها وسط المنتشين والمهللين والمكبرين من أساتذة، وباحثين، وشعراء، ومحامين، وفنانين، قائلة: الله في الأرض، ونصر الله في السماء، وأنها مستعدة لتقبيل أقدامه المقدسة، فهو أول من ضرب إسرائيل الصهيونية في معقلها.
باعتذاري، حشرتني صديقتي بغضب في خانة: أني خائنة، وعميلة موساد، وسي اى أيه، وكي جي بي، وكي جي تو، ودي دي تي، وقا قي قو.. الخ من الحروف العربية والسنسكريتة، وكل اللغات الحية والميتة. قلت لها مش ناقصين منطق الموت الإلهي يكفينا خيباتنا المتلاحقة. فبلداننا مكتظة حد الاختناق بنماذج جُليد أبو حمار وكواسره بمخالب ظاهرة وباطنة.
(4)
في بلادي من يتجرأ ويتلفظ بأنه لا يقف مع الأنموذجات لجُليد أبو حمار من ابتداءً من صدام حسين، حسن نصر الله، وناجي فتح الله، وصالح دك الباب، ونعمان دق الأرض، وناصر يا كايدهم، فقد كفر ودخل في ماورائيات الشرك الأكبر الذي لا يغتفر.
في بلادي تدرك القلة القليلة، أن من يعشق فيروز لا يمكن أن يرتهن لثقافة الأكفان والالتحاف بالعباءة السوداء، حتى لو كانت إلهية يفصلّها الخامنائيون القدماء والجدد. ففيروز لا تجتمع مع الأحادية، ولا تتواجد في حضرة الكواسر، ولا تنضوي تحت الإلهيات الكاتمة للشرفات.
انتفاضة العروق المتحدة مع الخراب لا يعيش فيه سوى جليد أبو حمار بكواسره من المليشيات، فهو من صنعها، ليستبح بيروت: الأنثى، والكتاب، والحكاية.
(5)
إنهم لا يستشرسون إلا في حاضرة المدينة – الأنثى – الروح بيروت
التي لا تحتفي بجُليد أبو حمار وأعوانه الكواسر.
جُليد أبو حمار، وأخوته الطغاة، يريدون ثمن طرد المحتل والانتصار لأن يختطفوا المدينة والدولة، بشجرها وحجرها وسمائها، وبحرها، بل وأن تكتسي بيروت ثوب الحشمة والعفة، والنوم بكّير، أن تتلفع بالنقاب الأصولي. تصوروا بيروت مشرشفة، معلقة بأصفاد الأستار والحجب، بلا صوت سوى الندب وأناشيد الجهاد. بيروت معصوبة العينين مشنوقة إلى بنادق ودبابات جُليد أبو حمار وعصابته. بيروت وقد تلفعت بواحدية الدين والطائفة، وفكر الواحد الكل، والكل هو الواحد: “جُليد”.
فلمن كل هذا الدمار؟
ولماذا يحدث مثل هذا؟
ولماذا بيروت اليوم، وغداًُ مدينة أخرى؟
لماذا فكرنا العربي (أبو حمار) وعلى مدي عصور طويلة من الزمن لا يتقبل فكرة المدينة وان تقبلها يريدها نموذجاً مصغراً من قبيلته وعشيرته، وان كبرت تكون كوادي جُليد أبو حمار المقفر لا تتسع إلا له، ولوحوشه فقط؟
لماذا تغتال مدننا، مدينة تلو الأخرى؟
ولماذا لا يُلجم هذا الجُليد المستبيح لكل شيء يخالفه؟
(6)
اعتقد أن الصراع ليس صراعاً م بين شيعة وسنة، وطائفة وأخرى مسلم ومسيحي.. الخ كما تروجه وسائل الإعلام والكتبة.
الصراع هو بين آلتين متناقضتين، آلة الحياة وآلة الدمار والموت
فإما إن ننتصر للحياة، وإما أن نتوحد مع الموت.
ولا مكان لان تعيش مدننا، ومدينة بيروت – المرأة والأنوثة، والبحر والكتاب، واللون والبحر، الحب والتمرد، العشق في أجمل تجلياته، تعايش الهلال والصليب، والرموز والمعتقدات الأخرى، في حضرة الآلة الكانسة للحياة. فالمدينة لا تستقيم إلا بهذا التنوع والتعدد، وهكذا هي بيروت.
ثقافة جليد أبو حمار أو بالأحرى أيديولوجيته لا تعرف مثل هذه الأشياء والمسميات، لأنها لا تجيد سوى أناشيد هدير النمور، واصطكاكها بقاع وسماء المدينة، وتجيد بتفنن أكثر تحويل أهل بيروت ولبنان إلى نمور من أول يوم، وليس من يومها العاشر، مخالفاً بذلك ما يحدث في قصة الكاتب الكبير زكريا تامر “النمور في يومها العاشر”.
فكيف تشوفوووووا ؟؟.
arwaothman@yahoo.com
* كاتبة من اليمن
بيروت.. وجُليد أبو حمار
لله درك يا أروى كيف تمتلكين ناصية الكلم وكيف تبدعين توظيف المثيولوجيا الشعبية توظيفا متقنا وتقتنصين الألفاظ كما اقتنص جليد اخته ولكن مع كبير فارق بين اقتناص مبدع يقتنص للخير واقتناص مقفل يقتنص جهلا.
بيروت.. وجُليد أبو حمار
مقالك رائع ايتها الكاتبة. الحكاية تنطبق على واقع حزب الله وما فعله وما يريد ان يفعله. وتحليلك بهذا الشكل الجميل دليل على عمق رؤيتك واتساع وعيك.
تمتعت جدا بهذا المقال وهو في بابه افضل ما كتب عن واقع حزب الله (اقصد حزب ايران في لبنان)…