* مداخلة قدّمها الكاتب بشأن وثيقة 14 آذار حول المقاومة والدولة في ورشة عمل عقدت في “البريستول” في 13 نيسان الماضي
*
تتحدث “الوثيقة” عن انقسام لبناني، أو بالأحرى انقسام في خيارات اللبنانيين، يعبّر عنه على وجه الإجمال فريقا 14 و8 آذار، في بُعدي كلٍ منهما:
ـ الحزبي، المكوّن من قوى ومنظمات وشخصيات سياسية،
ـ والشعبي، المكوّن من انحيازات أهلية (طائفية و/أو مناطقية)، وقسم من الرأي العام اللبناني،
انقسام أفقي، بالنظر إلى التنوع السياسي والطائفي والمناطقي في كل فريق، ويكاد يكون عمودياً بالنظر إلى وجوب أغلبيات مذهبية ساحقة في كلا الفريقين.
تقارب “الوثيقة” هذا الانقسام على صعيدين كبيرين:
أ ـ صعيد ثقافي، يتضمن النظرة إلى الذات وإلى الآخر، في مجتمع تعددي وسط عالم أكثر تعدداً، وفي ما بات يندرج تحت عنوان “أسلوب العيش” أو “طريقة الحياة”، على قاعدة: “كيف نعيش معاً، متساوين ومختلفين؟”. كما وتعتمد المقاربة معيار “الوصل والفصل” منطلقاً للقراءة وزاوية للنظر في ما يترتب على هذا الانقسام الثقافي من تداعيات وترجمات في مجالات متنوعة. وتوفيراً لبعض النقاش، ههنا وخارج هذه القاعة، قد يكون مفيداً القول بأن هذه “الوثيقة” إنما تتحدث عن اختيارات ثقافية واعية، لا عن مكوّنات ثقافية موروثة، من وجهة نظر انتروبولوجية، تؤدي إلى تصنيف اتني.
ب ـ صعيد جيو ـ سياسي، يتضمن إشكالية موقع لبنان ودوره، في منطقة عربية يجمعها “نظام للمصلحة”، كائن بالقوة أو بالفعل، وفي عالم تتجاذبه أنظمة للمصالح مختلفة ومتزاحمة. على هذا الصعيد نفسه توجد أيضاً إشكالية “المقاومة اللبنانية المسلحة ضد إسرائيل”، في علاقتها الوثيقة بالمعطى اللبناني الداخلي، وبالمعطى الإقليمي والدولي الخارجي.
* * * *
مداخلتي هذه تتناول باختصار شديد الصعيد الثاني، ولا سيما موضوعة “المقاومة”.
دعت وثيقة 14 آذار إلى ـ وأقتبس: “إعادة الاعتبار لفكرة المقاومة”. لعل الأوفق أن يقال “إعادة النظر في مفهوم المقاومة السائد”. وفي هذا الصدد أطرح للنقاش والتفكّر النقاط التالية:
1 ـ أعتقد أن اللبنانيين لم يُجمعوا يوماً على مشروع المقاومة الشعبية المسلحة ضد العدو الإسرائيلي، أكان محتلاً لأرض لبنانية، أو معتدياً من وراء الحدود (لا أوافق مثلاً على القول الشائع بأن اللبنانيين كانوا “مجمعين على دعم المقاومة الإسلامية حتى أيار 2000، ثم انقسموا من حولها بعد ذلك”. أفهم الغاية الايجابية من وراء هذا الكلام، ولكنني لا أوافق على اعتباره كلاماً مطابقاً للواقع. لم يُجمعوا يوماً على ذلك، ليس لأنهم فريق مقاوم وآخر مستسلم. كلا، بل لأن مشاريع المقاومة تلك، منذ هزيمة حزيران 1967 واتفاق القاهرة عام 1969، كانت ذات مرجعيات عليا غير لبنانية: منظمة التحرير الفلسطينية أولاً، ثم سوريا وإيران، منفصلتين أو مجتمعتين.
2 ـ ترتب على هذا الواقع أن كان لبنان على الدوام، ومن خلال مشاريع المقاومة إياها، “ورقة” و”ساحة” بدلاً من وطن ودولة. ولقد ارتبط مفهوم “الورقة والساحة”، لدى معتمديه اللبنانيين كما لدى مرجعياتهم، ارتباطاً ذرائعياً بأفكار ايديولوجية وأحلام كليانية، فيما ارتبط واقع الوطن والدولة اللبنانيَين، لديهم أنفسهم، بنظرة تهميشية، ان لم نقل تحقيرية.
3 ـ وإذ تراكبت مشاريع المقاومة على الانشطار الأهلي والمناطقي أثناء الحرب (1975 ـ 1990)، فقد نجم عن ذلك أن لم يعد ممكناً حصول المقاومة على سمة “وطنية”، بالمعنى الأصلي الجامع لكلمة “وطنية” (نسبة إلى وطن) لا بالمعنى المعياري المتداول (حُكم قيمة ـ ضد خيانة، عمالة، وما إلى ذلك من مفردات). لم يتعذّر حصول السمة الوطنية مع استواء المقاومة حالة إسلامية أو شيعية فحسب، بل تعذّر أيضاً حين كانت علمانية (“جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”)، لأن هذه الأخيرة بقيت آنذاك في جانب واحد من الانشطار اللبناني الكبير، بالرغم من تنوعها السياسي والديني.
4 ـ لا معنى لمقاومة وطنية إذا لم تعزّز فكرة الوطن، ولا معنى لوطن من دون دولة. وإذا كان مفهوماً وطبيعياً قيام مبادرات مجتمعية مقاومة مستقلة عن الدولة، أثناء الاحتلال وفي غياب الدولة بسبب الحرب، فإن استمرار ذلك، على هذا النحو، لا يعود مقبولاً مع حضور الدولة. هذه الإشكالية برزت بقوة مع حصول اتفاق الطائف. إذ نشأ تزاحم مؤذٍ بين أولويتين: أولوية قيام الدولة، بشرطها وشروطها، وأولوية استمرار المقاومة (نظراً لاستمرار الاحتلال)، بدلاً من نشوء تناغم فيما بينهما، وبقيادة الدولة. ما حدث فعلاً هو استتباع الدولة لمقتضيات المقاومة المستقلة تماماً عن الدولة ومشروعها، وذلك برعاية سلطة الوصاية السورية، ولغاية تتجاوز الحاجة الوطنية اللبنانية. هذا الأمر شكّل، في تقديري، الآلية الرئيسة للإبقاء على مشروع الدولة معلقاً، بالرغم من النهاية الرسمية للحرب الداخلية. وفي هذا السياق نشأت “دولة المقاومة” داخل اللادولة اللبنانية، وليس داخل الدولة كما شاع القول. وهذا ما حمل قائد المقاومة على المجاهرة مؤخراً بقوله: “لدينا دولتنا.. فهاتوا دولتكم لنتفاهم!”.
5 ـ مع الانسحاب الإسرائيلي في أيار 2000 وفقاً للقرار الدولي 425، انتفى وطنياً وقانونياً مبرر استمرار المقاومة المسلحة (قرّرت الأمم المتحدة أن القوات الإسرائيلية قد انسحبت من الأراضي اللبنانية المحتلة). وهذا ما أعاد تظهير الانقسام اللبناني من حول المقاومة، بعد فترة من الكمون على قاعدة القبول بالأمر الواقع. لم تستجب المقاومة لهذا المعطى الجديد، بل تذرعت لاستمرارها على حالها بذرائع لم تكن مقنعة (مزارع شبعا، الأسرى…). الذي مكنها من الاستمرار هو تحديداً الذي مكنها منه سابقاً، اي الوصاية السورية والامداد الايراني. هنا فوتت المقاومة على نفسها فرصة تاريخية لاندراجها في الدولة على كرامة ومأثرة.
6 ـ مع الانسحاب السوري في نيسان 2005 (استجابة للقرار الدولي 1559، كما أعلنت القيادة السورية)، أتيحت فرصة كبرى ثانية لعودة المقاومة الى الدولة، اذا ما كانت بالفعل ذات “أجندة لبنانية” لا خارجية. ما حدث هو العكس تماماً. فقد لجأت المقاومة، بحركة هروب الى الامام، الى ربط نفسها علناً بالصراع الدائر في فلسطين، وبالصراع الاقليمي في المنطقة وعلى المنطقة. الى ذلك نهضت بمهمة “الوكالة” عن الطرف السوري المنسحب شكلاً والمصمم على العودة بأي ثمن. في الوقت نفسه شاركت المقاومة ودخلت في الحوار الداخلي (طاولة الحوار) الذي افضى، حقاً، الى توافقات مبدئية على جانب كبير من الأهمية. ولكن تبيّن سريعاً ان تلك التوافقات لم تكن، في نظرها، للتطبيق والالتزام، وان المقاومة، مع من والته ومن والاها، انما يريدون كسب الوقت لا غير.
7 ـ مع حرب تموز 2006 اصبحت المقاومة المسلحة، عملياً وقانونياً، غير ذات موضوع. وذلك بانتشار الجيش اللبناني في الجنوب الى جانب القوات الدولية المعززة، وبموافقة المقاومة نفسها على القرار 1701 الذي يقول من غير لبس بأحادية سلاح الدولة وسلطتها على الأراضي اللبنانية. مرة أخرى لم تستجب المقاومة لا للواقع الجديد ولا لالتزاماتها الموثقة، بل استجابت على أثر حرب تموز للنداء السوري المعلن بترجمة “الانتصار الالهي” على اسرائيل سعياً لتحقيق انتصار مماثل على الداخل اللبناني، الأمر الذي جعل المقاومة تبدو وكأنها “قائدة أركان” لانقلاب موصوف على الدولة. وهذا هو الأصل في فشل جميع مبادرات الحلول اللاحقة، من داخلية وعربية ودولية.
8 ـ ثمة اشكالية اخرى في هذا المجال، ربما تكون الأكثر حرجاً ودقة. المقاومة، في واقعها الحالي، هي أولاً مقاومة شيعية صافية، أو بالأحرى “بعض شيعية” لأنها تكاد تضم حصرياً الذين هم على “ولاية الفقيه العامة” من الشيعة اللبنانيين. وهي ثانياً مرتبطة علناً بأجندة اقليمية: لطالما صرحت قيادة المقاومة بأنها متكافلة ومتضامنة مع النظامين السوري والايراني، لا مع شعبيهما فقط، وهي ثالثاً تمسك بقرار أغلبية شيعية لبنانية الى درجة “الاحتجاز”. هي اذاً، في الواقع، مقاومة اقليمية لا وطنية، تريد ان تجعل من الشيعة اللبنانيين طائفة (=جماعة) فوق لبنانية. والحال كذلك كيف يمكن احياء عقد وطني بين طائفة اقليمية وطوائف محلية؟! هذا الواقع ربما يفسر ما نلاحظه من سعي الى اعادة النظر في توازنات اتفاق الطائف، على قاعدة: استبدال مثالثة شيعية ـ سنية ـ مسيحية في الدولة بالمناصفة الاسلامية ـ المسيحية القائمة حالياً.
9 ـ إن ارتباط “المقاومة الاسلامية” بمشروع اقليمي يعول على المقاومات المسلحة القائمة في كل من لبنان وفلسطين والعراق، لاقامة “شرق اوسط اسلامي” في مواجهة “شرق اوسط اميركي” (أطروحة القيادة الايرانية)، او لاقامة “جبهة للممانعة” (أطروحة القيادة السورية) ـ علماً ان مضمر هذا المشروع لا يخرج عن التطلع الى “مساومة ما” مع الولايات المتحدة… ان مثل هذا الارتباط لا يحتمله لبنان، ويفوق طاقته عدالة وانصافاً. فضلاً عن كون المشروع يحاول إعادة انتاج حقبة سابقة لم تكن “سعيدة” بكل المقاييس، وبعد التجربة والاختبار. الى ذلك فان الترجمة العملية لهكذا مشروع تعني بسط نفوذ ايراني في المنطقة العربية وعلى حسابها، وفقاً لنظرية “ملء الفراغ”. وهذا ما يضرب في الصميم “نظام المصلحة العربية” الذي لا يستطيع لبنان، ولا ينبغي له، أن يغرد خارجه. وقد تحدد نظام المصلحة هذا، في ما يعني مسألة “المقاومة” والصراع العربي ـ الاسرائيلي، من خلال مشروع عربي تبلورت معالمه الأساسية ما بين قمتي بيروت 2002 والرياض 2007، ولا سيما في “إعلان الرياض”. وهو في تقديرنا مشروع يوفر مقومات المناعة العربية (وفي صميمها المناعة اللبنانية) أكثر من نظريات “الممانعة” و”الجهاد المسلح”، المفتوح على مزيد من الشيء نفسه. كما ولا يجوز أن يغيب عن بالنا أن أهل القضية الأساس في صراع المنطقة (الفلسطينيين) وقد أدرجوا نضالهم وخطتهم في المشروع العربي للسلام، بقرار من ممثلهم الشرعي والوحيد (منظمة التحرير الفلسطينية).
10 ـ علاوة على ما تقدم، فإن المقاومات المسلحة الثلاث التي يعول عليها مشروع الممانعة قد باتت تشكل، كما أرى، ثغرة في البنيان العربي بدلاً من أن تكون عامل قوة فيه. فهي جميعاً تشترك في ثلاثة:
أ ـ إحداث شقاق داخلي أفضى الى ما يشبه الحرب الأهلية في كل من العراق وفلسطين، ولا ضمانة صلبة لئلا يحدث مثل ذلك في لبنان إذا ما استمر خطاب “الحرب المفتوحة” واستمرت “تجهيزاته”.
ب ـ الانقلاب على شرعيات وطنية دولتية منتخبة ديموقراطياً، أو لنقل أن شرعيتها على هذا الصعيد أقوى من شرعيات كثيرة في المنطقة العربية.
ج ـ الاعتماد المفرط على الخارج، تمويلاً وتسليحاً وقراراً بحيث باتت هذه المقاومات تشكل اختراقاً فادحاً للأمن العربي.
خلاصة
خلاصة القول ان أمامنا سبيلاً وحيداً لحل الاشكاليات المتعلقة بموضوع المقاومة، هو تقديم مشروع الدولة الوطنية، السيدة المستقلة، القائمة بمسؤولياتها الطبيعية، على أي اعتبار آخر. إذ ان في مشروع الدولة، على قاعدة وحدة وطنية، وعلى قاعدة اتفاق الطائف والدستور وقرارات الشرعيتين العربية والدولية، مقداراً من المناعة الفعلية يفوق أي مقدار آخر في أي مشروع آخر من خارج الدولة.
المستقبل