يطرح المعارضون لفكرة الخدمة المدنية التطوعية للشباب العرب، مسالة الضرر بالهوية القومية للمتطوعين.
يشكل موضوع الهوية القومية، موضوعا هاما حقا، ولا يجوز التقليل من أهميته، خاصة في الظروف السياسية التي تسود دول العالم، التي تعيش فيها أقليات قومية، ومنها أيضا دولة اسرائيل. والموضوع رغم أهميته، من الخطأ تحويله الى موقف مطلق ومغلق.
مبدئيا من حق كل أقلية قومية ان تحافظ على هويتها القومية وثقافتها القومية، والعرب في اسرائيل يعانون من واقع تمييزي مؤذ ممنوع تجاهله، هذا أولا، وثانيا، نخطئ خطأ كبيرا اذا تعاملنا مع كل اقتراح من مؤسسة السلطة، حتى الذي يتضمن محاولة حكومية لتخفيف التمييز، كخطر على هويتنا القومية.
صحيح تماما ان المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة لا تعترف بالأقلية العربية كأقلية قومية، انما تقسمنا الى طوائف، وحتى ما دون الطوائف…
ولا نختلف على ان هذا التعنت الغبي، يشكل موقفا منفرا ومضرا، وله أبعاده السلبية على واقع الحياة السياسية والاجتماعية في اسرائيل، وعلى العلاقات السوية العربية اليهودية.. ولا بد من تغيير هذا النهج البالي، بتعريف جديد للأقلية العربية، كأقلية قومية، لها حقوقها القومية والثقافية والتعليمية المختلفة، مع التأكيد على توزيع عادل للميزانيات، حسب نسبة السكان العرب في الدولة.
يجب وقف سياسة السيطرة والاضطهاد.. والبدء بعملية مصالحة وتعميق مشاركة المواطنين العرب في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة.
ان الاضطهاد والتمييز ليسا وليدي الصدفة، والتغيير لن يجري بخطوات حكومية لزيادة الميزانيات للوسط العربي فقط، انما بتغيير نوعي في سياسة السلطة بكل ما يخص المواطنين العرب، والملاءمة بين التفكير والتخطيط في كل مستويات السلطة.
في فترة حكومة رابين الأخيرة ( قبل مصرعه) تمتع الوسط العربي بميزانيات غير مسبوقة، رفعت من مستوى الحياة، وفتحت آفاقا لتطوير البنى التحتية في البلدات العربية، وارتفع مستوى الرفاه بقفزات كبيرة. ومع اختفاء رابين عاد الوضع الى سابق عهده من التمييز وشحة الميزانيات. صحيح ان أعضاء الكنيست العرب شكلوا في وقته بأصواتهم، ضمانة منعت اسقاط حكومة رابين التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ووقعت معها اتفاق سلام، قادت الى انشاء السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، ولكن بعد غياب رابين تجمدت الاتفاقات بحجج مختلفة.. ليس هذا موضوعي، انما تعالوا نتساءل : أين كان النواب العرب وقتها ؟ الم تكن الظروف مؤاتية لتحويل زيادة الميزانيات في فترة رابين، الى صيغة قانونية، تمنع التراجع عنها وحجبها من الحكومات المستقبلية ؟ لا أفهم ما هي وظيفة نوابنا في الكنيست، اذا لم يستغلوا كل حالة مريحة وايجابية، من أجل التقدم خطوة وراء خطوة الى
الأمام. ولا تنسوا انه في فترة حكومة رابين أيضا جرى الغاء التمييز في مخصصات الأطفال العرب، بنص قانوني واضح لا يمكن التراجع عنه.
لماذا لم تصغ المكاسب في التوظيفات المالية في فترة رابين بنص قانوني واضح، حين كانت كل الفرص متاحة لمثل هذا الانجاز؟
أعرف تماما الاشكالية القائمة في موضوع تغيير نهج السلطة، ورغم ذلك أعتقد انه يجب تعريف مصطلح الاسرائيلية من جديد، من هو اسرائيلي؟
قد لا تقع هذه الكلمة “اسرائيلي” بشكل مريح على الآذان العربية. ولكني لا اتحدث عن “مشاعر العرب الحساسة”، انما عن واقع سياسي وحقوقي بالغ الأهمية للجماهير العربية في اسرائيل، يتعلق بمستقبلهم وبقائهم فوق أرضهم بكرامة وحقوق متساوية، وكقوة ضغط سياسي داخل اسرائيل من أجل انجاز حلم شعبهم القومي بانشاء دولة فلسطين الدمقراطية المستقلة.
هذا التعريف يعني ان كل مواطن، يهوديا أو عربيا اوغير ذلك، يشمل تعريفه كل مركبات المواطنة. التعريف اليوم يعاني من نقص في النص القانوني، رغم ان محكمة العدل العليا الاسرائيلية اقرت مبدأ هاما في محكمة ” قعدان ضد كتسير ” حيث جاء في قرارها: “ان المساواة في الحقوق بين كل انسان مها كان دينه ومها كانت قوميته، هو أمر مقرر في قيم دولة اسرائيل”.
وهنا نعود للسؤال الأساسي: هل يمكن قبول وجهة النظر بأن الخدمة المدنية للشباب العرب، يشوه هويتهم القومية ويلحق بها الضرر؟
الخدمة المدنية ليست بدعة اسرائيلية. منذ بداية القرن العشرين بدأت فكرة الخدمة المدنية التطوعية تظهر في دول العالم المختلفة، هذه الخدمة في جذورها، هي خدمة شباب وشابات لمجتمعهم واهلهم، في الدولة التي يعيشون فيها، كبديل عن الخدمة العسكرية والقتال.
ونجيء لسؤال هام : هل خدمة الشباب والشابات العرب، المواطنين في دولة اسرائيل، في مؤسسات مجتمعهم وبين ابناء شعبهم، يشكل خطرا على هويتهم القومية؟ وهل التمترس بمواقف الرفض امام كل نافذة تفتح من أجل تغيير ولو ضئيل جدا في واقعنا، يشكل حفاظا على الهوية القومية ؟ ما العلاقة بين الخطر على الهوية القومية وخدمة الشباب والشابات العرب في مدارسنا ومستشفياتنا ومؤسساتنا الأهلية والبلدية داخل مجتمعنا العربي في اسرائيل؟
حسب هذه العقلية، التي ترى الخطر في كل حركة، أو مشروع، أو فكرة.. يصبح الخروج للعمل في المصانع والمدن اليهودية، خطرا على الهوية، ويصبح الأكل من انتاج المصانع اليهودية، خطرا على الهوية القومية، والسفر في وسائل النقل اليهودية، خطرا على الهوية القومية، وربما الجلوس مع اليهود تحت سقف واحد والاحتكاك بهم (بما في ذلك في الكنيست) خطرا رهيبا على الهوية القومية.. ليحفظها الله ويحفظنا من شر واقعنا.. وربما حفاظا على الهوية القومية من الاختلاط، نكررفي فلسطين الخروج من الأندلس؟!
قرار الحكومة حول مشروع الخدمة المدنية يوضح بلغة لا تفسر على وجهين ان الخدمة المدنية تقلل بشكل كبير الفروقات والتوترات بين مجموعات السكان المختلفة عن بعضها البعض، وتجسر على الفوارق الثقافية والسياسية عبر تقوية المجتمع والمواطنين.
هل نحن ضد تقليل الفروقات والتوترات داخل مجتمعنا ؟هل نحن ضد أنفسنا بفهوم ما؟
الا تشكل الخدمة المدنية، بناء على التعريف المذكور، تعميقا للهوية القومية، من حقيقة تطوع الشباب لخدمة مجتمعهم المدني، وابناء شعبهم؟
اليست الخدمة في هذا الأطار تشكل تعميقا للاندماج الهام، وتقوية شعور الانتماء للمجتمع والشعب، وتعميق الهوية القومية المشتركة للمتطوعين مع سائر ابناء شعبهم؟
من هنا كانت رؤيتي، ان الخدمة المدنية ليست فقط جزءا من المطالب التي نناضل لتحقيقها، انما جزء أيضا من موقفنا الاستراتيجي بأننا أقلية قومية لها احتياجاتها الخاصة والمختلفة، الثقافية والتعليمية والاجتماعية.
المساوة هي عملية مبنية على خطوات. ان سياسة الرفض التي تمارسها الأجسام السياسية في الوسط العربي، تلحق الضرر بنضالنا العادل للمساوة الحقيقية، ونقود للضرر بأنفسنا فقط وبمستقبل مجتمعنا وتطوره وتطور واقع حياة جماهيرنا، وبالتقدم نحو الوصول لمساواة نسبية على الأقل.
اليس من واجبنا استعمال عقلنا بشكل صحيح، ورؤية أهمية الخطوات الصغيرة جدا، كخطوات في الاتجاه الصحيح لبناء الثقة والتفاهم في مجالات حياتنا المشتركة، التي لا مناص لنا منها في الواقع الاسرائيلي الذي نشكل نحن العرب في اسرائيل أحد اضلاعه. الا اذا كانت لديكم ” خطط سرية” لم تكشفوها لجماهيركم؟؟
الموقف السياسي السهل جدا، في واقعنا، ان نقول لا وضد ولا نصل الى شيء.
الموقف السياسي الصعب جدا، ان نستعمل عقلنا المستقيم، ونتعالى على آلامنا، وأن نرى الآتي، وأن نكون عاملا مسرعا للتغيير السياسي والاجتماعي بتعامل السلطة مع الأقلية العربية، وهذا سينعكس أيضا على قضيتنا القومية الاساسية بشسكل ايجابي.
منذ وثيقة “التصور المستقبلي” الاشكالية، التي اعدتها لجنة المتابعة العربية العليا للعرب في اسرائيل، ونحن نتحرك الى الخلف.
حتى متى ؟ الى أين نريد أن نصل؟ هل بمواقف الرفض المغلقة سننجح باحداث اتجاهات جديدة في سياسات المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة بعلاقتها مع العرب في اسرائيل؟
صحيح تماما، نضالنا ليس سهلا ومعقدا. وامامنا طريقان : اما ان نعمل على أن نكون مشاركين وغير معزولين، أو أن نبقى معزولين ونضيف الوقود للهيب العنصرية في الجانبين.
ادعو القيادات العربية، بدل الرفض التلقائي، ان تفكر بعقلانية وواقعية، بدل المعارضة الأوتوماتيكية ان تتصرف بمسؤولية وطنية واجتماعية، وان تستغل الخدمة المدنية التطوعية، وأن تشارك في اقرار أهداف هذه الخدمة وتوزيعها على المرافق الأجتماعية والمدنية للعرب في اسرئيل.
من الخطأ ان نغرق في شعارات سياسية بعيدة عن الواقع، ولم تعد تجد أذنا صاغية لدى أكثرية الجماهير العربية التي ملتها.
nabiloudeh@gmail.com
* كاتب واعلامي – الناصرة