تتذكر مصر كلها بحب وتقدير سيناء مرتين في العام: مرة في السادس من أكتوبر في عيد المعركة المجيدة من أجل تخليص سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، ومرة في الخامس والعشرين من إبريل الذي أصبح عيد تحريرها الكامل. ومنذ المعركة قبل خمسة وثلاثين عاما، وبالتأكيد بعد التحرير منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، فإن جزءا أساسيا من الذكرى يكون مكرسا للحديث عن ضرورة تعمير شبه الجزيرة المقدسة لسببين: الأول منهما استراتيجي لملء الفراغ الذي قد يستغله الأعداء الذين قاموا بغزوها مرتين في1956 و1967. والثاني تنموي؛ لأن سيناء فيها من الخيرات والكنوز ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على خاطر بشر، بما يكفي لغني مصر كلها، وتخفيف الأعباء عن الوادي الذي بات مثقلا بالسكان والفقراء.
وصار ذلك الحديث جزءا من الاحتفال المزدوج سنويا، وفي أحيان غير قليلة لم يكن القول مرسلا بل صار تلالا من البحوث والتقارير العلمية التي قامت بها مؤسسات قومية، ومراكز وطنية، وجامعات أهلية وحكومية. ولم يكن كل ذلك أحاديث جافة، وإنما كان فيها قدر غير قليل من الحب عبرت عنه أغان وأشعار، وعرضه التليفزيون في برامج سياحية، وبشكل عام كانت سيناء أشبه بالابن الذي ضاع من أهله ذات مرة ثم استعادوه فبات طقسا من الطقوس أن يربتوا عليه بالحنان والعاطفة للتأكد أنه لايزال باقيا في الجوار والعائلة.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، وقبل أوان الاحتفالات السنوية في إبريل قفزت سيناء مرة أخرى إلى المقدمة السياسية والفكرية في مصر بعد أن استيقظ المصريون ذات صباح في الثالث والعشرين من يناير الماضي لكي يجدوا ثلاثة أرباع مليون من الضيوف الفلسطينيين وقد حلوا في سيناء نتيجة الضغوط المعروفة من خارج قطاع غزة ومن داخله أيضا. ومرة أخرى ظهر ما كان معروفا منذ وقت طويل حول الفراغ السكاني الكبير في شبه الجزيرة، ودار على الألسنة وكتب في الصحف سيناريوهات مرعبة لمخططات صهيونية وإمبريالية ونتائج طبيعية لصراع عربي ـ إسرائيلي ما له آخر تقود كلها إلى ضياع سيناء مرة أخرى لا قدر الله. وبالصدفة البحتة، فقد كانت لجنة الإنتاج الصناعي والطاقة في مجلس الشورى بقيادة الصناعي الكبير محمد فريد خميس قد أعدت تقريرا مهما بعنوان التنمية الصناعية بسيناء ومحاور السياسة المنفذة لها، ومن ثم، وربما بإلحاح الأحداث التي جرت، تم عرضه ومناقشته خلال الأسبوع الماضي، وما بين التقرير والمناقشة فقد ظهر التراث الهائل من الأفكار والمشروعات التي طرحت خلال العقود الماضية.
لكن السؤال الملح الذي كان مسكوتا عنه في التقرير ومنطوقا به في المناقشة فقد كان لماذا لم يوضع كل ذلك موضع التطبيق، ولماذا بقيت سيناء على فراغها؟!
والحقيقة أنه لم يوجد خلاف إطلاقا بين كل التقارير التي تعرضت لسيناء حول أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية حتى عند الحديث عن عبقرية المكان التي قال بها جمال حمدان عن مصر كلها فإن سيناء وحدها تكفي للوصف، وبدون الدخول في كثير من التفاصيل فإن شبه الجزيرة التي تبلغ مساحتها61 ألف كيلومتر مربع يمكنها عند الاستغلال الإنساني الرشيد أن تنتج ثلاث دول مثل إسرائيل، ودولتين مثل هولندا، و12 دولة مثل البحرين، وعشر دول مثل سنغافورة، وأكثر من كل ذلك قدر دبي، بل إن فيها ما يفوق كل هذه الدول والإمارات العامرة من ثروات الاتصال البحري ومنافذ التجارة، وتنوع المناخ، والثروات الطبيعية، ومصادر الطاقة.
لماذا إذن لم يتم استغلال كل ذلك برغم المناسبات السنوية، وبلغ ما تم تنفيذه من خطط ما لا يزيد عن21%، ومازلنا نضيف تقارير أخرى تعطينا آمالا أكبر، ومعرفة أفضل، لكنها في النهاية تضاف إلى ما سبقها في انتظار مناسبة أخرى؟ والاجتهاد في الإجابة عن السؤال كثيرا ما ركز على مجموعة من الحقائق الأساسية يقع في مقدمتها ضعف البنية الأساسية والمرافق الضرورية التي تصل سيناء بالوادي، وتوفر القاعدة للانتقال السكاني، والبناء الصناعي. ولم تكن هناك صدفة أن تقرير مجلس الشورى الأخير، كما كان الحال في كل التقارير السابقة، أعطى أهمية خاصة للظروف الأمنية الإقليمية كسبب في تأخر التنمية في سيناء، وطالب في الوقت نفسه الدولة، أو الحكومة في الواقع، بتطوير البنية الأساسية، والمزيد من المشروعات العملاقة، والاستفادة الأكبر من مشروع ترعة السلام.
لكن ربما كان ذلك هو جوهر مشكلة سيناء على وجه التحديد حيث باتت قضية تنميتها قضية حكومية خالصة، حتى إن بعضا غير قليل من أعضاء مجلس الشورى، ومن قبلهم أعضاء في مجالس أخرى اقترحوا وزارة أخرى لتنمية سيناء على غرار وزارة السد العالي التي تم إنشاؤها خلال الستينيات، أو مجلسا أعلى يرأسه رئيس الجمهورية للإشراف على المشروع الكبير. وبرغم أن كل ذلك يعكس الأهمية والإلحاح الذي تمثله سيناء وتنميتها إلا أن السياسات المقترحة لا تلبث أن تضع القضية موضع منافسة قاسية مع قضايا أخرى لا تقل إلحاحا على الحكومة هي الأخرى، وهي التي عليها أن تتعامل مع كل المناطق من خلال موارد محدودة ويبتلع معظمها الأجور والدعم. أما ما تبقي من موارد فإن الحكومة لا تستطيع أن تتجاهل مصر العليا( الصعيد)، وهي المنطقة التي حرمت من التنمية لعقود طويلة وكان تخلفها واحدا من الأسباب التي قادت إلى الإرهاب وتهديد الأمن القومي.
كما أن الحكومة لا تستطيع أن تتجاهل مصر السفلى( الدلتا وشمال مصر) حيث يوجد أربعون مليونا من المصريين لهم من المطالب المباشرة ما يفوق بالتأكيد المطالب المباشرة أيضا لما لا يزيد عن نصف مليون نسمة من أهل سيناء، ولا تستطيع الحكومة في النهاية أن تتجاوز القاهرة وحدها ليس فقط لأنها العاصمة، ولكن لأن بها وحدها ربع سكان مصر، ومن خلالها تتحرك آلة الدولة، وهي نقطة الوصل والربط بين شمال مصر وجنوبها، ونقطة الارتكاز التي عندها تتفرع الشجرة المصرية شرقا نحو سيناء، وغربا حتى الوادي الجديد.
هذه المنافسة على الموارد المحدودة هي أصل المشكلة في الحجم الصغير من الإنجاز الذي جرى حتى الآن في سيناء، وهي قضية لن تحلها حكومة، ولا وزارة جديدة، ولا مجلس أعلى قومي أو وطني عليه أن ينافس مجالس أخرى كثيرة على وقت القادة والرؤساء. ولن يحل المعضلة اكتشاف آخر لمعجزات سيناء الاقتصادية، ولا قائمة جديدة من المشروعات الأساسية، فكل ذلك على أهميته القصوى وجدارته الذاتية، إلا أنه لا يوفر في حد ذاته الموارد الضرورية لتجهيز سيناء بالبنية الأساسية، ولا الدوافع المطلوبة لعملية الانتقال السكاني. وربما كانت سيناء نفسها هي التي تقدم لنا الدرس الأساسي في هذه القضية حينما استند ما حدث فيها من تعمير حتى الآن إلى جهود أهل سيناء نفسها، وإلى القطاع الخاص، سواء في شمال شبه الجزيرة أو جنوبها.
وببساطة فإن قضية تعمير سيناء لا تختلف كثيرا عن قضية تعمير مصر كلها، فالحكومة ذات الموارد المحدودة التي لا يريد أحد زيادتها، بل يريد الضغط عليها لإعانة الأغنياء ودعم الفقراء، لا تزيد قدراتها الاستثمارية على مشروعات محدودة مثل مديرية التحرير في غرب الدلتا، أو الصالحية في شرقها، لا تلبث أن تفقد الاهتمام ولا يبقى منها بعد قليل إلا التجربة. وسواء كان الأمر في استصلاح الأراضي أو الصناعة أو حتى مرافق البنية الأساسية فإن ما تستطيعه الحكومة لا يزيد كثيرا عما حدث بالفعل، ووفق معدلات لاتتناسب مع حجم التحديات، وفي الحقيقة الفرص التي تتيحها سيناء. ومن هنا فإنه لا يوجد مناص أو بديل لإطلاق طاقات القطاع الخاص والرأسمالية المصرية التي أوجدت معجزة اقتصادية في شرم الشيخ جعلتها تستوعب و حدها ربع السياحة القادمة إلى مصر.
مثل ذلك لن يحدث على نطاق واسع ويغطي سيناء كلها ما لم تتوفر شروط مهمة يقع في مقدمتها أن تتوازن اعتبارات التنمية في سيناء مع الاعتبارات الأمنية، بل إن يصبح الأمن هو التنمية. ولن تعدم المواهب المصرية العسكرية والمدنية الطرق في التوفيق بين المفهومين بحيث تصبح سيناء مثلها مثل بقية مصر من حيث الدفاع والبناء معا. والأمر الثاني، وهو مرتبط بالأمر الأول، أن أهل سيناء هم المقدمة الطبيعية للأمن والتنمية، كما هو الحال مع بقية المصريين في مواطنهم وأقاليمهم المختلفة، حيث تتم المراعاة للبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والأمر الثالث، وهو كذلك مرتبط بالأمرين الأول والثاني، هو، الملكية فلا توطين للبشر والصناعة والزراعة دون ملكية، لأنها وحدها التي تشكل الحافز للاستقرار وتكوين العائلات.
ومن الطبيعي بالنسبة لظروف سيناء التاريخية أن تقيد الملكية فيها للأجانب وغير المصريين في العموم، لكن الطبيعي هو أن تطلق للمصريين القادرين على زراعتها وصناعتها وجعلها حاجزا أمام الأعداء من ناحية، وساحة وافرة بالخير لاستقبال الأصدقاء من ناحية أخرى.
لقد كان تقرير لجنة الصناعة والطاقة في مجلس الشورى عن تنمية سيناء متميزا بما أضافه لكل ما سبقه، وآن الأوان لتقارير أخرى عن سيناء تضاف إلى ما سبق تكون نقطة البداية فيها الاجتهاد في الأمور الثلاثة: كيف نحقق التوازن بين التنمية والأمن، وكيف نطلق الطاقات الخلاقة لأهل سيناء لتنمية سيناء، وكيف نضع القواعد للملكية بحيث تخص المصريين وحدهم دون الإخلال بقواعد حرية السوق؟ تلك هي المسألة!!