قفز هذا السئوال إلى ذهنى بسبب التناقض الحاد بين موقفين لأثنين من أساقفة الكنيسة، فى مجال الفكر ومواجهة الإختلاف، وكلاهما معروف لدى الإعلام، الأول لكونه المتحدث الإعلامى للكنيسة والثانى الممثل الشرعي لجناح الصقور، والتناقض يبدأ بينهما فى منهجية مواجهة الأزمات، فبينما يملك الأول القدرة على الحوار المباشر وتحليل عناصر الأزمة والسعي ـ فى حدود المساحة الممنوحة للحركة ـ للتواصل وايجاد أرضية مشتركة لحوار موضوعي، يعتمد الثاني منهج الإقصاء وتوظيف السلطات الممنوحة له ( شفاهة ) فى القضاء على من يعترض طريقه، والمواجهة عنده تحتمي خلف تفعيل آليات العصف بمن يحسبهم خصوماً، فلم يحدث يوماً أن أقام حواراً مباشراً ومعلناً مع من عصف بهم بالرغم من أن الخلاف معهم كان فكرياً، أو هكذا يعلن.
فقبل أيام أجرى الأستاذ محمد الباز حواراً صحفياً مع الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة تناول العديد من القضايا الكنسية، وكشف عن مكامن الخلل فى الإدارة الكنسية، لعل أولها إعلانه أنه ليس المتحدث الرسمى للكنيسة، فلا يوجد موقعاً بهذا المسمى فيها، وأن هذا الصفة الصقت به إعلامياً مصادفة، لنكتشف السر فى عشوائية التصريحات التى تنسب للكنيسة، فهي حق مشاع لكل رجال الإكليروس، بغير ضوابط أو توثيق أو إسناد رسمى، الأمر الذى يعطي فرصة للتعريض بالكنيسة ودخولها فى أزمات متتالية كتبعات لعشوائية التصريحات.
وتعرض نيافته للعلاقة مع التيار العلماني، لنكتشف أن التواصل مع جماعة العلمانيين جاء تلبية لسعي الجماعة للتواصل والإستجابة جاءت بمبادرة شخصية من الأنبا موسى والأنبا مرقص، لكنها لا تعبر عن موقف رسمي للكنيسة، والتي عبر رموزها مازالت تسفه تحرك العلمانيين بل وتنكره من الأساس، لنضع ايدينا على خلل أخر فى المنظومة ذاتها، فبينما يقوم التعليم الأساسي فيها على كون العلمانيين مكون أساسي فى الكنيسة ولا تستقيم ممارساتها ولا تتم إلا بوجودهم، تستنكر على أرض الواقع أي تفاعل مع فصيل من العلمانيين له رؤية ويملك القدرة على الحركة الإيجابية وعنده أجندة محددة المحاور بل يحسبهم البعض خطاة ومقاومين للكنيسة.
ويكشف الحوار مرة ثالثة عن الخلط الواضح بين الشخصي والعام، حين يستنكر ـ رغم انفتاحه ـ الطرح العلماني لمقترح تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك ويعتبره ” عيباً ” ويرى أن هذا يجرح مشاعر البابا بينما قداسة البابا نفسه كان مرجعيتنا فى هذا المقترح وفق كتاباته العديدة والموثقة عبر أكثر من نصف قرن والتى توجها بتصريحه بعد عودته سالماً من رحلة العلاج الأخيرة بأنه مع تعديل اللائحة على أن تأتى متفقة مع المبادئ الكنسية وقوانينها، وهو عين ما فعلناه فى ذلك المقترح.
ويبدو أن نيافته بمنأى عن كيفية إدارة القصر البابوى، فمقابلة قداسة البابا لها معايير يحكمها طاقم سكرتاريته تحول دون التواصل الحقيقى معه، ولعل نيافته يذكر أننى طلبت إليه بعد مبادرته الكريمة بالحوار معنا أن يحدد لنا موعدا للقاء قداسة البابا لتقديم مجمل أعمال وأوراق وتوصيات المؤتمر العلماني ـ الأول والثاني ـ فكانت إجابته أن هذا يتجاوز صلاحياته وأحالنا إلى طاقم سكرتارية البابا، الذى أوصد الأبواب أمامنا لكننا استطعنا إختراق الحواجز فأرسلنا تلك الأوراق إلى قداسة البابا من خلال الأنبا موسى أسقف الشباب، وقد نجح فى توصيلها يداً بيد.
وفى كل الأحوال فقد أكد هذا الحوار صحة ما توصلنا إليه وأعلناه عبر وثائق ورشة العمل الأخيرة ـ ابريل 2007 ـ عن حاجة الكنيسة لتحديث آليات ادارتها باستحداث نظام الدوائر المتخصصة ـ التعليم والإعلام والتشريع والطقوس والعمارة والعلاقات مع الأخر وكنائس المهجر والرعاية والديوان البطريركي ـ كخطوة ضرورية للتحول من النظام الفردى فى قيادة الكنيسة إلى النظام الجماعي والمؤسسي، وهو ما درجت عليه الكنيسة فى عصور الإستنارة، وما اتخذته بعض الكنائس لتثبيت وتأكيد واقعها أمام متغيرات العصر الجارفة وهذه الدوائر ليست أجهزة إستشارية بل هي مكون أساسي فى منظومة إتخاذ القرار.
وتتضح موضوعية الطرح العلماني عندما نقترب من الأب الأسقف الثانى، صاحب المناقضة مع المنهج الذى طرحناه ومثله الأنبا مرقس، فهو يمثل أعلى نقطة فى منظومة التوحد بين الشخص والكيان، بعيداً عن المنظور الصوفي، فما يراه هو عينه ما تراه الكنيسة، ولا يتورع عن اتهام المختلفين معه بالهرطقة ومخالفة الكنيسة، حتى لو كان الإختلاف مشروعاً وفى إطار البحث والدراسة والجدل العلمي وحتى لو كانت مرجعياته تعاليم الآباء والمجامع المسكونية الكبرى، فعلها مع الأنبا غريغوريوس وفعلها مع الأب متى المسكين وفعلها مع العالم اللاهوتى الدكتور جورج حبيب بباوى والقائمة ممتدة، لكنه لا يقدر على المواجهة العلمية المباشرة، وقد طلب منه الراحل الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى وعميد معهد الدراسات القبطية العالى، فى خطاب متداول بين المثقفين الأقباط، المواجهة العلنية وكذلك فعل د. بباوى، لكنه لم يستجب فهو يجيد التحصن وراء الصلاحيات المطلقة والثقة التى له عند قداسة البابا المحارب الذى انهكته السنون والمعارك فأحال له القضايا الملتهبة ووضع فى يده مقدرات الكنيسة.
فقد خرج علينا بمؤتمره السنوى “لتشتيت العقيدة” فى واحدة من المحافظات القريبة للعاصمة ليعيد انتاج الصراع الدون كيشوتي مع د. بباوى بشكل أحادي، بعد أن إختار شباب المؤتمر بعناية فائقة على طريقة الحشد الفاشي، وأدار المؤتمر فى عشوائية يكشفها جدول المؤتمر غير المحدد المعالم ولا التوقيتات اليومية، على طريقة ليأتي المتحدث وقتما شاء وليقل ما يشاء، وكأن القضية الحياتية التى تؤرق الشباب أطروحات د. بباوى بينما القضايا الأساسية التى تبني الإيمان غائبة بل ومستبعدة، وكأننا نعيش أجواء عصور محاكم التفتيش فى عصر التنوير والمفضوحة على شبكة الإنترنت، ويضحك العالم من حولنا على غفلتنا، ياسيدى الأسقف العالم القاهر كفى تمزيقاً لجسد المسيح فى أجواء متربصة ومحتقنة، قبل أن يأتي التاريخ بحكمه القاسي بعد أن تصبح أثراً بعد عين، ودعنا نواجه أزمتنا بشكل موضوعي فهل تُقدِم على الدعوة لمؤتمر علني ومفتوح تواجه فيه ـ بعيدا عن سطوة الصلاحيات ـ من يختلفون معك ولا يختلفون مع كنيسة الآباء؟، وهل تنحاز مرة إلى القواعد العلمية المجردة بعيداً عن صخب الإعلام وتجنيد الأقلام على طريقة كتبة العصور الشمولية؟ إنا لمنتظرون.
بقى أن نبحث عن إجابة صريحة على السؤال: الكنيسة .. فى أى عصر تعيش؟!
Kamal_zakher@hotmail.com
الكنيسة.. فى أي عصر تعيش؟!
توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت السماوات
الكنيسة.. فى أي عصر تعيش؟!
الكنيسة تعيش فى عصر يعمل فيه الرب بوسطة روحه القدوس ومن خلال اباء اجلاء كرسوا حياتهم للعمل الروحى