أول مرة التقطت اذناي اسم الصديق والمحاور والمفكر والمناضل والأكاديمي الإنسان الدكتور احمد الربعي، الذي رحل عن دنيانا قبل الأوان، كان في لبنان يوم كان الأخير بمثابة قلب الدنيا ورئتها ووردتها الفواحة، أي في أوائل السبعينات من القرن الماضي حينما كنا نخطو خطواتنا الجامعية الأولى.
وقتها كانت الموضة السائدة هي الانتماء إلى حركات اليسار الثورية، أو على الأقل التظاهر بذلك عبر حفظ واستخدام بعض المفردات الثورية في الحديث أو ترديد بعض النظريات الماركسية خلال النقاش أو ارتداء الملابس الرثة القذرة على الطريقة الفوضوية البوهيمية أو تدخين السجائر التي يدخنها زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي الأسبق “جورج مارشيه” وعمال مناجم الفحم. أما من كان يتصرف أو يعيش خلاف ذلك، أي يستمتع بمباهج الحياة، ولا يتعاطى الشأن السياسي ويهتم بأناقته ومظهره فكان كمن حكم على نفسه بالعزلة والازدراء والمقاطعة المعطوفة على الاتهامات الجاهزة بالعمالة والخيانة و”البرجوازية العفنة”. ولأني لم أكن أحبذ يوما العزلة، فقد داومت على استقطاع بعض الوقت مساء كل يوم لتمضيته في الفرع البيروتي للاتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي كان يشغل وقتذاك شقة فسيحة في مبنى متهالك في زقاق ضيق مظلم يدعى شارع المكحول بمنطقة رأس بيروت.
هناك في ذلك الزقاق الذي حولته الحرب اللبنانية لاحقا إلى مركز لأندية الليل وحاناتها، كان يجتمع طلبة وطالبات البحرين المبتعثين كل مساء، لتبادل الهموم والأخبار، وأيضا لحقن أنفسهم بجرعات من الايديولوجيا الثورية والنظريات اليسارية وسط شعارات وملصقات خرافية وأخبار مشكوك في صحتها تتحدث عن قرب اكتساح المد الثوري اليساري المنطلق من ضفار لبلدان الخليج وإسقاط أنظمتها “الرجعية” – حمدا لله أن ذلك المد انحسر، وباء بالانكسار والخسران، وإلا كنا اليوم في صورة أسوأ مما كانت عليه “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.
كنت أتابع بدقة ما يقال وما يتردد في تلك الجلسات الطلابية التي كان احد معالمها هيمنة أصحاب الفكر القومي اليساري الذي كان يمثله ما سمي بالجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، وذلك على أمل سماع أخبار عن صديق عماني شاب من أسرة ثرية معروفة، كان قد ابتعث حينها للدراسة والتخصص في لبنان، فإذا به يقع كالكثيرين غيره من خليجيي تلك الحقبة في أيدي من تمكنوا من غسل دماغه ودفعه لتنفيذ عمليات حربية عبثية في بلده تحت شعار تخليص الخليج من “الأنظمة الرجعية والنفوذ الإمبريالي”. طال انتظاري دون أن اسمع شيئا عن ذلك الصديق طيب المعشر الذي تبين فيما بعد انه أسر من قبل الجيش العماني وصدر حكم بإعدامه لقيامه بالعصيان ضد الدولة ولتسببه في مقتل عدد من الجنود العمانيين، لكني سمعت بدلا من ذلك بعملية جريئة ضد قلعة الجلالي الحصينة، قادها المناضل “طلال”، الذي تبين لي بعد الاستفسار انه الكويتي احمد الربعي.
مرت بعد ذلك سنوات طويلة، غزا الشيب فيها مفارقنا وترهلت فيه أجسادنا، وانحسرت خلالها مراهقتنا السياسية، وتعمقت أثناءها مداركنا، وجلنا على هوامشها بحارا وأوطانا في أقاصي الدنيا، وعاد فيها إلى الوطن من كان ذات يوما ثوريا معارضا ليشغل أعلى المناصب الرسمية في الدولة ناسيا أو متناسيا خطابه الثوري العنيف وشعاراته النارية، لكن اسم احمد الربعي ظل ملتصقا بالذهن لا يبارحه، بل يستقصي أخباره وصولاته وجولاته، أكاديميا يدرس الفلسفة جامعة الكويت، ونائبا يدافع عن حقوق المواطن، ووزيرا ينشر التنوير والتسامح ويدعو إلى تعليم عصري متطور، وكاتبا يحلل الأحداث بالمنطق والموضوعية في كبريات الصحف العربية، ومحاورا لايشق له غبار في الفضائيات والندوات الفكرية.
أما أول لقاء مع أبا قتيبة وجها لوجه، فقد قدر الله أن يكون في البحرين، في بدايات عهد الإصلاح والانفتاح الذي دشنه جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، والذي لولاه لربما كان من الصعب انعقاد الندوة الذي جاء من اجلها الربعي إلى البحرين، وهي الندوة الثالثة والعشرين لمنتدى التنمية الخليجي التي انعقدت ما بين 17-18 يناير 2002 في فندق الخليج بالمنامة تحت عنوان”الخليج والمحيط الآسيوي: الفرص والتحديات”، والتي كان لي شرف الإعداد له. وبقدر ما كنت سعيدا بهذا اللقاء الذي جمعني بالربعي بعد أكثر من ثلاثة عقود على التعرف إليه اسما ثائرا في جبال عمان، كان هو الآخر سعيدا، أو هكذا شعرت، خاصة حينما احتضنني بابتسامة كبيرة ترافقها عبارة “أهلا بمن يثقفنا أسبوعيا عن آسيا”، في إشارة إلى مقالاتي الآسيوية الأسبوعية حول الشأن الآسيوي. وفي هذا بدا الربعي متواضعا تواضع العلماء! فمن أنا حتى اثقف قامة كبيرة كقامته، ثم أن معرفة الشأن الآسيوي باتت في زمننا الراهن لا يكلف المرء سوى نقرة على جهاز الكومبيوتر، بمعنى أنها متيسرة بدون كتابات العبد لله. لكن هكذا كان الربعي يحرص على احترام ما يقوم به الآخرون من جهد معرفي، ويقدرهم حق قدرهم.
أيضا في ذلك اللقاء الأول، حدث ما عكس تمسك الرجل بخصلة أخرى، هي الصراحة. هذه الخصلة التي لئن عانى منها الربعي كثيرا في مجتمعات عربية لا تريد أن تسمع إلا من يمدحها أو ما يطربها، فإنها عند آخرين عدت بمثابة توجيه وإرشاد وتقييم وقوبلت بالاحترام والثناء.
ففي أثناء استراحة الشاي التي تلت تقديمي لورقتي البحثية عن علاقات الخليج بقطبي شبه القارة الهندية (الهند وباكستان)، لحقني الربعي مثنيا على الورقة وما ورد فيها من معلومات وإحصاءات، لكنه استدرك قائلا: “كان بمقدورك يا أبا تيمور أن تثري الورقة أكثر، لو انك ضمنتها المعلومات الكثيرة التي أوردتها في سياق ردودك على تعقيبات واستفسارات المشاركين والحضور”.
هكذا كان الراحل، لا يتردد في التصريح بما يشعر انه صواب وحق، وفي انتقاد ما يراه عكس ذلك دون نفاق أو مجاملة أو تسفيه.
وطالما أني تحدثت في الأسطر السابقة عن أول لقاء جمعني بالراحل الكبير، فاني اختتم بالحديث عن اللقاء الأخير الذي شاءت الصدف أن تكون في أبو ظبي، وبمناسبة اشتراكنا مع آخرين في حفل توزيع جوائز المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في دورتها الأولى في العام الماضي.
في هذا اللقاء وجدت الربعي متعبا ومنهكا من تداعيات المرض الذي كان قد انتشر في جسده، لكنه رغم ذلك كان حاضرا بقوة بضحكاته وقفشاته وابتساماته وروحه الصافية، ناهيك عن نقاشاته المطولة مع من لا ينفع معهم نقاشا أو منطقا من ديناصورات الفكر القومي وأساطين الإيديولوجيات المتخشبة الأخرى التي لا ترى في الكون إلا نفسها، ولا زالت إلى اليوم تدافع عن النظريات والشخوص التي جلبت الهزيمة تلو الهزيمة والتخلف تلو التخلف وأخذت مجتمعاتنا معها إلى الدرك الأسفل.
ولأني أشفقت عليه من تلك المناقشات التي كان هو على الدوام سيدها بمنطقه السديد وحججه الدامغة وأسلوبه العذب، فقد ارتأيت أن اظهر أمامه، وأنا متأكد بأنه سيترك ديناصورات الجدل العقيم ليلحق بي. وهذا ما حدث فعلا. حيث اتخذنا مقاعد لنا في إحدى الزوايا للدردشة غير الجالبة للصداع، عرجنا فيها على ذكريات الزمن الطلابي الجميل داخل الوطن وخارجه. وكان ضمن ما تحدث عنه لقاؤه الأول بجلالة السلطان قابوس بن سعيد كوزير للتربية والتعليم في الكويت، وكيف انه كان مضطربا وهو يقابل الرجل الذي حمل ضده السلاح ذات يوم لإسقاط حكمه، وكيف أن الثقة حلت محل الاضطراب، حينما ” تكرم السلطان فأحاطني – دون زملائي وزراء التعليم الآخرين في دول مجلس التعاون” برعاية خاصة وترحيب شديد، وكأنه يريد أن يقول لي: انس ما فات”. أثناء تلك الدردشة العفوية الجميلة، اتفقت مع أبا قتيبة أن نكثف من التواصل، وان عبر البريد الالكتروني، الذي طال انتظاري دون أن يصلني عنوانه بسبب اشتداد المرض الخبيث على صاحبه، مما اضطرني إلى استخدم عناوين أصدقائنا المشتركين في الكويت (احمد الديين، وشملان العيسى، واحمد بشارة، واحمد البغدادي، وعلي الطراح) للسؤال عنه.
رحمك الله يا أبا قتيبة، ونامت روحك الطاهره ونفسك الأبية في سلام، لقد رحلت عنا والقربة التي حاولت رتقها دون نجاح تزداد ثقوبا، والعقول التي أردت تجريدها من الصدأ والخرافة تزداد حماقة وتفاهة، فكما لو أنك ظهرت في غير زمانك ومكانك الطبيعي.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي من البحرين
عن أول وآخر لقاء مع المفكر الإنسان احمد الربعيديانات العصر -خالص جلبي أطلق اليهودي كارل ماركس، على الديانة في القرن التاسع عشر صفة أفيون الشعوب، وتحول أتباعه مع الوقت إلى عبيد لديانته إذ صاروا من أشد المتعصبين؛ فقتلوا في قرن واحد مائتي مليون من الأنام، كما جاء ذلك في “الكتاب الأسود” بقلم الشيوعي المخضرم “ستيفان كورتوا”. وذبح الزعيم الصيني ماوتسي دونغ خصومه، وبعضهم كانوا شيوعيين بدعوى التطهير العقائدي، ومات في المسغبة والثورة الثقافية ثلاثين مليون شخص، كما كتبت ذلك الشيوعية المرتدة “تشانغ يونغ” في كتابيها “البجعات البرية” و”ماو”، وأصبح قرآنهم كتاب “رأس المال”، وربهم كارل، ونبيهم لينين، وبولس الرسول ستالين،… قراءة المزيد ..
عن أول وآخر لقاء مع المفكر الإنسان احمد الربعي
رائع يرثي رائع وقامة شامخة تندب قمة شامخة ,ويلي!الفحول يتناقصون والصغار يتكاثرون,والخلف على الله.