تعدّ حياة طه حسين (1889- 1983م) بكلِّ ما فيها من قوة إرادة، وتصميم هادف؛ نمطاً من حياة العظماء الذين انتصروا على معوّقات تقعد بالشجاع المقتحم، وتدفع اليأس إلى أشدِّ الناس صلابة.
فقد استطاع هذا الفتى الفقير الضرير الذي وُلد في عزبة (الكيلو)، وهي قرية في صعيد مصر، على مقربة من مدينة مغاغة الواقعة على الجانب الأيسر للنيل لأسرة متواضعة الحال كثيرة الأبناء، أن يفرض نفسه على الناس بقوة الرأي وغزارة العلم، والتفوّق الكاسح. ومثل غيره من العصاميين، لم يتنكَّر لبساطة نشأته الأولى، وكانت هذه البساطة المادة الخام التي نسج منها قصصه ورواياته وترجمته الذاتية (1).
وعلى الرغم من فقد بصره في سن مبكرة (2) الأمر الذي وقف حائلاً بينه وبين الناس، بل وبينه وبين الحياة العادية التي يحياها الذين لم يعرفوا هذا الابتلاء، فإن هذا الشاب الزَّري الهيئة والذي كان لا يأكل إلاّ العسل شهوراً متتالية – كما وصف نفسه لابنته بعد ذلك – تمكَّن من أن يجعل النَّقص قدرة، والعَجْز باباً إلى القوة، بحيث تفوَّق على الأقران والنّظراء جميعاً مبصرين وغير مبصرين، بل استطاع أن يكون شخصية عالمية عبرت حدود العالم العربي، لتلقى الإعجاب والحب في كل بلد تُحترم فيه المعرفة والثقافة والفكر.
والملاحظة أن روّاد النهضة العربية الحديثة في مجالات الفكر والعلم والأدب كانوا من خرِّيجي الجامع الأزهر الذين اتَّصلوا بأسباب الثقافة الأوروبية، فلم يكن الأزهر قديماً يُخرِّج إلاّ قضاة الشَّرع، وخطباء المساجد، ومنذ رفاعة الطهطاوي (1801- 1873م) أبرز وجوه النهضة العربية الحديثة، تتوالى أسماء النخبة التي ساهمت في بناء هذه النهضة أمثال: علي مبارك (1823- 1893م) ومحمد عبده (1849- 1905م) وعلي عبد الرازق (1888- 1966م) وطه حسين وغيرهم.
ويتّضح أن الذين اقتصروا على الثقافة العربية فحسب في مجال الفكر والأدب كانوا أدباء مرحليين، مثل مصطفى لطفي المنفلوطي (1876- 1924م) ومصطفى صادق الرافعي (1881- 1937م)، فلا أحد يرجع إليهما في هذه الأيام قارئاً متذوقاً إلاّ إذا كان دارساً أكاديمياً. وليس هناك من شك في أن المنفلوطي والرافعي قد مثَّلاَ عصرهما وتَرجَما عن بيئتهما، إلاّ أن المَيْل عنهما يرجع إلى انهما من كتَّاب “الانْشَاء” في المقام الأول، ولسنا ندري هل كان طه حسين يَخْتَطّ نَفْسَ الدَّرب إذا كان علمه اقتصر على ما تلقَّاه في الأزهر؟
من الواضح أن ريادة طه حسين ترجع في المقام الأول إلى دراسته في أوروبا، وهو نفس الشيء الذي حدث بالنسبة إلى رفاعة الطهطاوي. ولعل أُولى الشواهد ما يحكيه طه حسين نفسه عند مقارنته بين ما كان يسمعه من الأساتذة الأجانب – المستشرقين آنذاك – من دروس الأدب ونقده، وبين ما كان يسمعه من شيوخ الأزهر، فقد اكتشف الهُوَّة العميقة التي تفصل بين هؤلاء وهؤلاء، ولعل هذه المقارنة التي فرضت نفسها عليه هي التي فتحت أمامه منافذ الاقبال على الآداب الغربية لأنه – كما يقول – وجد فيها غذاء العقل والروح.
وإذا كانت هذه المقارنة قد دفعته إلى مواقف التحدِّي والثَّورة على كل عتيق “سَلَفي” لا ينفع الحياة الحديثة السريعة التطوّر، فإن التيار العام الذي وجَّه الحياة في مصر، قد ساعده على ذلك. فقد بَدَا واضحاً منذ تدشين النضال الوطني ضد الحملة الفرنسية سنة 1798م وحتى ثورة عام 1919م، ان طريق الخلاص ذو شقّين؛ التنظيم والعلم. فالتنظيم يضمن توافر القيادة الواعية، والعلم يضمن وضوح الرؤية لدى الشعب وقيادته، ولذلك احتل الكفاح في سبيل العلم موقعاً هاماً في حركة التطوّر والتقدم الحضاري. فليس غريباً إذن إذا لاحظنا ان في الوقت الذي تفجَّرت فيه الثورة العُرابية سنة 1882م، وهي الحركة الشعبية الأصيلة التي حاولت مصر فيها ان تستيقظ من سبات “القرون الوسطى” لتأخذ مكانها الجديد، أن يكون الشاعر الذي كان أحد أقطابها وهو محمود سامي البارودي (1840- 1904م) الرائد المجدِّد في الشعر، وان عبد الله النديم (1845- 1896م) أحد أقطابها أيضاً رائداً من روّاد حركة التجديد في الخطابة والنثر، وكان الشيخ محمد عبده أحد روّادها في فترتها الأولى داعية من دُعاة التجديد والإصلاح في الفكر الديني بعد ذلك، وكان أحمد لطفي السيد (1872- 1963م) مترجم كتاب (السياسة) و(الأخلاق) لارسطو، وصاحب جريدة (الجريدة) وأول رئيس للجامعة المصرية – بعد أن أصبحت حكومية – سنة 1925 أحد الداعين والمساهمين في حركة اليقظة العامة التي مسَّت وجوه الحياة المصرية. ويأتي طه حسين تلميذ لطفي السيد في (الجريدة) وفي الجامعة وفي حزب الأمة ليكمل الشَّوط رائداً في طريق النهضة والتقدّم.
لقد كان طه حسين ابن عصره، وهو عصر كانت مصر فيه ميداناً لتيارات فكرية وسياسية مختلفة وهو عصر البحث عن الذات، وتحقيق هذه الذات بعد نوم طال، ولذلك كان لا بد أن تقوم المعارك وتحتدم المناقشات حول “الشرق والغرب” والقبعة والطربوش، والقومية المصرية والقومية العربية، وفكرة الأمة في نظر الدين وفي نظر القومية، والفصحى والعامية، وقدر الحضارة العربية بالنسبة للحضارات الإنسانية، وعلاقة هذه الحضارة بأوروبا وحوض البحر المتوسط وبتراث الاغريق والرومان، وطُرق التعليم ووسائل الحكم، ودور الأزهر، ومهمة الجامعة المصرية. كان لا بد من وجود “طه حسين” بطريقة أو بأخرى، فهذا المعترك المحتدم يتطلَّب رجالاً في “عقل” طه، وفي المجال الذي تفتَّحت فيه عبقريته كانت خدماته جليلة.
إن ريادة طه حسين تكمن في قدرته الفذَّة على التحليل. إنه يحلِّل الموضوع إلى عناصره الأولية ثم يربطها في إطار فكري متكامل، واسهامه في الدراسة العلمية ابتداء من كتابه (في الشعر الجاهلي)(3) يبيِّن منهجه العلمي في التفكير والتأليف.
إن منهج هذا الكتاب الذي تتلمذت عليه أجيال من المثقفين يؤكد ريادة طه حسين. فمنهج البحث العلمي الذي سار عليه، كان حاجة ماسَّة لأمة يغلب على تفكيرها الانفعال. إن جوهر الفكرة التي يحتويها (في الشعر الجاهلي) قديم معروف، أشار إليه بعض النّقاد القدامى مثل ابن سلام الجمحي (139- 231 هـ) في كتابه (طبقات فحول الشعراء) المعروف اختصاراً بطبقات ابن سلام، كما أشار إليه قبل طه حسين عدد من المستشرقين (4)، ولكن قيمة الكتاب ترجع إلى هذه المناقشة الذكية التي أدارها حول إنكار نسبة الشعر الجاهلي والشك فيه، وأخطر ما فيه هذا المنهج العلمي الذي اتبعه، والذي كان شيئاً جديداً في ذلك الوقت، فقد كان التأليف جَمْعاً دون تمحيص ونتائج دون براهين، بل إن ريادة هذا المنهج لا تتّضح أهميتها إلاّ إذا عرفنا أننا لا زلنا إلى الآن نتَّخذ المواقف الانفعالية في كثير مما نتناوله بالتفكير والنقد، ومرجع ذلك هو غياب المنهجية والتفكير العلمي الصحيح. يقول طه حسين عن منهج “ديكارت”(5) الذي تأثَّر به:
(( أريد أن أقول إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء (…) والناس جميعاً يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرَّد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً ))(6).
لقد وجد طه حسين ضالته في هذا المنهج الذي يتميّز بأن قواعده مؤكدة تعصم ذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفد قواه في جهود شائعة.
ولعل الاتفاق الذي تصادف وجوده بين طه حسين ورينيه ديكارت هو الذي مكَّن أيضاً لهذا المنهج في نَفس طه، فقد كان ثائراً على سلفية الأزهر كما كان ديكارت ثائراً على التعليم السائد في عصره، وكان الاثنان يحاربان جَهَالة العصور الوسطى ممثَّلة في المتزمِّتين والمتعصِّبين.
بمثل هذه العقلية التي تشرَّبت ثقافتين، الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية، تمكَّن طه من أن يترك أثراً في الأدب وتاريخه، والنقد الأدبي، والتاريخ الإسلامي، والنقد الاجتماعي، ومستقبل الثقافة، والمسرح الاغريقي وغيرها. إن عبقريته لا تتَّضح فيما كتب بِقَدر اتِّضاحها في المنهج العلمي الذي استخدمه وأشار إليه.
إن النقد الأدبي لم يعرف استقلاله وحدوده الخاصة إلاّ بعد ان انفصلت دراسة الأدب عن دراسة تاريخ الأدب، وقد ساهم طه حسين في هذا الميدان بالدعوة والتطبيق العلمي والعملي. يقول في ذلك:
(( وهنا يظهر الفرق بين الأدب وتاريخ الأدب، فالأدب مأثور الكلام، كما قدمنا، والأديب الذي يُعنى بالأدب من حيث هو أدب يستطيع ألا يتجاوز الكلام الجيد نظماً أو نثراً، ولكن مؤرخ الأدب لا يستطيع أن يكتفي بمأثور الكلام اتصالاً شديداً لتمكننا من فهمه وتذوقه، وإنما هو مضطر إلى أن يلم بتاريخ العلوم، والفلسفة، والفنون الجميلة، وتاريخ الحياة الاجتماعية، والسياسة، والاقتصادية أيضاً ))(7).
وهو بعد أن يُحدِّد الفروق الفاصلة بين الأدب وتاريخه وأسلوب معالجة كل منهما يضيف عاملاً آخر هو الحرية ذلك أن:
(( الحرية هي الشرط الوحيد، وإلاّ فما لي أدرس الأدب لأعيد ما قال القدماء ؟ (…) الأدب في حاجة إذن إلى هذه الحرية، هو في حاجة إلى أن لا يُعتبر علماً دينياً ولا وسيلة دينية، وهو في حاجة إلى أن يتحرَّر من هذا التقديس، فيخضع كغيره من العلوم إلى البحث والنقد والتحليل والشك والرفض والإنكار ، لأن هذه هي الأشياء الخصبة حقاً ))(8).
بهذه الآراء جابه طه حسين مجتمعه، داعياً إلى إعمال الفكر ومناهج البحث العلمي دون تقديس لماض، وهو في قضية انتحال الشعر الجاهلي يرى أن هذا الشعر لا يمثِّل حياة العرب في ذلك العصر، وأن القرآن الكريم حدَّد هذه الحياة صوَّرها في الوقت الذي لم يستطع فيه الشعر هذا التصوير، وعلى ذلك فهو يُنكر هذا الشعر، ويزعم أنه مَوْضُوع، صنعه الرُّواة لأسباب سياسية أو قبلية، أو دينية أو اجتماعية، يقول:
(( أفَتَظن أن القرآن كان يُعنى هذه العناية كلها بتحريم الرِّبا والحَث على الصدقة، وفرض الزكاة، لو لم تكن حياة العرب الاقتصادية الداخلية من الفساد والاضطراب بحيث تدعو إلى ذلك؟ فالتمس لي هذا أو شيئاً كهذا في الأدب الجاهلي، وحدِّثني أين نجد في هذا الأدب شعره ونثره ما يصوِّر لك نضالاً بين الأغنياء والفقراء ، ومع ذلك فما هذا الأدب الذي لا يمثِّل فقر الفقير، وما يحمل صاحبه من ضر وما يعرض له من أذى، والذي لا يمثّل طغيان الغني وإسرافه في الظلم والبطش وامتصاص دماء المعذبين، ألم يكن بين هؤلاء العرب البائسين من انطلق لسانه مرة بالشكوى من هذه الحياة السيئة المنكرة؟ ألم يكن بين هؤلاء العرب المسرفين في الظلم من انطلق لسانه مرة بما يمثّل كبرياءه وتسلّطه على هؤلاء البائسين ))(9).
هكذا نظر طه حسين في وقت مبكر إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تلعب دورها في تشكيل أدب أمة ما في فترة ما.
ومهما كانت النتائج التي وصل إليها طه حسين من الصحة أو الخطأ – ولسنا بسبيل مناقشتها – تبقى له هذه النظرة الباكرة في الدعوى إلى دراسة الأدب دراسة علمية خالصة، هذه الدعوة التي نرى بذورها في كتابه الأول (ذكرى أبي العلاء المعري)(10) الصادر سنة 1915، الذي قرَّر ومنذ صفحاته الأولى أنه لن يسلِّم بكل ما ذكره المؤرخون، ولكنه سيرفض كثيراً من الروايات التي أحصوها من غير تحقيق أو تثبّت.
ويتَّصل بهذا المنهج إعجابه بآراء مدرسة العلاّمة “سانتْ بوف” النقدية، تلك المدرسة التي تدرس أدب الأديب مرتبطاً ببيئته العامة وحياته الخاصة. فالأدب في مفهومها ظاهرة اجتماعية لأنه تفاعل بين ما في بيئة الأديب الخاصة والعامة من مؤثرات وبين نفسه المستوعبة الحسَّاسة. ولقد أغرى إعجاب طه حسين بسانت بوف وتتلمذه عليه بإحتذائه والنَّسج على منواله حتى في اختياره “أحاديثه”، فكان له (حديث الأربعاء) كما كانت (أحاديث الاثنين) لبوف (11).
إن طه حسين يحدِّد منهجه القائم على التحليل الاجتماعي للظاهرة الأدبية فيشير مثلاً – عند دراسة الشعر الأموي والعباسي – إلى هذا التغيّر الذي مسَّ حياة العرب بعد إتصالهم بالشعوب الأجنبية القريبة منهم مما كان له اثر كبير في حياة الشعر في هذين العصرين، فلم يكد يمضي المسلمون في الفتح وبَسْط سلطانهم على أرض الفرس من جهة والروم من جهة أخرى، حتى تغيّر كل شيء في حياة الطبقة العليا من الأمة العربية، وكان مصدر هذا شيئين؛ أحدهما مادي وهو كثرة ما أفاء الله تعالى على المسلمين في هذا الفتح والتغلّب من المال والغنائم الموفورة التي بدَّلت حياة هؤلاء الناس فجعلتها يسيرة بعد عسر، سهلة بعد صعوبة، لينة ناعمة بعد شدة وخشونة، والآخر معنوي، فقد رأى العرب في هذه البلاد المفتوحة نظماً للحكم والسياسة لم يألفوها، وطُرقاً للإدارة وتدبّر الأمور العامة لم يعهدوها من قبل ولم يكن بُد من أن يترك هذان الأمران آثاراً ظاهرة قوية في حياة العقل والشعور. ومن هنا كان تجدّد الشعر ملائماً كل الملائمة لتجدّد الحياة. فنشأ عند العرب في عصر بني أمية نوعان من الشعر لم يكن قد ألفهما الجاهليون، أو على أقل تقدير لم يكن هؤلاء الجاهليون قد أحسنوا فهمهما والعناية بهما. الأول نشأ عن حياة الترف والغنى والثروة، وهو الغزل، والثاني الشعر السياسي؛ وقد نشأ عن استحالة الخلافة إلى ملك، وعمّا كان من حرب بين العصبيات من جهة، ومن حرب بين العصبيّة والدين من جهة أخرى(12).
ويتحدث طه حسين بعد ذلك عن أسباب نشأة الغزل العذري أو العفيف بعد حديثه عن أصحاب مذهب اللذة. إذ رأى أن الذين ذهبوا مذهب اللذة في هذا الفن كانوا المترفين من أهل الحجاز وأبناء المهاجرين من الأنصار الذين ورثوا الثروة الطائلة الضخمة عن آبائهم، وحِيل بينهم وبين العمل السياسي لأمر ما. ومن هنا كانت مكة والمدينة في هذا العصر أقرب إلى اللهو والمجون والافتنان في اللذة وما تستتبعه من لعب وشرب وغناء وغزل (13). أما الذين ذهبوا مذهب العفّة وأسرفوا في هذا المذهب فهم أهل البادية الذين امتزج لديهم الفقر باليأس الناتج عن الحرمان السياسي في ظل استبداد بني أمية، فنشأ عن ذلك انصراف عن الحياة المادية وعزوف عن الانكباب على اللذات، وارتدّوا إلى ذواتهم يقولون هذا الشعر الحزين.
إن طه حسين يتمثّل المناهج الأوروبية، وتحديداً الفرنسية، في دراسة الأدب. وهو حسب مفهوم سانت بوف يربط بين الظاهرة الأدبية وجوّها البيئي والاجتماعي ، وهو نمط من الدراسة جديد لم تعرفه الدراسات الحديثة قبله بهذا العمق والنفاذ والحساسية.
وقد تتلمذ على هذا الاتجاه في دراسة الأدب جيلان من الدارسين سواء من أخذ منهم عن طه حسين مباشرة في مقاعد الجامعة الدراسية أو الذين عايشوا دراساته المنشورة في كتبه (14)، وهنا تظهر قيمة أخرى لطه حسين، ويتجلّى أثره التوجيهي بحيث يقف وحده بين أبناء جيله وكلهم عمالقة موهوبون.
أما التاريخ الإسلامي ودراسته، فاهتمامه به يرجع إلى ذلك اليوم الذي دعا فيه صديقيه أحمد أمين (1886- 1954م) وعبد الحميد العبادي (1892- 1956م) إلى الكتابة في الحياة الإسلامية الأولى بحيث يتناول كل واحد جانباً منها. وبصرف النظر عن هذه الدعوة، فقد تمكَّن طه حسين وحده أن يتناول السيرة النبوية في كتاب (على هامش السيرة) الصادر سنة 1933، ويترجم للخلفاء الراشدين (أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب)(15)، ويدرس المجتمع الإسلامي بعد الرسول في كلّ من (مرآة الإسلام) سنة 1959 و(الوعد الحق) سنة 1950.
وهنا نرى لزاماً علينا ابداء ملاحظة على هذا النوع من التأليف. ذلك أن طه حسين قد مارس شأناً تصعب على غير المبصرين ممارسته، شأن الدراسة، التي تتطلّب العودة الدائمة إلى المراجع، وهذه في متناول يد المبصر، لكنها ليست في متناول يد الأعمى ما لم يتميّز هذا الأعمى بذاكرة خارقة كذاكرة طه حسين التي تكاد تقارب المعجزة (16).
إن طه حسين بعد أن أرسى قواعد النقد الأدبي دخل ميدان التاريخ الإسلامي، وهو تاريخ يتناول حياة المجتمع القائمة على الدعوة الدينية، وكان عليه ابتداءً أن يُجيب عن هذا السؤال: ما حدود الصِّلة بين البحث العلمي في التاريخ الاجتماعي وبين تقديس المظهر الديني للأبطال والشخوص؟
وكانت إجابته حاضرة منذ عام 1923 في مقالته (ردّ على نقد) والتي نشرت بجريدة (السياسة) في 22 شباط/فبراير من ذلك العام، وهي قوله في مجال الرَّد على رفيق العظم (1867- 1925م) الذي أخذ عليه الصورة التي رسمها للعصرين الأموي والعباسي ولخلفائه بصورة خاصة، فيرى طه حسين أن رفيق (بك) العظم وكثير من العلماء المعروفين في الشرق يُسبغون على التاريخ الإسلامي صفة من الجلال والتقديس الديني أو الذي يشبه الديني تَحول بين العقل وبين النظر فيه نظراً يعتمد على النقد والبحث العلمي الصحيح. فهم يؤمنون بمجد القدماء من العرب وجلال خطرهم، وتقديس مكانتهم، وهم يضيفون إليهم كل خير، وينزهونهم عن كل شر، وهم يصفونهم بجلائل الأعمال، ويرفعونهم عن صغائرها وهم يتّخذون بذلك قاعدة من قواعد البحث ومقياساً من مقاييس النقد. ويذهب طه إلى انه إما النقد التاريخي من حيث هو نقد تاريخي، وإما النظر إلى الناس من حيث هم ناس ووصفهم بما يمكن أن يوصف به الناس، وتحليل أخلاقهم وعاداتهم كما تحلّل أخلاق الناس وعاداتهم، والملائمة بين هذه الاخلاق والعادات وما اكتنفها من الظروف والأحوال، فذلك شيء قلما يفكّر فيه هؤلاء العلماء أو يلتفتون إليه.
وامتداداً لمنهجيته العلمية في البحث والدَّرس، كانت مواقفه الجريئة والشجاعة. فصاحب المنهج لا يرضى الظلم أو الميل مع الهوى أو الانتقاص من قَدْر الآخرين، وهو عادل جرئ، متّزن في حدود القدرة البشرية واستطاعته.
ومن هنا كان رفضه تقديم الدكتوراه الفخرية لبعض السياسيين (17)، وكان ردّه على حلمي عيسى باشا وزير المعارف – آنذاك:
((يا باشا، عميد كلية الآداب ليس عمدة يتلقى التعليمات من مأمور المركز فينفذها .. هذه جامعة وليست عِزْبَة))(18).
ورفض أن يستجيب لرجاء الوزير. ويرتبط بمثل هذا الموقف دعوته إلى أن يكون العلم مباحاً للجميع كالماء والهواء، لأنه كما قال في كتابه (نظام الاثينيين) الصادر سنة 1921 الذي ترجمه عن ارسطو ((لم أتعلم لأنتفع وحدي)).
وكان كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) سنة 1938 الذي دعا فيه إلى العلم لأنه طريق التحرُّر، معركة أخرى من معاركه الرائدة. يقول فيه:
(( إذا كانت الديموقراطية مكلَّفة أن تضمن للأفراد الحرية كما ضمنت لهم الحياة، فإن الحرية لا تستقيم على الجهل، ولا تعايش الغفلة والغباء، فالدعامة الصحيحة للحرية الصحيحة إنما هي التعليم الذي يشعر الفرد بواجبه وحقّه ))(19).
ولا شك في أن يعتقد طه حسين بأن التعليم وسيلة إلى تحقيق إنسانية الإنسان وكرامته وسعادته وحريته، فالصبي الفقير الكفيف الذي ولد في قرية صغيرة لا مكان لها على خريطة مصر لم يصل إلى ما وصل إليه إلاّ عن طريق العلم.
ayemh@hotmail.com
* باحث وكاتب كويتي
الهوامش والإحالات :
1- نشر طه حسين في حياته ست روايات، ورواية أخرى غير مكتملة بدأها عام 1946وظهرت بعد وفاته عام 1975هي ((ما وراء النهر))، وخمسة مجلدات من القصص القصيرة ، واثنتي عشرة قصة لم تجمع.
2- ليس هناك اتفاق في الآراء حول السن التي فقد فيها طه بصره، ولا بد أنها كانت بين الثالثة والسادسة.
3- صدر هذا الكتاب في القاهرة عام 1926، وقد أثار ضجة كبيرة حين صدوره ، ويكفي القول إن أربعين كتاباً قد ألفت في الرَّد عليه . وعلى أي حال فقد استرضى طه قرّائه عندما خرج عليهم في العام التالي بنسخة منقَّحة مهذَّبة من الكتاب حملت عنوان (في الأدب الجاهلي) استبعد منها آرائه المثيرة للجدل.
4- انظر : محمودي، عبد الرشيد الصادق . 2003 . طه حسين من الأزهر إلى السوربون . ط1. القاهرة . المجلس الأعلى للثقافة . ص 211 وما بعدها.
5- رينيه ديكارت (1596- 1650م) فيلسوف وعالم فرنسي . يعتبر في رأي كثير من الباحثين أبا الفلسفة الحديثة ومؤسسها، اشتهر بكتابه (مقالة في المنهج) وفيه اطّرح كل المعتقدات السابقة ليعاود البحث عن الحقيقة شاكّاً في كل شيء إلاّ حقيقة واحدة وهي أنه يشك ، ومن هنا كلمته المشهورة : أنا أشك فإذن أنا أفكر. وأنا أفكر فإذن أنا موجود.
6- حسين ، طه . 1926. في الشعر الجاهلي . ط1 . دمشق . دار المدى . ص 19 .
7- حسين ، طه . 1955. في الأدب الجاهلي . القاهرة . دار المعارف . ص 30 .
8- المصدر السابق . ص 58 .
9- المصدر السابق . ص 77 .
10- كان هذا الكتاب في الأصل رسالة جامعية نال عليها طه درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914. وقد عدَّل العنوان فيما بعد، أي بداية من سنة 1930، فصار ( تجديد ذكرى أبي العلاء ).
11- داغر ، يوسف أسعد . 1983 . مصادر الدراسة الأدبية . ج4 . بيروت . منشورات الجامعة اللبنانية . ص 459.
12- انظر : حسين ، طه . 1926 . حديث الأربعاء . ط1 . ج2 . القاهرة . مطبعة دار الكتب المصرية . ص 16 وما بعدها.
13- المصدر السابق . ص 18-19.
14- نشر طه حسين في حياته نحواً من ألف وخمسمائة مقالة ، وأربعة وثمانين مجلداً من الدراسات الأدبية ، وأحد عشر كتاباً مترجماً ، وثلاثين مقالة مترجمة ، وسبعة عشر كتاباً مؤلفاً بالاشتراك ، وثمانية كتب محرّرة بالاشتراك ، ومقدمات لثلاثة وأربعين كتاباً.
15- ترجم لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في كتاب (الشيخان) الصادر سنة
1960 . وترجم لعثمان بن عفّان في الجزء الأول من كتاب (الفتنة الكبرى) الصادر سنة 1947 . وترجم لعلي بن أبي طالب في كتاب (علي وبنوه) الصادر سنة 1961 وهو الجزء الثاني من الفتنة الكبرى .
16- انظر : محفوظ ، عصام . 2000 . ماذا يبقى منهم للتاريخ . ط1 . بيروت . رياض الريس للكتب والنشر . ص 14 .
17- ملخص “معركة الدكتوراه الفخرية” والتي دارت أحداثها سنة 1932، أن اسماعيل صدقي – رئيس الوزراء آنذاك – حاول إخراج طه حسين من الجامعة ، فلما فشل طلب منه مطلباً غريباً كان يعرف أن طه حسين عميد كلية الآداب – آنذاك – سيرفضه مهما تكن نتائج ذلك ، فقد طلب منه منح الدكتوراه الفخرية لبعض رجال السياسة ، فرفض طه ذلك لأنه يرى أن للجامعة حرمة ومكانة ، ويعتبر أن هذا العمل لو تمّ سيكون اعتداء على قدسية العمل الجامعي مهما كانت مواقف هؤلاء الرجال عظيمة . انظر : القرقوري ، رشيد . 2000 . طه حسين مفكراً سياسياً . ط1. تونس . دار المعارف للطباعة والنشر . ص 60 .
18- مجموعة باحثين . 1998 . طه حسين وتأصيل الثقافة العربية . القاهرة . المجلس الأعلى للثقافة . ص 76 .
19- حسين ، طه . 2001 . مستقبل الثقافة في مصر . تونس . دار المعارف للطباعة والنشر . ص 80 .
إضافة من “الشفّاف”:
عثرنا على موقع “الكتيبة الطيبية” (الذي ننصح القراء بالإطلاع عليه لأنه يتضمّن نسخاً لعدد من الكتب القيّمة) على هذه النسخة الكاملة لكتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي:
وأيضاً على الكتابين التاليين::
د. طه حسين: تجديد ذكرى أبي العلاء
د. طه حسين: مع أبي العلاء في سجنه
ويمكن للقارئ أن يطالع على “الشفّاف”: