حنان بكير – بيروت
يقول المخرج الأردني محمد بني هاني: 11 سبتمبر جعلنا هدفا مشتركا للإلغاء من الطرفين: أيديولوجيو الأنتحار والمحافظين الجدد. بمعنى أن هناك طرفا ثالثا تم إلغاؤه. فكان لا بد من إيجاد مجال أكبر للصراخ من الوجع والألم. هذه هي قصة مسرحية في السماء!
مسرحية “في السماء”
اضطرابات عقلية
المؤلف : أرلنك كتّلسن
ترجمة : وليد الكبيسي
إخراج : محمد بني هاني
أزمة البشر الوجودية والإنسانية، لا تتقيد في جوهرها بجنس أو لون أو دين، وإن اختلفت بعض تفاصيلها. “في السماء”، مسرحية تحكي تلك الأزمة، وتعكس بعد ورؤية صاحب النص الشمولية وانتماءه الكوني للإنسان وحده، وإنعتاقه من كل الجدران التي تحول دون التواصل الإنساني. فالمسرحية إذن بحث في المجهول، وهي طريق لاكتشاف الحقيقة واكتشاف التجربة والحرية، وصرخة (التجربة تمنحنا الحرية لكي نعلن عن وجودنا وبشريتنا) .
كتب النص الدرامي عام 1996 في نقد الحضارة الغربية. ولكن من خلال إسقاط بعض التأويلات الخاصة، أصبح النص يتناسب مع كل البيئات، رغم الالتزام بالنص الحرفي المكتوب. وتتركز رؤية مؤلف المسرحية “كتلسن| في أن علينا أن نخرج من زمننا لنرى ونقوّم أحداث زمننا، ولكي نصرخ بحثاً عن أن نكون بشراً وإنسانيين..
رؤية شبابية
أعترف أن الفضول والرغبة في اكتشاف الرؤية الشبابية لإشكالية الوجود، والسائد في المجتمع من قيم ومفاهيم، هي التي دفعتني لمشاهدة العرض المسرحي أكثر من مرة. هذا العرض الذي قدمه د . عوني كرومي عام 2003. لكن رؤية التجربة بعيون الشباب قد يكشف شيئاً مختلفا، وقد كان كذلك؟ فالعرض يصدمك منذ بدايته، ويشدك ويوقظ فيك تلك الغفلة عن وجع الجيل الشبابي بتمرده على ما أورثناه من مفاهيم وقيم أقمناها سياجاً حوله.
العرض.. لوحات فنية منتقاة، تعكس توتر جيل بأكمله، وهلوسات اجتماعية غير منطقية، تثير فينا الدهشة في كيفية حشد هذا الكم من التوتر والهذيان والوجع، فأي صراخ يليق بتلك المعاناة؟ حيث ينعدم الحوار والسرد الحكائي، فالكلمات قليلة ومقتضبة، وهي أقرب إلى مونولوج خاص تهذي به كل شخصية بمعزل عن باقي الشخصيات. وكأن لا علاقة بينها. رغم إتحادها في رفض الواقع والصراخ كلّ من موقعه بأن التجربة تمنحنا الحرية لكي نعلن عن وجودنا وإنسانيتنا.
المخرج الشاب محمد بني هاني أكثر من مبدع، وأكبر من مخرج. فقد بدأ خطواته الأولى نحو الاحتراف المسرحي فكانت انطلاقة عملاقة ومعه كان هذا اللقاء:
– اشتركت في عرضين للمسرحية الأول عام 2003 كممثل. وفي المرة الثانية كمخرج للمسرحية. كيف تقيّم تجربتك في كلتا الحالتين؟
– تجربتي مع المسرحية مرت عبر ثلاثة مراحل: الأولى كممثل عام 2003م. والثانية خبرتي مع النص كدارس وباحث، حيث اتخذت من المادة مشروع تخرّج بتقديمه كأطروحة ضمن مادة الإخراج لنيل دبلوم دراسات عليا من الجامعة اللبنانية. وكان الأستاذ روجيه عساف هو المسئول عن هذا المشروع. أما خبرتي الثالثة فهي كمخرج للعمل المسرحي إذ كان أول خطوة نحو احتراف الإخراج المسرحي. وهذه المراحل منحتني فرصة الولوج إلى معظم عوالم النص المرئية منها واللا مرئية . فمنحتني على البعد الشخصي رؤية أكثر وضوحاً؛ ماذا أريد أن أقول؟ وكيف أريد أن أقول؟ وهذا هو الأساس لأي عمل فكري أو إبداعي بشكل عام.
– كل الحب للأستاذ الكبير الراحل عوني كرومي، فقد منحتني تجربتي معه فرصة مهمة جدا جداَ، وتتمحور حول الكيفية التي تناول بها النص، وقراءته الخاصة به والتي أنتجت مجموعة حوارات ونقاشات فيما بيننا، ثم تجسيد هذه الرؤية التي تناولها على خشبة المسرح من خلال تقاطعها مع جسد وروح وذهن الممثل. والحقيقة أن عوني قد حافظ على البعد الميثولوجي الذي يحمله النص و قدمه بشكل معاصر وحداثي، وفي حينها دارت نقاشات بيننا، واعتقدت حينها أن النص يحتمل أكثر حداثة من خلال التعامل مع الميثولوجية كحالة مستمرة ومتجددة. و كانت قراءتي لنص “كتلسن” من زاوية مختلفة جدا، زاوية لا تحتمل السرد الفلسفي، ولا تحتمل التأويل الميثولوجي، بقدر ما تحتمل همسات مدوية صارخة ضمن إطار حقيقي كانسان يحيا هذه اللحظة المتشكلة أو المتكونة من لحظة الوعي الأولى للإنسان عندما طرح أسئلته الوجودية بأشكال مختلفة، ووسائل تعبير متنوعة تتناغم مع معطيات عصره. بالمحصلة فان عوني كرومي منحني السبب الأول لكي أبحث في هذا النص، وألتقي مع كل ما يتقاطع معي كممثل يحاول أن يجسد حالة ما على خشبة المسرح. كما أني استفدت منه على المستوى الذهني, والمستوى الإنساني ، وبالتالي أقول أنه كان أول عمل لي كممثل مع مخرج مبدع بحجم عوني كرومي، مما أتاح لي فرصة الارتقاء من خلال منجزاته الإبداعية.
– كيف وظفت مشاهد البرجين و أحداث 11 سبتمبر؟–
وظفته كعلامة استفهام لا أكثر ولا أقل! بصرف النظر عن رأيي الخاص. وقد جاء ذلك ضمن سياق العمل كمفصل تاريخي قد غير المفاهيم السابقة، وبنى مفاهيم جديدة، وأكّد التوجه الأحادي الذي يلغي الآخر. لذا فقد وظفتها من الناحية الفكرية باعتبارها نقطة الصفر التي انطلقت منها فكرة الإلغاء. فإما أن تكون معي أو أنت عدوي. و كان شعورنا أننا لسنا هنا ولا هناك. وأصبحنا هدفا مشتركا لمبرر الإلغاء من الطرفين. بمعنى أن هناك طرفا ثالثا تم إلغاؤه. فكان لا بد من إيجاد مجال أكبر للصراخ من الوجع والألم.
-و لكن ماذا عن مشهد التحطيم والهدم الذي قد يعتبره البعض من أنصار اللاعنف بأنه مواجهة للعنف بعنف مماثل؟
– نحن نعيش واقعا مأزوما و مهزوما بشكل ميئوس منه. وأنا أومن أن كل ما نعرفه من محاولات لتفسير علة وجودنا. من أعراف و تقاليد و أيديولوجيات قد ساهمت في تشويهي كانسان. تلك المفاهيم قد حولتني إلى سجين تلك الأيديولوجيات التي تجعلنا نلقي باللوم على الآخر. عملية الهدم في المسرحية ليست من منطلق التعامل مع العنف بعنف آخر، بقدر ما هي لحظة تحطيمية رافضة لكل ما هو مطروح. وهي لحظة تحطيم لنقاط ضعفنا ولشيء ما في داخلنا ولا أجدني قادرا على الصراخ.
بقي أن نشير بأن المسرحية ومخرجها لم يسلما من طواغيت التكفير و تكميم الأفواه وورثة محاكم التفتيش، حيث تعرض المخرج للضرب والاهانات من كافة العيارات مما يتعارض مع القيم الأخلاقية التي يدّعونها أضافة الى محاولات رخيصة بتكفيرة.
تمّ عرض المسرحية في بيروت في “مسرح دوار الشمس” في الفترة ما بين 19 ديسمبر الى 22 ديسمبر 2007. حضرها جمهور من لبنان وعمّان بسبب ما أثير حول المسرحية من لغط الجهلاء والتكفيريين.
albakir8@hotmail.com
روائية وصحافية فلسطينية من لبنان تقيم في اوسلو – النرويج
مواضيع ذات صلة:
(في السماء) تؤمن بالله وأنا لست من الغرب الحاقد
بقلم أرلنك كتّلسن
ردود أفعال على “في السماء.. اضطرابات نفسية”
منع عرض مسرحية في الأردن تحمل “فكرا إلحاديا”
مسرحية “في السماء” تُعرَض في بيروت من يقرأ لارلين كتلسن بلغته الاصلية (النرويجية) يعرف ان الكاتب ليس بالهين ادبيا. فقد تجد نفسك و انت تقرؤه بين عوالم رائعة التركيب والنحت المزخرف بكل الوان الفنون. يحملك نصه الادبي بين الشعر والنثر, بين الفلسفة والادب, وبين الواقع والخيال. يستعمل الكاتب لغة مركبة ليس من السهل استوعابها وبالتالي فهم معناها الذي يفرض نوعا خاصا من التفكير احيانا والسؤال الحيرة احيانا أخرى. لم يكن من الممكن انجاز هذا العمل المسرحي الرائع, ناطقا باللغة العربية لولا المجهود الجبار الذي بدله المترجم لفتح نافدة على نوع خاص من الادب النرويجي المعاصر. لذالك أود في تعليقي هذا… قراءة المزيد ..