منذ أن كنتُ في سورية، ونحن نحمّل كل قادم إلى فرنسا، وصية زيارة رامبو بالنيابة عنا، ووضع وردة على ضريحه، ولم ينفذ أحد تلك الوصية.
لم أتوقع آنذاك، بأني سأنفذ وصيتي بنفسي، وسأكون جوار رامبو ذات يوم.
وشاءت الظروف، والتي نادراً ما تشاء بإيجابية، أن أنتظر حلول الصباح، لأذهب إلى رامبو.
غادرتُ في صباح مبكر وفي داخلي انفعال وكأني ذاهبة إلى عرس. لم أنم في الليلة السابقة، سوف أزور رامبو.
***
في الطريق إليه، قررتُ التخلص من مشاعري المسبقة، علي التوقف عن تخيل زيارتي، وتصور شارلفيل، يجب أن أحرر نفسي من كل انفعالاتي المسبقة، وأترك نفسي لتلقي كل الانفعالات الجديدة، وفق آنيتها. وانتظرت خفقة القلب، خفقة القلب التي يستبدلها صديق لي للتعبير عن الحب، فالحب بالنسبة له، هو ذلك الخفقان لذكر أو رؤية كائن ما، خفقان لا إرادي ينفلت منا، من القلب.
وصلت شارلفيل، ولم يخفق قلبي. وبحثت عن رامبو، إلا أني لم أجد رامبو.
كنت أتصور بأنني سأرى الوجوه ترتديه، أن رامبو سيفرُّ من وجوه سكان “شارلفيل”، وأنه سيقفز من ألق عيونهم.
وصلنا الساحة التي توجد فيها دائرة السياحة، ورغم كل المعلومات التي أخذناها معاً، فيليب وأنا، عبر الانترنت، وترتيب برنامج وتفاصيل الزيارة، إلا أن طمعي بما يتعلق برامبو، جعلني أدخل مكتب السياحة للسؤال عن معلومات إضافية تتعلق بزيارتي، لرامبو، ـ رامبوي، رامبونا جميعاً ـ نحن الذين نحمل أجزاء منه، ولانجرؤ أن نكونه.
بدأنا بالتوجه إلى منزله الأول، المنزل الذي ولد فيه. صدمني الحي: حي حزين، شارع تجاري ممل وبليد، تحت منزل رامبو مباشرة، محل “فرانس لوازير” لترويج الثقافة السطحية. والمنزل مغلق، لأن ثمة أشخاصاً يقيمون فيه، وعلى الأغلب لا تربطهم برامبو أية علاقة، بل امتلكوا المال للعيش في هذا المنزل. لم يكن بالمستطاع دخول المنزل، لأنه ملكية خاصة. وكانت هذه صدمتي الأولى، أن أرى منزل رامبو من الشارع، وأقرأ اللافتة المعلقة على الجدار، جوار النوافذ الكبيرة: هنا عاش آرثر رامبو، 1869- 1875.
***
عدنا إلى الساحة، ساحة “دوكال”، وهبطنا من شارع الطاحونة، في الطرف المقابل في الساحة، حيث الطاحونة القديمة التي كان رامبو يزورها، ويُعتقد أنه كتب مقتطع من مركبه السكران هنا.
الطاحونة تحولت إلى متحف، متحف رامبو. كان المتحف مغلقا بعد، ورحنا نقرأ على حافة جدار النهر الصغير، الجميل بحزن، اللوحات المدون عليها معلومات عن رامبو: منزل رامبو، وحين استدرت، رأيت المنزل بوجهي، المنزل الذي انتقل إليه رامبو فيما بعد، وأظن بسبب مشاجرات العائلة مع الأب. أحسست أن هذا المنزل هو أقل مللاً من الأول، ولكن يبقى الجو محاطاً بحزن بليد، وتفهمت لماذا كان رامبو يفر منه ويذهب إلى باريس! أيضاً لم نستطع دخول المنزل، رأيناه من الخارج فقط.
كل شيء في هذه المدينة بطيء، صامت، بليد، حتى المقاهي القليلة، المنتشرة في الشارع الملاصق لمنزله، وفي الساحة، مقاهٍ عادية، هادئة، بليدة وحزينة ولا تشبه المقاهي الباريسية في ألقها وبهجتها وحيويتها، ثمة مقهى كان يضع صور رامبو ، أخيراً!
في “شارلفيل”، تشعر أن كل شيء، ينبذ رامبو!
المتحف الذي جمعت فيه تفاصيل رامبو من باب الواجب، واجب يخلو من الحب.
شارلفيل لا تحب رامبو، تحاول أن تقوم بواجب نحوه، بشكل يخلو من الأناقة والدفء.
كتبتُ كلمة لرامبو في سجل الزيارات، قلت له إني أحبه جداً، وإني حلمت بهذه الزيارة منذ سنوات. ثم جاء دور بعض الأماكن الصغيرة المتفرقة، المدرسة التي درس فيها، وبالحق فهي احتفت به، بوضع تمثال كبير له أمام ساحة المدرسة، حيث ثبتت عبارة رامبو أسفل التمثال: “يجب أن تكون وبالمطلق، حديثاً”. وقد حملت المدرسة اسم وصورة رامبو .
وقطعنا دروباً وشوارع للاتجاه نحو المقهى، وسرنا طويلاً، إلى أن رأيته من بعيد، وعرفته قبل أن أرى اسمه، فقد حفظت المعالم المتعلقة برامبو، عبر بحثي على الانترنت، وحين اقتربنا، لم يكن هو المقهى، المقهى الذي كان يجلس فيه رامبو مع فيرلين، لم يبقَ منه شيء سوى اسمه. لقد تم تجديد كل شيء، الواجهة الزجاجية، الحداثة النابذة لحداثة رامبو، والزبائن… لم يتنازل المقهى حتى بوضع صورة لرامبو، كما فعل مقهى سارتر في “سان جرمان”، كرمز بسيط من الولاء لهذا الرجل، حيث اسم المقهى مرتبط بسيرة رامبو… ولكن، لا… لا أثر لرامبو هنا، لم أدخل المقهى، اكتفيت بالنظر إليه من الخارج، ثم اتجهنا إلى محطة القطار القريبة من المقهى، حيث كان رامبو يغادر شارلفيل ويعود، عبرها.
***
والآن، حان وقت المقبرة، المكان الأهم بالنسبة لي، حيث رامبو يرقد حقاً، حيث جسده واقعياً يسترخي هنا: آرثر رامبو، 37 سنة، 10 نوفمبر 1891، صلوا من أجله.
ولكن الورود!
لم أكن أتخيل أن يخلو شارع المقبرة من بائع ورد، “كيف سأدخل على رامبو بيد فارغة، هذا عار”، صرخت وأنا أكاد أجن من الرغبة بولوج المقبرة، والخجل من نفسي: “أكان ينبغي علينا اصطحاب الورد من باريس؟”.
رغم الحرارة والتعب، أكملنا السير بحثاً عن محل ورد، كان ثمة كوافير، ومكتب ضمان، ومطعم، حتى المقهى الذي تمنيت دخوله لأنهم ثبتوا صورة رامبو فيه مرفقة بعبارة “رامبو، سارق الأرواح” كان مغلقاً.
الورود حولي متناثرة، حدائق المنازل، الشرفات. الفرنسيون يحتفون بالورد، ولكني لا أستطيع الدخول على رامبو بالورد.
انحنيت على ورود كريمة نبتت في الشارع وحدها، وقطفت اثنتين، بيضاء وصفراء، باسم خالد، وبإسمي، وحاولت أن أقنع نفسي أن رامبو سيغفر لي.
***
يستقبل رامبو زوار المقبرة، فهو يرقد في المقدمة، لم نبحث عنه طويلاً، فهو هنا، أمام الجميع، وكأنه مراقب، ومحمي جيداً، كي لا يفر من جديد، فهو الذي كان يفر من شارلفيل، ويعاد إليها بقوة أمه، حتى أنهم لم يتركوه يدفن وحيداً، بل قاسمته ضريحه، “فيتالي رامبو”، الصبية ذات السبعة عشر عاماً، حرصاً على تأكيد انتماء رامبو للعائلة الرامبوية.
لو أني كنت حرة في تلقيب رامبو، لآثرت دعوته بآرثر، انتقاما من كل مَنْ يأسر رامبو، في ولادته وموته.
لامست ضريحه، وضعت يدي على رأسه، وداعبت شعرة بحب حقيقي، وأنا لا أتصوره إلا ابن السادسة عشر، الصبي الجميل المليء بالصدق والغضب. بدأت بالتحدث إليه بالفرنسية، ثم ، وتحت ضغط انفعالي، ولم أفكر، وجدتني أحدثه بالعربية، بل وانفلتت من ذاكرتي التعيسة والمخجلة ألفاظ لا أستعملها في وعيي “ألف رحمة ونور تنزل عليك وعلى روحك البريئة يا رامبو”… وكدت أقرأ الفاتحة على روحه، إلا أني انتبهت أني في فرنسا، أمام روح شاعر فرنسي. شعرت بحزن كما لو أن رامبو يرحل الآن، كما لو أن أكثر من مئة عام لم تمض.
شعرت أنه من الظلم أن يدفن رامبو هنا، في المدينة التي فر منها في صباه، لماذا تحتجز روحه هنا؟، لو أني محل بلدية باريس، لطالبت برامبو هنا في باريس، حيث يستحقه محبوه. صحيح أن من يحب رامبو يذهب إليه أينما كان، لكن هذه المدينة الصامتة، الكئيب ، التي كانت قدره في المولد، وحاول الفرار منها، لا يمكن أن تكون مثواه الأخير.
وهذا بريد رامبو، في المقبرة، في الجانب المقابل لضريحه، لمن يحب مراسلته، حيث يتفرغ رامبو لبريده، بعد إغلاق المقبرة، ويرد على من يريد بطريقته الرامبوية الرائية الخاصة.
ومن يحب رامبو، ويؤمن به، يلتقط الرد، أو الردود.
***
شعرتُ وأنا أغادر المقبرة، وألوح بيدي له كلما خطوت، استدرت نحوه وأرسلت له قبلاَ في الهواء، أن رامبو يرفض “شارلفيل”، وأنه يأتي معي.
استدركت فوراُ، وفهمت لماذا تحدثت إليه بالعربية.
في المتحف، ثمة قاموس، من مقتنيات رامبو، “دروس في اللغة العربية”، أظن أن رامبو كان يتحدث العربية. وأظن أنه فهم عربيتي.
***
حين عدنا، لم نكن وحدنا، فيليب وأنا، كنا ثلاثة، كان آرثر معي، يجلس بجواري في السيارة، يمسك بيدي بدفء، رافضاً العودة إلى وحدته، رامبو الذي امتلأ بحيوية، لايمكن أن ينهيها الموت، وبتمرد وثورة لا يمكن للمقبرة أن تحدهما. لقد جاء معي، وكان دوماً معي، ومعكم، أنتم الذين تحبون آرثر، هو فيكم، وجميعنا نحمل أجزاء منه.
عرفت أن رامبو لا يقبع في مكان، وأنه خارج المكان. ولكن، لكي نعرف هذه الحقيقة ونصدقها، يجب أن نذهب إلى شارلفيل، فنحن لن نكتشف أن رامبو ليس في “شارلفيل”، إلا حين نبحث عنه هناك، فلا نجد رامبو. لن نعثر على آرثر، لأن آرثر رامبو ليس في “شارلفيل”.
mahahassan1968@yahoo.fr
* كاتبة كردية من سوريا