معظم المواقف السياسية والاجتماعية المعبرة عن اتجاهات المنتمين إلى الإسلام السياسي متشابهة في الهدف، المختزل في تطبيق الشريعة الدينية التاريخية، لكنها مختلفة في تفسيره ومن ثم تحقيقه على أرض الواقع. لكن تلك الاتجاهات متفقة جميعها على أن المبادئ والمفاهيم الحديثة، كالمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ليست جزءا من الشريعة ولم تأت الآيات والأحاديث لذكرها أو الإشارة إليها، لأنها لم تكن تمثل تحديا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا في عصر نزول الدين الإسلامي وانتشاره، لذلك لم تجعلها ضمن أجندتها، ولو فعلت ذلك فلأجل استغلالها في صراعها مع الآخر غير الديني العلماني والليبرالي. فمفهوم حقوق الإنسان هو أحد إنجازات إنسان العصر الحديث، فيما الشريعة الدينية لا تزال تمثل أحد تجليات العصر القديم، لذلك لا يمكن للأصولي المنتمي إلى الإسلام السياسي أن يخلط بين تحقيق الأهداف الدينية التاريخية وبين الأهداف الحديثة، وإن قام بذلك فمن أجل فقط أن تقوم الثانية بخدمة الأولى، كذلك هو يستغل الإنجازات المادية للعصر الحديث بشكل سافر لتحقيق هدف تطبيق الشريعة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يجعل الخطاب الديني السياسي، المفهوم الحديث لحقوق الإنسان ضمن أجندته وأهدافه الرئيسية التي يجب أن يسعى لتحقيقها والدفاع عنها في الحياة؟
هناك العديد من الأسباب التي يمكن أن نجمعها في إطار لتمثل الإجابة على السؤال أعلاه، لكن ما نود الإشارة إليه هو السبب المتعلق بـ”النظرة الدينية الإسلامية للأخلاق” وكيف ساهمت في ترسيخ لامبالاة الخطاب الديني التقليدي والسياسي تجاه المفهوم الحديث لحقوق الإنسان. فلأن الأخلاق الدينية الإسلامية لم تهدف إلاّ إلى تحقيق السعادة الفردية والأخروية للإنسان، والتي هي في نظر المفسرين التقليديين السعادة الوحيدة المنطلقة من الحق الديني، فإنها لم تملك تصوّرا واضحا حول دور الأخلاق في تنظيم العلاقات الاجتماعية، وهو ما جعلها غير مبالية بتنظيم العلاقة بين الأفراد في المجتمع، وبالتالي بقضايا حقوق الإنسان وانتهاكات الإنسان وظلمه وتضييقه وتعذيبه وقتله لأخيه الإنسان. فالفردية في الأخلاق لا تتمثل إلا في تهذيب النفس وإصلاح الروح وبث الفضائل في الإنسان وإبعاده عن الرذائل التي من شأنها أن تنقذه من النار في الدنيا الآخرة، لا أن تساعده في تنظيم علاقاته الاجتماعية مع الآخرين في الحياة الدنيا وتحقق له رؤى اجتماعية إنسانية.
وعلى هذا الأساس فإن القيم الأخلاقية التي تساهم في تنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة بين البشر هي القادرة على أن تتبنى مفهوم الدفاع عن حقوق الإنسان، لأنها تدافع عن حق كل إنسان في الاختلاف، وفي جعل المختلفين يعيشون في إطار اجتماعي واحد، كل طرف يحترم وجود الآخر، ويحترم حقه في الإيمان بأي دين من الأديان، أو حتى في عدم الإيمان بأي دين، لكن ضمن نهج لا يهدم الواقع الاجتماعي المعاش بل ينظمه. في حين يثبت السلوك الآخر، سلوك أنصار الأخلاق الفردية والأخروية، أنه غير قادر على تقديم نهج يساهم في الدفاع عن حقوق البشر، لا سيما إذا ما سعى أنصاره إلى فرض رؤاهم الأخلاقية الدينية على باقي أفراد المجتمع، حيث يعكس سلوكهم هذا انتهاكا للحقوق الفردية الأخلاقية للأشخاص الذين يعيشون معهم في نفس المجتمع.
إن الغالبية العظمى من الدول العربية والإسلامية تعاني من صعوبة نفوذ نهج احترام حقوق الإنسان وسط واقعها الاجتماعي، وذلك بسبب انتشار السلوك الديني الفردي الأخروي وهيمنته، وفقدان السلوك الاجتماعي الذي ينظم الاختلافات الفردية والاجتماعية لبوصلته، وهو ما شجع مفهوم “الوصاية” من تأدية دوره المستبد على أكمل وجه، وصاية الحاكم، والمؤسسات السياسية والاجتماعية، ورجل الدين، والإنسان الذكر، على مختلف الأمور والقضايا والمسائل. في حين أن منع الأخلاق الفردية من الهيمنة على الواقع الاجتماعي، والسعي لنشر ثقافة احترام حقوق الإنسان الفرد، ومواجهة الانتهاكات التي تنفذ ضده، كل ذلك منوط، من جهة، بتأكيد عدم تدخل الآخرين بالسلوكيات الشخصية الخصوصية للأفراد، ومن جهة أخرى، بالسعي لنشر الأخلاق التي تساهم في تنظيم الاختلافات الفردية والعلاقات الاجتماعية في الواقع المعاش.
من شروط احترام حقوق الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات، ولو كانت دينية، ألا يفرض فرد، أو حتى مجموعة من الأفراد الذين يشتركون في تفسير متشابه أو متقارب تجاه بعض القيم، رؤاهم الأخلاقية الفردية ضد الآخرين، وبالذات ضد من لا يؤمنون بنفس الدين، كفرض الحجاب في إيران أو اللاحجاب في تركيا وفي بعض البلدان الأوروبية. وتلك السلوكيات الوصائية الفردية التي تعزز هيمنة فرد أو جهة على أخرى، يمكن معالجتها من خلال نشر السلوك الاجتماعي المنظم للاختلافات الفردية. فالأخلاق الاجتماعية ترفض الهيمنة والوصاية المسببة للظلم والمنافية للعدل، وهي بالتالي تنظم السلوك الفردي والتنوعات الفردية وتضعها في قالب اجتماعي يحقق العدالة، كما أنها تشجع عملية الانتخاب لمختلف صنوف الحياة الفردية. وهنا يشترط أن تكون عملية انتخاب أي شخص لدين من الأديان، أو لتغيير دينه أو مذهبه إلى دين أو مذهب آخر، أو حتى عدم إيمانه بأي دين، عملية فردية خاصة، وإلا أدت وصاية وهيمنة أتباع دين الأكثرية على دين الأقلية إلى التضييق على شعائر وطقوس وحقوق هذه الأقلية، مثلما سمعنا وشاهدنا سلوكيات دينية تعكس التضييق ضد أتباع الصوفية، وضد البهرة، وضد الشيعة والسنة أيضا، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية.
إن حق الإنسان الفرد في انتخاب طريقة حياته الشخصية وانتخاب دينه ومذهبه وتدينه الشخصي، هو شرط أساسي من شروط احترام حقوق الإنسان في أي مجتمع، وكذلك هو أحد مقومات نظام الأخلاق الاجتماعية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com