فادي عبود
(1)
لقد تحوّلت ظاهرة هجرة الشباب من لبنان إلى مرض عضال يفتك بمكوّنات مجتمعنا ويتسبب بنتائج مدمرة على المدى البعيد، وهذه مشكلة لا تجري مقاربتها بطريقة جدية لتبيان تأثيرها واستنباط حلول لها. وسنحاول مقاربة موضوع الهجرة من الباب الاقتصادي لأن البعض يرى أن الهجرة وتحويل بعض المال إلى لبنان من المهاجرين هو خير لهذا الوطن المنكوب. سنثبت على لسان البنك الدولي أن هذه النظرية خطأ وأن ثروة لبنان غير الملموسة تكمن في العنصر البشري الذي كفر بلبنان وقرر أن يهاجر.
ثمّة فجوة واسعة بين المنتجين والمسؤولين في الحكومة بشأن رؤية لبنان المستقبلية. ومن الصعب أن نفهم هذه الهوّة العميقة من دون أن نستعين بتوماس فريدمان، الذي قالَ مرّة: “تظهر حالة سوء التفاهم الشاملة متى كان إطار عملك وإطار عمل الشخص الآخر مختلفين جذرياً بحيث لا يمكن أن يُصحّحَ سوء التفاهم بإعطاء المزيد من المعلومات”.
لكننا يجب أن نمدّ الجسور لنسدّ هذه الفجوة ونتغلب على هذا الاختلاف الأساسي. لهذا جادلتُ على مرِّ السنين بأن السياسة التي تؤدي إلى النمو الاقتصادي وإيجاد فرص العمل هي جهد مستمر وعمل بدوام كامل. قد يكون للقطاع الخاصّ في بعض الأحيان مطالب تجدها الحكومة صعبة التحقيق في وقت معين من الزمن. ولذلك، تساءلت في أغلب الأحيان لماذا في كل مرّة يطرح منتج لبناني مجموعة من المخاوف حول حالة القطاع والاقتصاد، يعطيه المسؤولون أذناً غير صاغية، علماً أننا نستطيع أن نجد عشرات الأفكار لدعم هذه القطاعات غير الطلب منها أن تهاجر!
من ناحية أخرى إذا تكلم أحد من البنك الدولي او «الهيرالد تريبيون» أو الاتحاد الأوروبي، يصغي مسؤولونا باهتمام بالغ. لذلك فلندع هؤلاء يقومون بمهمة الكلام.
وجد الاقتصادي في البنك الدولي كيرك هاملتن، أن أغلب ثروة الإنسانية ليست مكونة من الأشياء الطبيعية. إنها بالأحرى مكونة حقيقة من الأصول غير الملموسة. في تقريره، «أين ثروة الأمم؟ قياس الرأسمالِ للقرن الحادي والعشرين»، وجد «هاملتن» أن الرأسمال البشري وقيمة المؤسسات الداعمة، القضاء وحوكمة الشركات، التعليم والتدريب وتعاون المجتمع والمؤسسات تؤلّف عملياً الحصة الأكبر من الثروة في كل البلدان.
نَشرَ البنك الدولي ما يحدد «تقويم رأس مال الألفية الجديدة»: تخمينات نقدية عن مدى الأصول ـــــ المنتجة، الطبيعية وغير الملموسة ـــــ والتي يعتمد عليها التطور. رأس المال غير الملموس يُقاس من الفرق بين الثروة الكاملة والمخزون الطبيعي أو المُنتجِ وبين الاستثمارات في التعليم، فاعلية النظام القضائي، والسياسات التي تستهدف جذب الحوالات المالية، وهذه من الوسائل الأكثر أهميةً لزيادة المكوّناتِ غير الملموسة للثروة الكاملة. الرأسمال البشري (يقاس على أساس المستوى التعليمي) والحوكمة (تقاس من خلال «دليل حكم القانون» للبنك الدولي) يؤلّفان معاً 93% من الرأسمال غير الملموس. طبقاً لأرقام هاملتن، يساوي حكم القانون 57% من الرأسمال غير الملموس لبلد ما. والتعليمُ 36 %. أما الحوالات المالية فلا تشكل أكثر من 7%.
يُلاحظُ التقرير أنّه بينما تُصبحُ البلدان أغنى، القيمة النسبية للاصول غير الملموسة والمنتجة ترتفع بالمقارنة مع الأصول الثابتة. وهكذا، تَستلزم عملية التطوير أساساً تطويراً للقطاعات العصرية مِنْ تصنيع وخدمات، والتي تعتمد بشدّة على الأشكالِ غير الملموسة من الثروة. إن مساهمة الرأسمال الثابت في الثروة العامة تميل إلى الانخفاض مقارنة مع الدخل، بينما مساهمة رأس المال غير الملموس ترتفع. النقطة الأخيرة منطقية جداً ـــــ إن البلدان الغنية غنية كثيراً بسبب مهارات سكانها ونوعية المؤسسات التي تدعم النشاط الاقتصادي.
تتضمّن الأصول غير الملموسة المهارات والخبرةَ المجسدة في القوة العاملة. تتضمن أيضاً الرأسمال الاجتماعي، وبمعنى آخر: الثقة بين الناس في مجتمع وقدرتهم على العمل معاً لتحقيق هدف مشترك. والبقية تتضمن عناصر الحوكمة التي ترفع معدل إنتاج العمل. على سبيل المثال، إذا توافر للاقتصاد نظام قضائي كفوء جداً، وحقوق ملكية واضحة، وحكومة فعّالة، فإن النتائج ستخلق ثروة عامة أكبر ورأس مال معنوياً أكبر.
(2)
بحسب مقالة في ReasonOnline لرونالد بايلي، «إن البلاد التي تتمتع بأعلى دخل فردي هي سويسرا، 648,000 دولار. وتأتي الولايات المتحدة رابعة بـ513,000 دولار. عموماً، معدل دخل الفرد بحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في دولها هو 440,000 دولار. إن البلدان التي تملك أدنى دخل فردي تتضمن إثيوبيا (1,965 دولاراً)، بوروندي (2,859 دولاراً) ونيجيريا (2,748 دولاراً). في الواقع، إن بعض البلدان إدارتها سيئة جداً لدرجة أن لديهم رأس مال سلبياً غير ملموس. وبسبب الفساد المنتشر وأنظمة التعليم الفاشلة، تقوم نيجيريا وجمهورية الكونغو، على سبيل المثال، بتدمير الثروة غير الملموسة، ومن المؤكد أنّهم سيكونون أفقر في المستقبل».
بالرغم من أن الإحصائيات عن ثروة لبنان ليست متوافرة في تقرير البنك الدولي، لا ضرر في أن نفترض أن المهاجرين اللبنانيين ينتجون أكثر بكثير حين يكونون بعيدين عن لبنان في بلدان متقدمة. لماذا؟ لأن المهاجرين اللبنانيين الذين يعملون في بلدان أخرى تتمتع بمستويات عالية من الثروة غير الملموسة يستفيدون جيداً من هذه الثروة.
إنّ التحويلات المالية هي جزء من ثروة البلاد غير الملموسة، إلا أنها لا تستطيع أن تحل محل المكوّنين الآخرين الأكثر أهمية وهما الرأسمال البشري والحوكمة. الظاهر أن المسؤولين لدينا يغامرون بمقامرة قصيرة النظر بهدف تقوية أرقام ميزان المدفوعات عبر استنزاف أدمغة لبنان غير المراقب.
في مقالة في الهيرالد تريبيون، يعرض دانيال وليامز قضية الهجرة المنتشرة للّبناني الماهر نحو الخليج والبلدان الأخرى. ويفيد ويليامز بأن «أصحاب العمل والمحللين في لبنان يرون أن لهذه الهجرة تأثيراً مضاعفاً: إفراغ لبنان من العمال المهرة وخفض الأجور لبعض اللبنانيين في الخارج». ويقتبس عن وكالة استخدام في بيروت قائلاً «لا أحد في لبنان بعد الآن. كل المرشّحين الجيدين أصبحوا في الخارج».
وتقول المقالة إنّه طبقاً لوزارة العمل، فإن معدّل البطالة في لبنان هو 20%. أعتقد أن الرقم هو أعلى بكثير لعدّة أسباب. أولاً، وزارة العمل مسيّسة إلى حدٍّ كبير ولا تمتلك الشجاعةَ لكشف رقم بطالة دقيق. الثانية، الإحصائيات في لبنان مسيسة أيضاً إلى حدّ كبير؛ لا مسؤولَ يمتلك الشجاعة لكشف الأعداد المحرجة. ثالثاً، الوزارة ليست بعد منارة للكفاءة أو مصدراً للصدقية.
وما يقلق أكثر، أن وزارة العمل لا تمنح إجازات وإقامات لعمال مهرة أجانب باستثناء «مديرين من الدرجة الأولى» الذين يدفعون 3,600,000 ليرة لرخصة العمل والإقامة ورسماً للموافقة المسبقة 600,000 ليرة ، كل هذا من أجل امتياز العمل في بلدنا العظيم. هل نحن بحاجة الى مديرين؟! ألسنا بحاجة إلى مهارات؟
وما يثير التعجب أن لبنان يسمح بإدخال خدم المنازل حتى بات كل منزل في لبنان يستخدم خادمة اجنبية، وهؤلاء لا يدفعون رسوم الضمان، وفي المقابل لا يسمح باستيراد عمال للمصانع مهما كانت الحاجة ماسّة لهم، فكيف يتمكن المجتمع اللبناني من بناء قدراته الإنتاجية إذا كانت الأولوية هنا هي لإراحة ربات المنازل، بينما إنتاج بضائع لبنانية بأسعار تنافسية ليس أولوية.
كل هذه الإجراءات هدفها حماية العامل اللبناني، لكن أليست حماية العامل اللبناني تتطلب أن يحافظ على عمله أولاً ، فإذا كانت السياسة المتبعة لا تأخذ في الحساب بناء قطاع إنتاجي تنافسي قوي وتضرب عرض الحائط بكل متطلبات هذا القطاع والمنافسة غير العادلة التي يتعرض لها، فكيف يحافظ هذا العامل على عمله وكيف نستطيع خلق فرص عمل إضافية لتقليص نسبة البطالة المتفشية حالياً؟ أوَ لم يقتنع مسؤولونا بعد كل التجارب الفاشلة، بأن ما من اقتصاد قوي يُبنى بدون قطاعات إنتاجية فاعلة؟
إن السماح للتقنيين الأجانب بالعمل في لبنان يخفف بعض التأثيرات الاقتصادية السلبية الحادّة التي يسبّبها استنزاف الأدمغة التي تهاجر من لبنان. وهذا يسبّب ضرراً على تنافسية الشركات. ولزيادة الطين بلَّة، فإن أغلب بضاعتنا المستوردة من الخليج والمعفية من الرسوم مصنّعة بيد عاملة أجنبية.
يقول وليامز إنّ مجلس الأساقفة الموارنة يقدّر بأن مليون لبناني تركوا البلاد حتى الآن، ويحثّ السياسيين على حل خلافاتهم. واحد من أصل أربعة لبنانيين يهاجر وليس من ذرّة حرج عند أحد من المسؤولين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن لبنان ربما هو البلد الوحيد في العالم الذي يُهجّر ربع سكانه ويحافظ من صمد منهم على السياسيين أنفسهم المسؤولين عن تهجير ربع السكان.
(3)
أطلق الاتحاد الأوروبي أخيراً، بالتعاون مع وزارة الاقتصادِ والتجارةِ، الميثاق الأورو ـــ متوسطي للمؤسسات، وهو اتفاقية طوعية بين الاتحاد الأوروبي والبلدانِ المتوسطية لتَوجيه صياغة سياسة المؤسسات المشاركة في الخبرات وتقديم أفضل أمثلة للممارسةِ بين موقّعي الميثاق.
يَتطلّعُ الميثاق إلى تَحسين بيئةِ العمل للمؤسسات عبر معالجة 10 نقاط أساسية:
1ـــــ إجراءات بسيطة للعملِ؛ 2ـــــ تعليم وتدريب للعمل الحرِّ؛ 3ـــــ تحسين المهارات؛ 4ـــــ توفير تمويل أسهل للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ 5ـــــ تأمين أسواق أفضل؛ 6ـــــ شركات إبداعية؛ 7ـــــ جمعيات محترفة قوية؛ 8 ـــــ مخططات وخدمات دعم عمل ممتازة؛ 9ـــــ شبكات وشراكات أورو ـــــ متوسطية؛ 10ـــــ معلومات واضحة وموجَّهة.
يبدو أن الاتحاد الأوروبي، كما البنك الدولي وهيرالد تريبيون والقطاع الخاصّ اللبناني، يحاولون أن يُخبروا المسؤولين في لبنان الأشياء نفسها بهدف دفع النمو وخلق فرص عمل وزيادة ثروتنا غير الملموسة، ومنها:
1ـــــ الاستثمار في التعليمِ (خصوصاً التعليم الرسمي)، وتدريب للمهارات والخبرة؛
2ـــــ تحسين الحوكمة والتأسيس لنظام قضائي فعّال وكفوء؛
3ـــــ تحسين المنافسة والنمو الاقتصادي، وخلق بيئة باعثة على الاستثمار وتطوير القطاعِ الخاصِّ، وترويج النمو في القطاعات العصرية مِنْ صناعة وخدماتِ، والدفع بإنتاجية العمل إلى الأمام؛
4ـــــ تطوير الثقة بين الناسِ وتشجيعهم على العمل معاً خدمة لهدف مشترك؛
5ـــــ تأليف حكومة فعّالة ومؤسسات تسمح للبناني باستثمار القوة العقلية التي يمتلكها؛
6ـــــ عكس عملية استنزاف الأدمغة وهجرة اللبنانين المهرة؛
لا بد من الإشارة إلى أن منظمة التمويل العالمية ومنظمة محلية غير حكومية لمحاربة الفساد كانوا يروجون أخيراً لحوكمة القطاع الخاص (Corporate Governance) . بالرغم من أن جُهودِ منظمة التمويل العالمية والمنظمات غير الحكوميةِ المحليّةِ مُقَدَّرة ومشكورة، إلا أنه في هذه الحالة أتت جهودهم في غير محلها، إذ إن القطاع العام هو الذي يحتاج إلى تطهير من الفساد وتطبيق معايير الحوكمة.
إن العديد من أكلاف لبنان الباهظة تأتي بسبب الرشوة. وهذا الواقع يجِب أن يتغيّر، إذا كنا نريد استعادة تنافسيتنا، فالقطاع الخاصّ لا يعمل في الفراغ، إنه يَحتاجُ إلى «مؤسسات ممتازة تَدْعم النشاط الاقتصادي»، كما ورد في تقرير البنك الدولي.
هذا التقرير الصادر تحت عنوان «ممارسة أنشطة الأعمال 2008» أو «Doing Business 2008» يَضعُ لبنان في المرتبة الخامسة والثمانين (بين بابوا غينيا الجديدة وصربيا)، من أصل 178 بلداً، لسهولة إطلاق الأعمال. مصر هي التي حققت أكبر كم من الإصلاحات في عام 2006ـــــ2007، وأحرزت تقدماً في مختلف المجالات (مثل إطلاق مشروع، حماية المستثمرين، تسجيل الملكية، التعامل مع الرُخَصِ، إلخ…). لقد قطعت مصر شوطاً كبيراً على طريق الإصلاح، فجعلت إطلاق المشاريع أسهل عبر خفض نسبة الرأسمال الأدنى وخفض كلفة ووقت إطلاق المشاريع الجديدة، في حين أن التقرير نفسه يفيد بأنّ حل نزاع تجاري في المحاكم اللبنانية يتطلب 721 يوماً، ما يَضعُ لبنان في المرتبة 121 بين 178 دولة.
يَحتاجُ المسؤولون اللبنانيون إلى أن يبدأوا بالتفكير لخطة على المدى البعيد، فلم يعد في استطاعتنا أن نعيش يوماً بيوم وأن نأكل خبزنا كفاف يومنا، لَمْ نعد نستطيع إلقاء اللوم على الآخرين نتيجة لفشلنا، إن كان الآخرون لاعبين محليين أو خارجيين. أما من ناحية رأس المال البشري والحوكمة، فلبنان لديه تاريخ طويل في الفشل ببناء نظام تعليمي فاعل ومؤسسات مقبولة بالنسبة إلى التعليم الرسمي. أما التعليم الخاص فيوجد بعض المدارس التي تتمتع بمستوى عالمي، وهذه أصبحت أكبر مجموعة مدارس خاصة في العالم، نعم الأكبر في العالم وهي تدير مدارس رسمية في الولايات المتحدة الأميركية.
لذلك، على المسؤولين أن يتوقفوا عن إلقاء المواعظ، وانتهاج سياسة البكاء والنقّ، وتقويض ثقة اللبنانيين بأنفسهم، إلا إذا كانوا يريدون الاستمرار بإخفاء نواقصهم وعوراتهم خلف أوراق التوت. عليهم أن يبدأوا اليوم برسم استراتيجية واضحة وخلق خطة إصلاح منظمة، وتبادل الأفكار حولها (حتى مع أعدائهم اللدودين) وتطبيقها حرفياً وضمن نطاق زمني محدد.
وإذا لم يتحقق ذلك، على اللبنانيين عندها أن يطلقوا صرخة جماعية واحدة: اذهبوا إلى بيوتكم.
* رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين