خلال الشهر الماضي تجولت في أربع قارات: آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وإفريقيا. وقد كتبت بالفعل عن البلدان الآسيوية، التي لامستها ميدانياً ـ وهي فيتنام والهند وباكستان وبورما (مينامار). وفي أوروبا، كانت ألمانيا هي موضع الملامسة. أما في أفريقيا، فقد كانت “مالي” وعاصمتها “باماكو” هي الموضع والموقف والتجربة المثيرة، التي سأكتب عنها مستقبلاً. المهم، أنه في هذه الجولة التي جُبيت فيها مشارق الأرض ومغاربها، التقيت ضمن من التقيت بهم مصريين أفذاذ في كل الميادين.
من هؤلاء المصريين في الميدان الدبلوماسي مساعد وزير الخارجية، السفير رؤوف سعد، وسفيرنا في مالي مصطفى الجندي. والتنويه بهذين الاسمين، هو لأنه كان مطلوباً منهما أن يردا ويفنّدا كل ما كان مفروضاً أن أقوله في منتديات عالمية. ففي برلين، حيث كان الاجتماع دون الوزاري الدوري لمنتدى المستقبل، الذي أسسته مجموعة الثمانية الكبار، لتطوير وإصلاح أنظمة الحكم في بلدان الشرق الأوسط الكبير، منذ قمة سي أيلاند في أطلانطا (2004). وكان مطلوباً مني في برلين تقديم رؤية المجتمع المدني لمسيرة هذا الإصلاح في السنوات الثلاث المنصرمة. وقد فعلت ذلك كتابة في ورقة بعنوان “المسيرة المترددة للديمقراطية”. وحيث كانت كلمتي في الجلسة الافتتاحية (22/10/2007)، فقد هدّد الوفد الرسمي المصري بالانسحاب من المؤتمر، وتضامنت معه السعودية والإمارات، “إن تفوهت بكلمة تخدش الرئيس مبارك”! وتحدث معي نائب وزير الخارجية الألماني قُبيل الجلسة، راجياً مني ألا أمس الرئيس مبارك في كلمتي حتى لا يتفجر المؤتمر بانسحاب ثلاثة وفود عربية. واستغربت أنا هذا الموقف “الصبياني”، ولكني وعدت مضيفنا الألماني خيراً! وألقيت كلمتي دون أن أغير حرفاً، وحيث لم أذكر مبارك، ولا غيره من الحكّام بالاسم قدحاً أو مدحاً. ولكني ذكرت بحيادية تامة الإنجازات والإخفاقات في كل البلدان العربية الرئيسية (المغرب، الجزائر، مصر، لبنان، فلسطين، والسعودية). ونوّهت بالتحول الديمقراطي الهائل في البلد الصغير الفقير، في أقصى الطرف الغربي للوطن العربي، وهو موريتانيا.
ويبدو أن عدم الهجوم الشخصي على الرئيس مبارك، وهو ما لا أفعله عادة، أراح الجميع بما فيهم المضيف الألماني، ومساعد وزير الخارجية المصري. وتسابق الجميع في تفريز الورقة. ثم رآني المشاركون أتحدث بود وحرارة مع أعضاء الوفد المصري الرسمي، الذي تصادف أنني أعرفهم جميعاً منذ سنوات. وتساءل بعضهم إذا كانت هذه العلاقة المهذبة والمتحضّرة بين المصريين ـ حكومة ومجتمعاً مدنياً ـ فما هي المشكلة في مصر؟. وكانت إجابتي أن المشكلة ليست في الدبلوماسيين المصريين ووزارة الخارجية، الذين نعتز بمستواهم الرفيع وأدائهم المحترم في الخارج. ولكن المشكلة تكمن في “البصاصين” المصريين ووزارة أخرى في مصر، وهي وزارة الداخلية، التي حوّلت مصر إلى دولة بوليسية.
وعلى ذكر المصريين المُشرّفين بالخارج، رأيت واستمتعت منذ أيام بعرض مسرحي موسيقي غنائي رائع، كتبه المسرحي الموهوب على سالم، وقام بتلحين موشحاته ورقصاته، الموسيقي العربي اللبناني الموهوب إلياس الرحباني. بعنوان “مُهجة القرطبية”، والذي تحوّل معه المكان والزمان، إلى “ليلة أندلسية”، في قلب مدينة الدوحة، عاصمة دولة قطر. أما أصحاب الحفل وأمهات عرائسه فهن العضوات الناشطات “لدار الإنماء الاجتماعي”. وهي أحد صروح المجتمع المدني في قطر والوطن العربي. وقد دأبت هذه الدار، أو الجمعية الأهلية، على تنظيم احتفالية سنوية لجمع التبرعات لبناء وقفية ذات عائد مستديم، لتمويل أنشطتها الخيرية والتنموية المتعددة. ولكن المتابع لاحتفالات هذه الجمعية، يلاحظ أنها إلى جانب أبعادها الترويجية المبهجة، فإنها تنطوي أيضاً على أبعاد تثقيفية جمالية عميقة. ففي سنواتها الأولى ركزت احتفاليات دار الإنماء الاجتماعي على ثقافة وتراث المجتمع القطري، ثم تدرجت الاحتفالية للامتداد عبر الخليج وبحر العرب إلى شواطئ الهند شرقاً، حيث تراث القطريين في الغوص وتجارة المسافات الطويلة. ثم اتجهت موضوعات الاحتفالية شمالاً وغرباً، عبر شرق المتوسط، حيث كانت احتفالية العام الماضي عن “البندقية” (ليالي فينيسيا). أما هذا العام فقد اتجه نظر القائمات على دار الإنماء بأنظارهن إلى أقصى غرب المتوسط، وحيث يربطنا تاريخ مجيد، بهضبة إيبريا، ممثلاً في الأندلس.
ومنذ اللحظة الأولى لولوج قاعة “الدفنة” بفندق شيراتون، يستقبل المشاهد جواً أندلسياً خالصاً، بحراسه، وأزياءه، وألوانه، وعطوره، وموسيقاه، وأسواقه، وديكوراته، ومشروباته، وأطباق عشائه. وكان المشاهد في ضيافة الخليفة عبد الرحمن الداخل، أو في ضيافة شخصية الخليفة الذي ابتدعه المؤلف، وهو الأمير العادل بن عبد الرحمن، الغني بالله والفقير إلى الله.
تجلى إبداع علي سالم في أنه خرج عن المعتاد في استرجاعه للمشهد الأندلسي. فالمألوف عند العرب طوال القرون الخمسة الماضية، منذ سقوط أخر معاقلهم في غرناطة عام 1492، هو البكاء على أطلال الأندلس. وكما يعرّف علماء الاجتماع “الإبداع” بأنه الاستجابة غير المعتادة، أي التفكير والسلوك غير النمطي. فقد كان هذا شأن مبدعنا الكبير. فقد اختار علي سالم موضوعاً مركزياً، لمسرحيته الغنائية، فحواه هو أن ما ميّز الأندلس هو أنه كان مجتمعاً تعددياً، سادته روح العدالة والحرية، واحترام المرأة. فوفد عليه بشر من أقاصي الأرض وأدناها، تعايشوا وتفاعلوا، فازدهروا وأبدعوا في كل الميادين. وهذه الأندلس هي التي ألهمت أوروبا عصر نهضتها، ثم عصر تنويرها، ثم عصر ثوراتها. فالأندلس منذ السطر الأول، ومنذ الجملة الأولى التي يسمعها مشاهدوا هذا العمل الكبير، هو أن “الأندلس كان أساساً فكرة”. وهو ما يعني أنها فكرة لا تموت، حتى لو أندثر من خلقوا الفكرة أو حملوها ورعوها في البداية. والفكرة أو المفهوم هو التعايش مع التنوع والحرية والعدالة والمساواة. إن هذه الفكرة قابلة للإحياء والتجديد والاستزراع. ومتى تجسمت في واقع وبشر، فلنا أن نتوقع نبتاً طيباً وجميلاً. ومتى فقدت الفكرة أحد عناصرها ـ الحرية أو العدالة، أو قبول التنوع ـ فإن المجتمع يبدأ في التحلل والانحطاط والاندثار. هذا هو مفهوم الأندلس، كما اختار علي سالم أن يقدمه في هذا العمل الكبير، الذي لم يجدّ بمثله الرجل منذ رائعته المبكرة “مدرسة المشاغبين”، قبل ثلاثين عاماً.
كانت شخوص المسرحية نماذج حية ممن نصادفهم في حياتنا اليومية المعاصرة. أي لم يكن بينهم أبطالاً أو بطلات “أكبر من الحياة”. فكانت الشخصية المحورية، التي نسج عليها وحولها علي سالم، بقية شخصيات وأحداث المسرحية هي “مُهجة القرطبية”، العرّافة الجميلة، ذات الثقافة الرفيعة والشخصية القوية، التي تقاوم لعب دور “العشيقة” لابن اللورد الإنجليزي (جون ستيوارت)، الذي جاء يتعلم العربية في جامعة قرطبة، على عادة ما كان يفعل أبناء الميسورين من كل أنحاء أوروبا ـ أي أن يقصدوا أكثر بلدان العالم تقدماً في المعرفة لكي ينهلوا منها، وكما نفعل نحن اليوم بإرسال أبنائنا لأوروبا وأمريكا. كذلك قاومت مُهجة إغراءات وعروض الأمير العادل بن عبد الرحمن أن تكون ضمن “حريمه” أو “جواريه”. كانت مُهجة تصر على أن يعاملها الجميع في مساواة ونديه. ومن يريد علاقة حميمة بها، فليس أمامه إلا أن يدخل بيتها من الباب الأمامي وليس من النافذة الخلفية. أي يطلب يدها من ذويها ويتزوجها شرعاً على سنة الله ورسوله.
كانت أحد الشخصيات الرئيسية أيضاً هي “تعبان ابن مرضان الحسداني”، الذي يكره الموسيقى والفنون والفلسفة، ويُحيّر ويبتز الجميع بأمراضه المستعصية، والتي جعلته يأتي من المشرق بحثاً عن تشخيص وعلاج عند الطبيب الفيلسوف محمد بن أحمد بن رشد، والذي كان شخصية خلافية، بسبب اعتناقه لأفكار الفلاسفة اليونان، من سقراط، لأفلاطون، لأرسطو. وكان موضع مقت وكراهية تعبان بن مرضان الحسداني من ناحية، وموضع شك مدير الشرطة (كبير البصاصين)، كأحد المتعاونين مع جهات أجنبية، وبالتخابر مع اليونان. وكثيرون مثل تعبان في قرطبة ذلك الزمان، كانوا يريدون حكمة ابن رشيد وخدماته الطبية، ولكنهم كانوا ينكرون عليه انفتاحه على الآخرين واعتناقه لأفكار فسلفية لا يفهمونها ويعتبرونها ضد الدين.
كذلك كان ضمن شخصيات المسرحية “عباس ابن فرناس”، ذو الخيال العلمي السابق لعصره، والذي يؤمن بقدرة الإنسان على الطيران في الهواء بأجنحة صناعية تحاكي أجنحة الطيور. ولإيمانه بالفكرة، توفر على دراستها. وتنفيذها، ولم يبالي بتهكم الكثيرون، وفي مقدمتهم تعبان بن مرضان الحسداني، وقائد الشرطة السرية (كبير البصاصين)، الذي لم يتوقف طوال العرض عن تقديم تقاريره السرية للخليفة الأمير العادل ضد كل مفكر وكل مبدع وكل مخترع، حيث أنهم يمثلون تهديداً للأمن العام، ولا بد أنهم على علاقة بجهات أجنبية.
حتى شخصية ابن خلدون، عالم الاجتماع الذي سيظهر بعد قرنين من ابن رشد، والذي تنبأت به العرّافة مُهجة القرطبية، واستحضرت روحه في مناسبة لتكريم ابن رشد، كان كبير البصاصين، مدير الشرطة، جاهزاً بتقرير سري عنه، وكثرة ترحاله، ومؤامراته وتخابره مع جهات أجنبية. وينتهي العرض برسالة واضحة أنه طالما استطاعت قوى التنوع والحرية والإبداع أن تقاوم قوى الانغلاق والخرافة والجمود، ظل الأندلس مزدهرا في مكانه، وحينما تغلبت هذه الأخيرة اضمحل الأندلس ثم اندثر وأصبح أثراً بعد عين. ولكن فكرة الأندلس ـ كتنوع وتعايش وحرية وإبداع ـ لم تندثر، بل انتقلت إلى أماكن وأزمان أخرى، في أوروبا وأمريكا والهند.
وربما كان تبني مؤسسة أهلية قطرية، وهي دار الإنماء الاجتماعي، لهذا العمل المسرحي الكبير، والذي شارك فيه مصريون ولبنانيون وقطريون هو في جانب منه احتفاء بدولة قطر نفسها، والتي تشبه اليوم في كثير من الوجوه أندلس القرن الثاني عشر من حيث انفتاحها على العالم أجمع، وتعاملها وتفاعلها مع الجميع دون خوف أو حساسيات. ويتعايش في قطر القرن الحادي والعشرين أبناء أكثر من مائة وستين جنسية أخرى. فكما وفد على سكان الأندلس الأصليين أجناس من كل صوب وحدب، فكذلك قطر، وبقية الخليج. ولكن الذي يميز قطر عن شقيقاتها العربيات عموماً والخليجيات خصوصاً، هو أنها اختارت “التميز” عنواناً لتعدديتها وتنوعها وتعايشها وإبداعها. إن عنوان تميزها الإعلامي هو “قناة الجزيرة”، وعنوان تميزها التعليمي هو “مؤسسة قطر للثقافة والتربية وتنمية المجتمع”، وعنوان تميزها في ريادة الإصلاح السياسي هو “المؤسسة العربية للديمقراطية”. وكذا نفس التميز في استخدام وتوظيف ما حباها الله به من ثروات في النفط والغاز ومعادن أخرى. فقد اختارت الأسرة الحاكمة أن تحوّل كل أصول الثروة القطرية إلى أسهم، يتم توزيعها بالقصقاص على أبناء دولة قطر. وهي من أكبر تجارب أعادة توزيع الثروة في العصر الحديث.
وما كان لهذه المآثر جميعاً أن توجد، وتستمر، وتترسّخ إلا بهوامش غير مسبوقة من الحريات العامة والاستقرار والازدهار. والسؤال هو هل سيتم “استزراع قطر ـ أندلسية”، في محيطها الخليجي والعربي، أم سيتم حصارها واحتوائها؟ والإجهاد عليها؟ والله أعلم.
saadeddinibrahim@gmail.com