بقلق يتساءل اللبنانيون عن مصير الاتصالات العربية والدولية وفرص نجاحها، وبثبات مريع في هدأته، يتلقف العالم أنباء نتائجها المحدودة، وبركتها القليلة، ويتراءى للقاصي والداني أنّ احتمال انقشاع سحب هذه الاتصالات عن مطر رحيم آخذ في التقلص، الأمر الذي يفاقم معاناة اللبنانيين وسوداويتهم، فما يتحدث عنه المحللون من عواقب الإخفاق ليس هيّنا هذه المرّة، خصوصا أنّ غثاثة النتائج ستعني لهم أنّ العالم قد يسارع إلى نفض يديه من الأزمة وشقاء البحث بشأنها، رغم عجزه عن الوقوف مكتوف الأيدي تجاه احتمالاتها المتضاربة، وفرص انتفاعه بما ستؤول إليه فصولها داخل لبنان وخارجه.
قبل أن نلج ما قد ينفع هذه الدولة أو تلك، وهذا الفريق اللبناني أوذاك، مما سيحدث في لبنان حال تعثر الوساطات، لا بد من الوقوف عند سيناريوهين متوقعين لعواقب إخفاق الجهود التوافقية على اسم الرئيس، فالفراغ كلمة لا معنى لها حتما، ولن يكون هناك فراغ بالمعنى السياسي للكلمة، حتى لو خلت سدة الحكم من رئيس صبيحة الرابع والعشرين من نوفمبر، فالدستور اللبناني شديد الوضوح في هذه النقطة، لأنه يقضي بتحميل الحكومة الحالية مسؤوليات الرئاسة انتظارا لانتخاب رئيس، ولا يبدو أنّ بإمكان قوى المعارضة اللبنانية التي وقع في وهمها أنّها احتاطت لهذا الاحتمال عندما طعنت بشرعية الحكومة، أن تغيّر الواقع، فإن لم يحدث تغيّر دراماتيكي في بنية الحكومة، فليس بمقدورهذه القوى أن تعرقل جهود مجلس الوزراء للحلول مكان الرئيس، أعني: حدوث استقالة مفاجئة لواحد أو أكثر من الوزراء، أو تغييبا قسريا باغتيال ممكن، أو فرار الرئيس فؤاد السنيورة من أرض الصراع السياسي، وتسببه شخصيا بإسقاط حكومته.
ولا أظنّ أنّ أحدا – خلا القاتل ذاته – قد يجادل في أنّ البناء على فكرة الاغتيال ليس أمرا مبسّطا أو ميسورا، بل إنّه أشبه بحرث الماء، إذ لا يصح موضوعيا أن يراهن أحد على جريمة، ويمنع خياراته السياسية من التبلور انتظارا لوقوعها، فالجريمة ليست عملا في وضح النهار، ولا حدود للضعف أمامها، وعلى الرغم من الوقائع التي تؤكد فعاليتها النفسية في المقام الأول وربما الأوحد، فإنها خفيفة الوزن قبل وقوعها، وأخفّ في نظر العامة والسياسيين على اختلاف المشارب والانتماءات بعدها، لأنّ ردود الأفعال الناجمة عنها موّرطة سلفا في خيار وحيد: الإدانة من جهة، وتقطيع متعمد للأصابع عن الاستثمار السياسي من جهة ثانية، ولأنها كذلك، فإنّ الأنظار وفق هذا السيناريو تتوجه لاحتمال حصول استقالة طوعية، سيتحمّل من يقدم عليها حال شغور الرئاسة مسؤولية جسيمة، قد يمنعه وزرها من الإقدام عليها، وعلى الرغم من أنّ حصان طروادة لم ينفتح بعد عن فرسانه الأشاوس المستعدين لاقتحام المدينة وتفجير الوضع، إلاّ أنني أرجّح أنّ سقوطا سياسيا محتما سينتظر المتجرّئين على هذا الفعل الأحمق! الأمر الذي يعني احتراق هذه الورقة عمليا فقد فات أوان استخدامها إلى الحدود التي أفقدتها أهميتها!
وهكذا، فالأقرب إلى الواقع أنّ تفجير الحكومة من الداخل أمر مستبعد، وأنّ الوزراء جميعا سيبقون على رأس مناصبهم، خصوصا أنّ شرعية الحكومة ومشروعيتها، لم تتأتّ من الثقة النيابية فحسب، فلا أحد يستطيع التغاضي عن حيوية الاعتراف العربي والدولي بها وبدستوريتها، وسيصعب تصوّر أنّ ما لم يحدث طوال اثني عشر شهرا تلت استقالة الوزراء الستة، سيكون وارد الحدوث حال خلوّ قصر بعبدا من رئيس، فالحاجة لاستمرار الغطاء العربي الواسع، والدولي الأوسع ستتعاظم، وستلعب دورا مضاعفا في التشبّث بالاعتراف، والتشديد عليه.
لا فراغ إذن، حتى في حال تراجع الأكثرية عن الانتخاب بالنصف زائدا واحدا، ولن يجدي الصراخ باللاشرعية واللاميثاقية لأصحابه نفعا؛ لأنّ المصارف ترتبط بالخارج، والجيوش تفعل كل مأثرة، إلا الإقدام على ممانعة الحكومة؛ فهو أمر خطير يهددها بالانقسام جيوشا، والعصيان المدنيّ السلميّ – على مخاطره ومصاعبه – سيكون خيار المعارضة النموذجيّ للتعايش الأقل كلفة مع هذا السيناريو، رغم أنها تدرك، ويشاطرها الجميع إدراكها، أنّ العصيان المدنيّ سيكون منقوصا إلى حدود فادحة.
أمّا احتمال اقتحام السرايا وتغيير الوضع الحكومي بالقوة فما زال مبكّرا جدّا، والواقع الإقليميّ والدوليّ ليس مستعدّا بعد لنشوب حرب أهلية جديدة في لبنان، وستلعب القوى المتناوئة أدوارا مميزة لتفادي وقوع الاقتحام، نأيا بجلدها عن حريق حرب ستنجم عن هذا الحمق بشكل شبه مؤكد، ولقد سبق أن تصرّفت فرق الإطفاء بمسؤولية وإتقان واحتراف كما يجب قبل عشرة أشهر، عندما منعت حماقة الهجوم على السرايا الحكومية، وأصبح نزع هذا الفتيل إحدى خبراتها المميزة!
فإذا كان السيناريو الأول لن يزيد عن واقع حكومي صعب، كما هوالآن، وعصيان مدنيّ منقوص، يمكن تلمّس بعض جوانبه اليوم! فما هو السيناريو الثاني إذن؟
انتخاب الأكثرية الرئيس وفق تصورها الدستوري، وهو أمر سيعني تجاذبا طويلا وصاخبا بين فريقي الموالاة والمعارضة، أطول مدى من عشرة أشهر، وأصخب في التصريحات من ضوضاء التشكيك السابق بشرعية الحكومة، لأنّ الواقع الدستوريّ، والمدى السياسي اللبناني والعربي والدولي، سيعزز فرص الرئيس في إجراء استشاراته النيابية، بمن حضر بالطبع، وستكون الأكثرية بطبيعة الحال أكثر من حاضرة، حال عدم التوافق على المقايضة التي يبدو أنّ الصراع بشأنها قد نشب للتوّ، أعني: المقايضة التي تتمثّل في التسليم بشرعية الرئيس الأكثريّ، مقابل الفوز بفرصة التعطيل الحكومي، عبر منح المعارضة الثلث زائدا واحدا في الحكومة المرتقبة.
سيختار المعارضون متنوعو السحنات موحدو المصائر، إذن، بين رئيس يحكم بواسطة أكثريته النيابية وحدها، على ما يطويه هذا المشهد من صخب وحنق وموتورية واغتيالات لا يرجّح إلا الشعراء توقفها، وبين تفاهم على بنية حكومية يشعر هؤلاء إزاءها بأمان ما، ورضى ما.
والحق أنّ فرص المعارضة في تحقيق أرباح تعوّض بها شيئا من الخسائر السابقة في مضمار هذه المقايضة، تبدو أوفر مما لاح أنّها ستكسبه من محاصرة السرايا، وانغراس الخيام الملأى تارة، والفارغة تارات في قلب العاصمة، فهذا المضمار بالذات، يعد بإمكان نجاح قوى الثامن من آذار المدعّمة بالجنرال ميشال عون، لأول مرة، في فصل صقور قوى الرابع عشر من آذار عن حمائمها.
السيناريو الثاني إذن: رئيس أكثريّ وحكومة تعطيل، وانفصام شبه أكيد لقوى الرابع عشر من آذار، أو: رئاسة أكثرية وحكومة أكثرية، تحفظ انضباط اللعبة الديموقراطية من جهة، وتهدد بأعمال فوضى هنا وهناك، لا تتفاقم إلى حرب أهلية في المدى المنظور، رغم حمأة متوقعة في الاغتيالات السياسية تضطرم نيرانها على نحو ملحوظ، وانتظار على أوتار أشد رهافة وتوترا وقلقا أو هلعا من جهة أخرى.
لا سيناريوهات أخرى تكتسب مصداقية قد تعقب إخفاق الوسطاء، وسقوط مبادرات التوافق، ولكنّ ما يرشح عما سبق وأوردناه، أنّ التآكل في آمال قوى الثامن من آذار والجنرال عون سيتعاظم، وأنّ أحلام القبض على الرئاسات الثلاث، آخذة في التبخّر، وأنّ الخاسر الأكبر في هذه المعمعة لن يكون وليد جنبلاط كما يدأب مناوئوه على التذكير، وليس سمير جعجع الذي توعّده الجنرال عون بالشطب السياسي، بعد أن أعياه شطبه عسكريا عام 1989، وليس الحريرية السياسية التي طالب الجنرال بشنقها قبل أن تشنق لبنان، والخاسر الأكبر لن يكون أيضا حزب الله الذي لا تشي الوقائع أنّ حاضنته الشعبية في وارد التخلي عنه في المدى المنظور، فعلى الرغم من خسارته لعبة التغيير الحكومي، وإخفاقه حتى اللحظة في التحكّم بملف رئاسة البلاد، إلاّ أنّ حاضنته الاجتماعية دأبت على تمكينه من الاحتفاظ بموقعه المفصليّ على امتداد الخارطة السياسية اللبنانية.
ولن تتفاقم خسائر حركة أمل والرئيس بري بعد الآن، لأنّ دولة رئيس مجلس النواب ما زال قادرا على اقتسام الشعبية الشيعية مع حزب الله، وسيبقى دولته لسنة ونصف على الأقل رئيسا شرعيا، وميزان ذهب شديد الضبط لمصالحه، ومغانمه، وخسائره، وقطبا سياسيا يتجمع حوله غير طرف ولغير سبب.
الحق أنّ الخاسرين سيكونون أولئك الذين راهنوا على استمرار كفاءة النظام السوري في القبض على الخيارات اللبنانية، والتحكم بمفاتيح لوحة لبنان السياسية، وأبرزهم أنصاره، ودعاة وحماة نهجه السياسي الفريد، بين الممانعة والرضوخ، وعند منتصف المسافة بين المقاومة والممانعة، وقبل منعطف التفاهم، وبعد تقاطع المحاور، يمين إيران ويسار غيرها! فهؤلاء الذين تجوز تسميتهم أيتام النظام السوري في لبنان سينصرف عنهم السناريوهان السابقان، ولن يشملهم التوافق ذو الحظوظ الضئيلة، وسيكفكفون دموعا سخينة، ولن تنفعهم مناديل الجنرال ميشال عون فعيناه أولى بالاهتمام، ودموعه أثمن وأغزر، ولا عزاء لأحد!
khaledhajbakri@hotmail.com
* كاتب سوري