استأنفت السلطات السورية مؤخراً تنفيذ عقوبة الإعدام العلني، في حق مدانين ببعض جرائم القتل المروعة، من خلال تعليق أعواد المشانق في الساحات والأمكنة العامة في المدن والقرى التي أرتكبت فيها هذه الجرائم، وتنفيذ عقوبة الإعدام بالمدانين علانية في الحيز العام وعلى مرآى ومسمع من آلاف البشر، ناهيك بنشر الصور على الصفحات الأولى من الجرائد. نريد في هذه المقالة، بمعزل عن هول الجرائم المرتكبة في مثل هذه الحالات، أو بالرغم عنها، مناقشة معنى العودة إلى تنفيذ هذا النوع من العقوبات، وبهذا الطريقة العلنية، في سوريا. وسيكون مرجعنا الأساسي في هذه المناقشة وضع شرعة حقوق الإنسان، ليس فقط في جانبها السياسي والقانوني، ولكن أيضاً في الجانب الإنساني المتعلق باحترام قدسية الحياة البشرية والكرامة الإنسانية، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع ككل.
يوم الإثنين الواقع في 9\7\2007، وبعد انقطاع دام سنوات عديدة، تم تنفيذ عقوبة الإعدام العلني شنقاً بمصطفى الشمالي (تولد 1980) في ساحة بلدة النشابية الواقعة في ريف دمشق، بعدما أدانته محكمة الجنايات بخطف الطفلة الصغيرة رويدة (أربع سنوات) من البلدة وإغتصابها وقتلها والتمثيل بجثتها. وقد تم تنفيذ عقوبة الإعدام بحضور مئات المواطنين إلى جانب العميد قائد شرطة المحافظة ومدراء المنطقة والقضاة. وجاء تنفيذ الحكم بهذه الطريقة ايذاناً بعودة الإعدامات العلنية إلى سوريا، وبحسب ما أوردته جريدة “الثورة” الرسمية الصادرة في ذات اليوم الذي جرى تنفيذ حكم الإعدام، فأنه: “تقرر أن يتم تنفيذ حكم الاعدام صباحاً وذلك في الساحة العامة بمنطقة النشابية موقع حدوث الجرم وهي تجربة جديدة اتخذتها السلطات المعنية في تنفيذ الاعدام بالمنطقة التي ارتكب فيها الجرم ليكون عبرة لغيره ولاصحاب النفوس الضعيفة ولمن تسول له نفسه ارتكاب هذه البشاعة من اغتصاب لطفلة لا تتجاوز الاربع سنوات”. لنترك هنا مناقشة فكرة “العبرة” المتحققة من تنفيذ حكم الإعدام إلى فقرة لاحقة، لكن لنفتح قوسين بخصوص ما اعتبره الإعلام الرسمي السوري “تجربة جديدة” تتخذها السلطات المعنية، ولنسأل بماذا تجرب هذه السلطات؟ وأين التجديد في إعدام الناس في الشوارع؟
بعد أقل من شهر على تنفيذ الإعدام العلني في بلدة النشابية، تم مجدداً، في 4\8\2007، تنفيذ حكم الإعدام شنقاً حتى الموت في حق علي محمود الأحمد (من مواليد 1977) في الساحة العامة بمدينة مصياف وسط سوريا وبحضور مئات المواطنين وقائد المنطقة الوسطى وممثل النيابة العامة وقائد الشرطة العسكرية ومدير منطقة مصياف، وجاء تنفيذ الحكم بعد ان أصدرت المحكمة العسكرية الميدانية حكماً مبرماً باعدام القاتل لاقدامه بتاريخ 22\5\0072 على اغتصاب الطفل عمار (من مواليد 1999) بعد أن استدرجه لمكان مخفي عن الانظار، ومن ثم أقدم على ضربه على رأسه بقصد قتله خوفاً من افتضاح جريمته. وقد نقل الطفل إلى أحد المشافي لكنه توفي متأثراً باصابته الخطيرة في رأسه مما أدى الى النزف الدماغي. وقد جرت محاكمة القاتل وإعدامه في فترة قياسية لم تتجاوز الشهرين ونصف الشهر بين ارتكاب الجريمة وتنفيذ الحكم!
لم تمض ثلاثة أشهر على تنفيذ الإعدام العلني في مدينة مصياف، حتى كان نصيب مدينة حلب، عاصمة الشمال السورية، استعراضاً مشهدياً لعملية إعدام جماعية في ساحة باب الفرج في وسط المدينة حيث نفذ حكم الإعدام بعصابتين من الشباب تورطوا في أعمال السرقة والقتل. فقد تم تنفيذ حكم الإعدام بحق رضوان حسن محمد (تولد 1987) و خيرو خليف الفارس (تولد 1984) بعد أن تمت إدانتهما في محكمة الميدان العسكرية، رغم أنهما مدنيين، الأول بجناية القتل المشدد الواقع على أكثر من شخص (8 أشخاص) تمهيداً لجناية السلب بالعنف والثاني بجرم التدخل بالقتل قصداً الواقع على أكثر من شخص (4أشخاص)، أم شريكهما الثالث نايف محمد النايف (تولد 1991) فقد نجى من المحكمة العسكرية وستتم محاكمته أمام محكمة الأحداث المختصة. وهؤلاء الثلاثة ارتكبوا منذ بداية شهر حزيران وخلال فترة أسبوعين سلسلة من أعمال السلب في حلب وريفها، بدأت بالتهديد بالسلاح وانتهى بعضها لاحقاً إلى سقوط جرحى وقتلى، قبل أن تنجح قوات الأمن في توقيفهم مستخدمة الطائرات المروحية. أما الثلاثة الآخرون الذين جرى إعدامهم على المنصة نفسها، وهم عبد الحي عبد الحي (تولد 1987) وصالح يوسف محمود وحسن أحمد خلوف، والأخيرين عمرهما 18 عاماً فقط، فأدانتهم المحكمة العسكرية الميدانية بالإعدام، الأول لارتكابه جرم القتل بحق سائق تكسي (منير اللولو 62 عاماً) بطعنه بخنجر بغرض سلبه، ورفيقاه للتدخل في جرم القتل ومساعدة الأول في ارتكاب جريمته.
نفذ حكم الإعدام شنقاً بالشباب الخمسة في الصباح المبكر في واحدة من أكثر ساحات حلب مركزية، في حضور ممثلي الجهات الرسمية في الدولة كقائد المنطقة الشمالية و قائد شرطة المحافظة ورئيس فرع الشرطة العسكرية والنيابة العامة العسكرية والنيابة العامة ورئيس فرع الأمن الجنائي بالإضافة إلى مئات المواطنين الذين صفّقوا، بحسب بعض مواقع الأخبار الإلكترونية التي غطت الحدث، وهتفوا اثر تنفيذ الحكم “الله أكبر” و “بالروح بالدم نفديك يا بشار”.
وإذا كان صحيحاً أن عقوبة الإعدام في بعض حالات الجرائم المروعة، قد تكون شعبية ومرحب بها، ليس فقط من قبل أهل الضحايا ولكن من قبل الجمهور العريض. لكن مع ذلك، فعلى الموقف الرافض لعقوبة الإعدام أن ينطلق من معايير إنسانية وأخلاقية لا علاقة لها بأي شكل من الأشكال بشعبية عقوبة الإعدام من عدمها.
لا للإعدام
قد يظن البعض أن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام في بلد كثير المشاكل والهموم مثل سوريا، نوع من أنواع الترف الفكري. لكن هؤلاء يتناسون أن أحد آباء الاستقلال السوري، الرئيس شكري القوتلي، الذي حكم البلد في فترتين رئاسيتين من العام 1943 إلى العام 1949، ومن العام 1954 إلى العام 1958، والذي صدر في حقه غيابياً الحكم بالإعدام أبان الثورة السورية في العام 1925، ظل يرفض من حيث المبدأ التوقيع على عقوبة الإعدام في حق أي مدان مهما بلغت فداحة جريمته. الطريف أن الذاكرة الشعبية احتفظت للقوتلي بهذا الفضل، ونسبته إلى واحد من أكثر الجوانب إنسانية في شخصية الكائن البشري، ألا وهي عاطفة الأمومة. فالناس ظلت تردد أن شكري القوتلي رفض توقيع أي مرسوم إعدام، استجابة لوعد قطعه لوالدته حرصاً على رضاها، وهي التي أصرت أن لا يقترن اسم ابنها بإعدام أي إنسان، وأن لا تعاني أي أم من الذي قاسته هي غداة الحكم الغيابي على ابنها في العام 1925.
لكن بعيداً من هذه الحادثة المعبرة، يظل من المؤسف والمؤلم أن تعود عقوبة الإعدام إلى شوارع المدن والقرى السورية، من دون أن يكون المجتمع السوري قادراً على التفكير بصوت عالي، من حول هذه الممارسة التي ترعاها دولته وتتم باسمه ويروح ضحيتها بعض أفراده. السطور اللاحقة تبغي إثارة بعض الأسئلة على الضمائر السورية الحرة، علها تساهم في فتح باب النقاش في هذا الموضوع المهم.
السؤال المركزي في مواجهة عقوبة الإعدام، يظل مرتبطاً بقدسية الحياة البشرية وبالإيمان بأن الحق في الحياة هو أحد الحقوق المؤسسة لإنسانية الكائن البشري ولشرعة حقوق الإنسان. من هنا تنبع أهمية عدم إعطاء الصلاحية، ايّ كان وتحت أي مسبب كان، في نزع الحياة من الإنسان، التي وهبها الله له وهو الوحيد القادر على انتزاعها منه.
وإذا كان البعض يتحجج في إعطاء الدولة حق إنزال عقوبة الإعدام بالمجرمين الخطرين، بضرورة استتباب السلم الأهلي وردع أصحاب النفوس الضعيفة من الإقدام على ارتكاب بعض الجرائم الفادحة، فلا شيء يثبت البتة أن إعدام المجرمين الخطرين، في أي بلد من البلدان، ساهم في خفض معدلات الجريمة وحال دون تفشيها. فالمدخل الرئيس الذي يمكن من خلاله مقاربة الجريمة كظاهرة اجتماعية، يظل مرتبطاً بمعايير من مثل معدلات الفقر ونسبة البطالة و التفاوت الاجتماعي ومدى تفكك النسيج العائلي والاجتماعي، بالإضافة إلى هيبة وفعالية جهازي الشرطة والقضاء. وتالياً فإن أي معالجة تستهدف خفض معدلات الجريمة، لا يمكن لها أن تركز فقط على الجانب الردعي، ولا بد لها أن تأخذ بعين الاعتبار المعايير الأخرى التي أتينا على ذكرها.
يفترض بعض مؤيدي عقوبة الإعدام، أن الأساس فيها هو الاقتصاص من القاتل بالمثل، وفقاً لمبدأ السن بالسن والعين بالعين. والسؤال: هل من المنطقي أن يتم الرد على العنف بالعنف؟ ولماذا لا تلجأ الدولة إذاً، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، إلى إغتصاب المغتصب، وسرقة السارق، وحرق منزل مفتعل الحرائق؟ أليس الأساس في صيانة هيبة القانون وفعاليته هو في إنزاله القصاص بحق من يستحقه وفقاً لمنطق العدالة وبعيداً عن منطق الثأر؟
تجمع قوانين أغلب الدول، بما فيها الكثير من الدول العربية، على إلغاء التعذيب وتجريم ممارسته بالإضافة إلى إدانة العقوبات الجسدية من حيث المبدأ، بحق كائن من كان، وبمعزل عن طبيعة الجرائم التي ارتكبها. من هذا المنطلق يصبح من المنطقي والمشروع التساؤل عن مشروعية التعذيب الرهيب الذي يلحق بالشخص المدان بعقوبة الإعدام. والتعذيب المقصود في هذه الحالة، لا يرتبط فقط بالتعذيب الجسدي الذي يقع على المدان لحظة تنفيذ عقوبة الإعدام، ولكنه يتعلق أيضاً بالتعذيب النفسي الذي يتعرض له المحكوم بالإعدام، وهو ينتظر أياماً أو شهوراً أو حتى سنيناً، حتى يحين موعد تنفيذ الحكم بحقه. ناهيك عن التعذيب النفسي الرهيب الذي يتعرض له المدان في اللحظات الأخيرة التي تسبق موته وهو يساق إلى قدره “المحتوم” بفعل منطق الدولة.
يبقى أخيراً السؤال الأهم، الذي يدخل في صميم فكرة العدالة التي هي روح كل القوانين والتشريعات: ماذا لو ظهر لاحقاً أن المدان الذي نفذت بحقه عقوبة الإعدام، كان بريئاً من التهم التي أدين بها؟ عندها لن يكون من الاستحالة مراجعة الخطأ وتصحيحه فقط، ولكن سيكون من الصعوبة بمكان إعادة الهيبة والاحترام لعدالة فقدت مشروعيتها ولقوانين فقدت فعاليتها. هذا ناهيك عن أن أغلب من تقع في حقهم عقوبة الإعدام هم من معدومي المجتمع، في حين نادراً ما يتم سوق النافذين وأصحاب الجاه والنفوذ إلى أعواد المشانق، برغم فداحة الجرائم التي قد يرتكبونها.
استعراض الموت
في وقت ألغت فيه دول كثيرة عقوبة الإعدام من دساتيرها أو جمدت تطبيق هذه العقوبة في الممارسة، بحيث وصل عددها إلى 130 دولة، قررت السلطات السورية ليس فقط تفعيل عقوبة الإعدام، ولكن نقلها إلى الحيز العام وتطبيقها في الشوارع والساحات العامة، معلنة بذلك عودتها إلى ممارسة قروسطية لم يعد يطبقها في عالم اليوم إلا بضع دول من بينها إيران والمملكة العربية السعودية. وإذا كان تبرير هذه الممارسة، ارتبط في الماضي بمفهوم معين لفرض هيبة القوانين وإظهار قدرة الدولة على البطش بمن ينتهك هذه القوانين، فإن تطبيق هذا النوع من الإعدامات العلنية في عصرنا الراهن، إنما هو اعتراف مضمر من الدولة المعنية بضعفها وعجزها عن مواجهة المسببات الفعلية التي تقف وراء تفشي ظواهر السلب والقتل العمد في طول البلاد وعرضها. يزيد الطين بلة، أن السلطات في سعيها إلى اصدار حكم الإعدام وتنفيذه بالسرعة القصوى، قدمت بعض المتهمين إلى المحاكم الميدانية العسكرية في مخالفة واضحة للدستور السوري، كون المتهمين ليسوا من العسكريين وكون جرائمهم لم ترتكب بحق أفراد الجيش أومعسكراته، وتالياً فإنه كان يجب محاكمة المتهمين أمام محكمة الجنايات ووفقاً لقانون العقوبات السوري، وذلك مهما طالت مدة المحاكمة ومهما تطلبته من دفاع واستئناف ونقض وفقاً للقوانين المرعية.
أما المريع في بعض النقاشات الصحفية التي ترافقت مع تنفيذ عقوبات الإعدام في الساحات العامة، أن المبرر الذي ساقه بعضها للمطالبة بمنع التنفيذ العلني لهذه العقوبات، وهو الخوف من صدم مشاعر السياح الذين ربما صادف مرورهم في الأمكنة التي يجري فيها الإعدام، وبالتالي الإساءة لصورة البلد في عيونهم والتأثير على موسم السياحة فيه!! في حين لم يكترث أحد بمشاعر المواطنين السوريين، وبمقدار العنف والغرائزية والخوف الذي تولد في دواخلهم وهم يشاهدون “حفلة” الإعدام الجماعي هذه.
أذكر أننا، في نهاية السبعينات من القرن المنصرم، في دمشق، كنا تلامذة صغاراً يقلنا الباص كل صباح إلى المدرسة، إلى أن وقعت الواقعة وانكسر شيء في طفولتنا عندما مرّ الباص في ساحة العباسيين لتقع أعيننا على جسد مدلى من حبل مشنقة. من المستحيل علي هنا أن أصف الصمت الذي ساد فجأة صفوف الطلاب أو الفراغ الذي ملأ أعينهم، لكن الأكيد أن أي قاضي أو مسؤول لو كان معنا في ذلك اليوم، سيتردد ألف مرة ليس فقط في إيقاع عقوبة الإعدام العلني بحق أي مجرم، ولكن في إيقاع عقوبة الإعدام من أساسها.
في جميع حالات الإعدام السابقة التي أتينا على ذكرها في المقدمة، تم عصب أعين المحكومين ولفت أجسادهم بغطاء أبيض علقت عليه خلاصات وقائع الجرائم والأحكام الصادرة، والتي تبتدئ بالعبارة المعهودة وبالخط العريض “باسم الشعب العربي في سوريا”.
كأحد أبناء هذا الشعب السوري، وكمواطن له الحق في التعبير الحر عن رأيه وفي امتلاك قراره المستقل، وفي إنتظار أن يتم تعديل الدستور السوري وأن تلغى عقوبة الإعدام منه، فإن أضعف الإيمان اليوم هو أن أسحب اسمي من لائحة أحكام الإعدام الصادرة باسم الشعب السوري. نعم ليس باسمي ولا باسم أطفال الباص الذي مر ذات يوم من أمام أعواد المشانق في ساحة العباسيين، ولا باسم أي طفل صادف مروره في الساحة العامة في النشابية أو مصياف أو حلب، ولا باسم أي مواطن حريص أن لا تفقد سوريا جزءاً من إنسانيتها.
aliatassi@yahoo.fr
* كاتب سوري