في اليومين الماضيين قدمت مجموعة من الإعلاميين مشاريعهم التي تساعد في رفع مستوى الوعي بثقافة حكم القانون في الخليج والأردن، كان من بين أفراد المجموعة التي عقدت لقاءها الثاني في أبوظبي خطيب جامع من الأردن، شارك في الحلقة الأولى في يونيو الماضي في صقلية، وخلال الحوارات التي جرت بينه وبين عدد من المشاركين في النقاشات التي كانت تجري على هامش الاجتماعات كان الشيخ المعمم يتمتع بصبر يندر وجوده في نظرائه لاحتمال وجهات النظر ممن يختلفون معه بشكل جذري في قضايا متعددة، بعض ما طرح من الآراء، أشار بشكل غير مباشر بأن العمائم هي مصدر رئيس في عدم احترام القانون، وعامل أكبر في انحطاط الثقافة الراقية، وأن الحديث عن ثقافة احترام القانون لا يمكن أن يتسق مع رسالة المسجد.
التحول الكبير الذي أفصح عنه الشيخ مصطفى ابو رمان الجمعة الماضية حدث بعد اللقاء الأول في صقلية، لقد عاد إلى بلده وقضى الشهور الأربعة الماضية في اجتماعات مع نظرائه من الأئمة والخطباء، وكتابة خطابات إلى أفراد ومؤسسات حكومية وأهلية طالباً دعمهم ومساندتهم في إعداد دورات وبرامج تساهم في نشر ثقافة احترام القانون، ولكن صدور ذلك من شيخ كان مثيراً للاستغراب والدهشة عند بعض من قابلهم، فكان في نظرهم كالذي لبس ثوباً ليس له، كان ينتظر منه أن يحصر نشاطه في الدور التقليدي لإمام المسجد، والحق أنه كان بين نارين، فلا الليبراليون راضون عنه، ولا أقرانه مطمئنون لرسالته الجديدة، وبما أن غالبية المشاركين في الحلقة من صحافيين ومؤلفين وأساتذة جامعات ومنتجي أفلام من هوليود، فقد كان هو الشيء المميز بيننا بلغته ولباسه وإيمانه الراسخ بأننا قادرون على أن نستغني بسنة الرسول ووصايا بعض الأئمة الأقدمين وحكمهم عن كثير من الفلسفات التي لم تعرف وحي السماء.
الدرس الكبير الذي استفدته أنا أن البشرية بلغت من النضج والقدرة على ابتكار التشريعات التي كونت سياجاً يحمي كرامة الإنسان وينمي فيه نوازع الخير ويزرع في ضميره كوابح الظلم حداً ظهر أثره في لغة إمام المسجد وطريقة تعامله مع القضايا. هذا انتصار كبير للعقول الكبيرة التي آمنت بقدرة العقل البشري على صوغ تشريعات تغطي حاجة المجتمعات إلى السلام وبناء الإنسان الصالح، وهي خبرات تراكمت عبر قرون حتى أنتجت لنا مواثيق حقوق الإنسان ومفاهيم كبرى مثل احترام القانون والإيمان بمساواة الجميع في الخضوع له.الدين اليوم ومستقبلاً هو الذي ”يتلبرل” وليس العكس ولكم الرهان على ذلك.
كلما كان لدينا روح الاستعداد للاستماع إلى الآخرين والاستفادة من تجاربهم فبإمكاننا أن نشعر بالطمأنينة تجاه حاضرنا ومستقبل أبنائنا، فليس هناك ما هو غير قابل لإعادة النظر وإعمال الفكر فيه، حتى تلك الأفكار التي صحبتنا كالنفس منذ نعومة أظفارنا، وكانت على الدوام تمثل لنا الأرضية التي نستند إليها وأساس القيم ومنظومة الأخلاق الاجتماعية التي تؤطر نظرتنا للسلوكيات المقبولة والمرفوضة، وبواسطتها نصدر أحكامنا تجاه الآخرين، وتشكل الجزء الأكبر من بواعث نفرتنا وانقباضنا وعِلَلِ ميولنا الشخصية وانبساطنا للسلوكيات والممارسات التي لم نعهدها.
تكمن أكبر المواقف إيلاماً في تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بأنه مرغم على انتهاك عذرية فكرة كانت تمثل له الحائط الذي يسند إليه ظهره والكهف الذي يلجأ إليه دائماً في لحظات اليأس والإحباط، إذ تكشف له مطارق الأسئلة المزعجة أن صندوق العجائب الذي خلب لبه ولم يكن يجرؤ يوماً على كسر قفله ورؤية ما بداخله لم يكن سوى أوهاما فارغة، وأن تلك الدزينة من توابيت الأقدمين المقدسة التي تنوء بها روحه وتثقل كاهله وتسمم جوامح أحلامه وتقمع بؤر الإبداع في تفكيره ليست سوى مصدر عذابه وتكسُّح عظامه والحجاب الذي حال بينه وبين رؤية الأفق الأرحب والأجمل.
ليس هناك ما هو أكثر جهلاً وغروراً منا حينما نعتقد أن كل الأفكار الجميلة الصالحة قد تم استنفادها، وأن كل ما ينبغي علينا فعله اليوم هو التسليم بما ورثناه وإفناء أعمارنا في الدفاع عنها وإحراق البخور من حولها وحمايتها من أن تطالها معاول النقد فالإبداع وإنتاج الأفكار لاحدود له، فلم تنتج البشرية عبر التاريخ من المعرفة والأفكار الفلسفية الكبرى مثل ما أنتجته في القرون الخمسة الأخيرة، ومازالت قادرة على العطاء بشكل لا يمكن تصور حدود له.
في العصور المتأخرة استطاعت البشرية بحكمائها وفلاسفتها ومفكريها أن تبتكر من الأفكار والمفاهيم التي ساعدت على جعل الحياة أفضل وساهمت في تعارف الشعوب على بعضها وفرض السلم وقيم الخير ونشر المحبة حداً لم يحصل عشر معشاره فيما سبقه من حقب التاريخ. لقد تمكن البشر من توصيف وحصار الأفكار الشريرة التي كانت لقرون طويلة تشكل ركنا أساساً من ثقافات مجتمعاتنا ومصدراً للاحتراب والفتن التي أحرقت الأخضر واليابس.
الأفكار النيرة اليوم نجحت إلى حد كبير في إيجاد منظومة من القيم الخيرة لردع جنون الحروب الدينية، وبلغت البشرية من الرقي حداً يسمح لكل الرافضين للحروب الأخرى من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات والجمعيات الأهلية المستقلة بالتظاهر والاحتجاج والتعبير عن موقفهم، ولولا ثورة الاتصالات والإنترنت التي تساعدنا على معرفة ما يحدث في أي بقعة على ظهر البسيطة في لحظة وقوعه لأمكن سحق مجتمعات بأكملها وطمس حقائق عن معاناة مجتمعات قد لا نجد لها ذكراً إلا في تقرير صحافي أو سطر في مجلة مغمورة أو تقرير خاطف لوكالة أنباء.
* كاتب سعودي
للتواصل والحوار مع النقيدان: alngidan@yahoo.com
جريدة “الوقت” البحرينية