سامح فوزي*
بمجرد أن أعلنت عن رغبتي في خوض انتخابات نقابة الصحفيين حتى تفضل عدد من الزملاء بالاتصال، والسؤال، والحوار، والمتابعة الصحفية في عدد من الصحف ومواقع الانترنت. شكرت لهم اهتمامهم، ولكن مما استغربت له أن السؤال الأول لم يكن حول أسباب هذا القرار، أو عن برنامجي الانتخابي، بل كان في المقام الأول بشأن هويتي الدينية. هل أنت مرشح قبطي؟ هل هناك مرشح قبطي آخر؟ كم عدد الصحفيين الأقباط؟ وهل سيؤيدك الإخوان المسلمين؟ ارتطمت هذه الأسئلة بأذني عدة مرات. لا أخفي أنني شعرت بالمرارة من السؤال ذاته، رغم أنني نفيت، واستنكرت. وفي كل مرة كنت أتصور أن الرد كاف، ولكن ما ألبث أن أتلقى اتصالا تليفونيا جديدا، أو ألتقي بزميل أو زميلة يسألني السؤال ذاته. تكرار السؤال، وترديد الإجابة ذاتها حوّل الشعور بالمرارة إلى الإحساس بالإهانة.
أعرف – بحكم تخصصي في البحث والكتابة في قضايا المواطنة- أن الشأن الطائفي ملتهب في المجتمع المصري، ولكني لم أكن أتوقع أن ألاحق بمثل هذه التساؤلات في انتخابات نقابة مهنية، السؤال فيها مهني، والجواب فيها مهني، والبرنامج فيها مهني، والمفاضلة بين المرشحين يجب أن تكون مهنية. لماذا يأتي السؤال عن هوية الشخص الدينية قبل طرحه المهني؟ ولماذا يتبادر في ذهن بعض الزملاء والزميلات – ولو بحسن نية- السؤال الديني قبل السؤال المهني؟
طالما أنني سعيت لخوض الانتخابات فقد حاولت أن أبحث عن دلالات هذه الأسئلة الشائكة.
1. نحن في مجتمع صار الحديث عن “المواطنة” جزءا من خطابه الثقافي والسياسي. وتعني المواطنة- في أبسط معانيها- الانتماء إلى وطن، يحمل الأفراد جنسيته، ينتمون إليه، ويجعلون هويته تتقدم على ما عداها من هويات دينية أو مذهبية أو قبلية أو عرقية. نتحدث عن المواطنة في الخطابات السياسية والإعلامية، ولكن الخيال الجمعي المستور لا يزال يحمل في أعماقه الانتماءات الأولية للطائفة والعشيرة والقبيلة. وبعض الصحفيين الشباب- الذين أنتمي عمريا إليهم- عاشوا لسنوات في ظل ثقافة تراجع فيها الانتماء للوطن لصالح انتماءات أخرى ضيقة، ولم يصل إليهم بعد- مثل غيرهم من الشباب- أن المواطنة صارت في صدر الدستور، وهناك من المثقفين من يكرسون أنفسهم للدفاع عنها، والتبشير بها في كل مجالات المجتمع.
2. نقابة الصحفيين هي إحدى مؤسسات المجتمع المدني، التي ينتمي الأفراد إليها بالإرادة الحرة. يأتون من خلفيات ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية متنوعة، لكنهم في النهاية ينتمون إلى كيان مهني، لخدمة مصالحهم المهنية، أي أن المهنة أولا وأخيرا. ومن يراجع المقولات الأساسية التي نشأ على أساسها مفهوم “المجتمع المدني”، يجد أنها تصب مباشرة في بناء مجال عام متسامح، لا يعرف التصنيف على أساس ديني أو مذهبي أو قبلي. من هنا فإن طرح السؤال حول الهوية الدينية للمرشح في انتخابات نقابية يعني ردة على مفهوم المجتمع المدني، وطعن في الصميم لمفهوم العمل النقابي ذاته. ويشكل تصنيف المرشحين على أساس ديني أو مذهبي أو سياسي أو مناطقي انحرافا لمسار العمل النقابي إلى دروب أخرى يصعد فيها مرشحون على أسس غير “نقابية”، ويتوارى فيها مرشحون ليس لسبب سوى أنهم يريدون أن يكونوا نقابيين.
3. أكثر ما يلفت الانتباه تلك الصياغة المباشرة للسؤال “هل أنت مرشح الأقباط في مواجهة مرشحي الإخوان المسلمين؟. وهل ستجد دعما من الإخوان المسلمين؟. تكشف هذه الصياغة المباشرة الصريحة عن ذهنية باتت تتفشى في المجال العام ترى الأقباط “كتلة واحدة” في مواجهة كتلة إسلامية أخرى. وطالما أن هناك مرشحا “قبطيا” فلا بد أن يكون ذلك في مواجهة مرشحين آخرين “مسلمين”. ما هذا العبث؟. الواقع يقول إن المسيحيين والمسلمين مختلفون حسب موقعهم الاجتماعي والسياسي والثقافي. رجل الأعمال القبطي أقرب في مصالحه إلى رجل الأعمال المسلم. والمرأة المسلمة تتقاسم الهموم مع المرأة المسيحية، وطالب الثانوية العامة المسلم ينتظر الامتحان ومكتب التنسيق بقلق مثل زميله المسيحي، والصحفي المسلم له نفس هموم الصحفي المسيحي، كلاهما يعملان بالأجر في مؤسسات صحفية، تشغلهم متاعب المهنة، والحريات الإعلامية، والصراع من أجل الشفافية والديمقراطية…فلماذا ننظر إلى النقابة- ولو بشكل ضمني- على أنها أقباط ومسلمين لكل منهم مرشحين؟ ولماذا يتحول العمل النقابي إلى ساحة تُطرح فيها تساؤلات غير مهنية؟.
إنني أرفض أن أتعامل إلا مع زملاء نقابيين، لا يعنيني انتماءهم الديني أو السياسي، ولا أسعى وراء صفقات مع جماعات سياسية أو حزبية خارج النقابة. المفاضلة تكون بين برامج نقابية في المقام الأول، المطلوب هو خدمة مهنة الصحافة والصحفيين، وليس دعم الطائفة أو الجماعة السياسية أو الحزب. وبمقدار الموقف من مهنة الصحافة يكون الحوار والاختيار.
سئمت السؤال عن الهوية الدينية والإجابة معا. والسبب إنني علي مدار سنوات شاركت فيها في حوارات لم تنقطع عن الديمقراطية، والدولة المدنية، والمواطنة، ومواقف مختلف الفصائل والتيارات السياسية منها. سمعت خطابات تدعم المساواة بين المواطنين، بالركون إلى أسانيد دستورية وسياسية وتاريخية ودينية. يبدو أن الواقع لا يزال يحمل تساؤلات مختلفة.
الأسئلة التي واجهتها حول “هويتي الدينية”- في هذه المرحلة المبكرة من الحملة الانتخابية- تكشف عن مشكلة أبعد في نقابة الصحفيين، وربما في العديد من النقابات المهنية الأخرى، تتعلق بزحف السياسة الضيقة- بكل ما تعنيه الكلمة- على حساب المهنة. نريد نقابة واحدة للصحفيين تتنوع فيها الآراء، وتدار الاختلافات في أروقتها بأسلوب ديمقراطي، ويجد كل صحفي مجالا للتعبير عن رأيه وقناعاته. من هذا المنطلق فإنني أكثر إصرارا على خوض هذه الانتخابات. أطرح نفسي بوصفي “نقابيا” يريد خدمة زميلاته وزملائه، بصرف النظر عن انتماءاتهم المتنوعة، انطلاقا من برنامج “نقابي” وطني، وأبحث عن أسئلة زميلاتي وزملائي “المهنية”، لعلي أستطيع أن أقدم “إجابات مهنية” تصادف قبولهم. وليكن التنافس مهنيا أولا وأخيرا، شعارنا “نحو نقابة واحدة.. وصحافة حرة مسئولة”.
*مفكر مصري