موقف الشعوب في المنطقة المسماة بالعربية من قضية دارفور فضيحة بكل المقاييس، نقول موقف الشعوب وليس فقط أنظمتها الحاكمة، فمن نافلة القول تكرار أن أنظمتنا الحاكمة لا يشد انتباهها أو يوجه سلوكها مبادئ إنسانية، أو مصالح الشعوب التي تحكم قبضتها على أعناقها، وإنما فقط توظيف الأيديولوجيا والدين وسائر القوى المتاحة لديها، لتقوية هيمنتها واستدامتها.
شعوب المنطقة المسوقة بالثقافة التي استزرعها حكام المنطقة، مستعينين بالنخبة المسيطرة على وسائل الإعلام، وأيضاً وهذا هو الأهم بفصائل المعارضة، باختلاف ألوان الطيف السياسي بالساحة، بدءاً من اليسار العروبي، إلى اليمين الأصولي المتأسلم، اتفق الجميع على طرفي الساحة نظماً ومعارضة على تجاهل أنين الجماهير، بل وصراخها المضرج بالدماء وبؤس الفاقة، في جميع جنبات الوطن العربي الواحد (كما يقولون)، اتفقوا على أن لا صوت يعلو على صوت العداء والصدام مع الأصنام التي اخترعوها، ليبثوا بها الرعب والتوجس في قلوبنا، إسرائيل والصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، فالنظم تركز جهودها في العداء لهذه الأصنام، أو التظاهر بعدائها، فيما الطرف الآخر المعارض يصرخ ممزقاً ملابسه وشعر رأسه، مطالباً بعداء وقتال خالص وأبدي لتلك الأصنام الموهومة، دون أن يدرك حقيقة موقفه المدعو معارضة، وهو أنه ليس أكثر من راقص على أنغام حكومية سلطوية وشمولية محضة.
موقف شعوبنا من مأساة دارفور فضيحة بالمعنى المعجمي للكلمة، فهي تفضح طبيعة كل من الثقافة والمشاعر العروبية الناتجة عنها لدى الجماهير، فحرب الإبادة والتجويع لشعب دارفور المسلم، والمنتمي إلى دولة مدعى عروبتها، لم تشد انتباه ولا تعاطف ولا نخوة أحد في مستنقع العروبة الممتد من المحيط إلى الخليج، كما يشد انتباه الجميع حفريات أثرية عند أسوار المسجد الأقصى مثلاً، فتخرج المظاهرات وتصدر التنديدات الرسمية والشعبية، وهذا جيد وضروري، لكن ضروري معه أيضاً التواصل مع الإنسان باعتباره المقدس الأساسي، هذا إن لم يكن جل اهتمامنا ليس بالمقدسات كما ندعي، وإنما باعتبارها مناسبة لتأجيج العداء والمعركة التي نصر أن تكون أبدية مع ما نسميه العدو الصهيوني، الذي نعجز أو نرفض أن نرى لنا قضية سواه، فيما مأساة دارفور الإنسانية حركت كل العالم، حيث يتواجد الذين كفروا والصهاينة والإمبرياليين من كل لون، أي من نلقبهم في أدبياتنا بأعداء الشعوب وأعداء الله!!
أكثر من خمسين منظمة عالمية تطالب بإنقاذ شعب دارفور المسلم (أعيد التأكيد على أنه شعب مسلم، وليس يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً)، وتطالب بيوم عالمي للتضامن معه، لتخرج فيه مظاهرات شعبية في أكثر من ثلاثين مدينة على مستوى العالم، تطالب بمد يد المساعدة لأطفال ونساء ورجال دارفور، الذين تفتك بهم ميليشيات الجنجويد المدعومة من عمر البشير، بل وقواته النظامية، كما تطالب بإرسال قوات دولية لحماية هذه الأرواح والأجساد البشرية التي تُبدد وتُنتهك، حتى الصين (الشيوعية سابقاً وحتى الآن) استشعرت الخزي من لعبتها الأثيرة، معارضة الغرب وأمريكا في كل ما يذهبون إليه، وسارعت بإرسال كتيبة، لتعمل مع قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، حتى لا ينظر إليها المجتمع الدولي شذراً!!
في المقابل كيف نرى نحن شعوباً وصفوة الأمر؟ هل نراه كما يراه العالم، من وجهة نظر إنسانية، أم أننا ككل أمورنا نراه من ثقب العداء للعالم وللغرب بالتحديد، فنرى فيه مؤامرة أمريكية لتقسيم السودان، كجزء من مخطط أوسع لتقسيم كل كيانات المنطقة، التي كانت تتمتع بالرفاهية والحرية والتقدم، لولا التدخلات والمؤامرات الصهيو-أمريكية؟!!
هذا الموقف المزري العجيب لما يسمى بالأمة العربية، هل يرجع إلى مجرد ضحالة فكر وضلال سياسي مستشر من القمة إلى القاعدة، أم يرجع الأمر أيضاً إلى أن المبادئ والمشاعر الإنسانية مفتقدة، ولا وجود لها في قاموسنا السياسي والأخلاقي؟!!
لقد سبق لشعوبنا أن أغمضت عيونها وصمت آذانها، عما فعله صدام حسين في الأكراد، وعن استخدامه الأسلحة الكيماوية لإبادة من ينتمون إلى العراق الواحد الموحد، كما كنا ننظر إليه، ونعتبره كما رددت أبواقه البعثية، حارس البوابة الشرقية للعالم العربي، واتخذنا نفس الموقف إزاء ما فعله بالشيعة، وكاد أن يتكرر نفس الأمر مع جريمته ضد الكويت وشعبها، لولا أن أنظمتنا اضطرت لمسايرة تحالف الدول الكافرة، لتخلص الكويت من براثن الوحش البعثي، رافع شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ومع ذلك بقى مناضلونا العروبيون ومجاهدونا المتأسلمون يعتبرون صداماً المناضل الأكبر والمجاهد الأعظم!!
السودان أيضاً تحت قيادة عمر البشير، الديكتاتور العروبي تارة والمتأسلم تارة أخرى، يحتاج في نظرنا العدائي الثاقب إلى مؤامرة أمريكية لتقسيمه، حتى لا يصبح خطراً على إسرائيل والصهيونية العالمية، وعائقاً أمام المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم، ولا نستطيع أو نرغب في النظر إلى الحقائق المريرة على أرض الواقع، فلا نرى السودان كما يراه العالم أجمع، وطناً مهلهلاً متقاتلاً، يعصف به الجوع والأوبئة والجفاف والعداء العرقي المتبادل بين مكوناته العرقية والدينية، كما يعصف به طغيان نظام حكم فاشي، يبدل تحالفاته كما يبدل المرء ملابسه، ولا يقر على حال، اللهم على النهج الشمولي والطغيان والمذابح الوحشية، فيما يعجز عن توفير الأمن والاستقرار والحد الأدنى من مقومات الحياة لشعبه.
من أخطر ما تفضحه قضية دارفور من حقائق عالمنا العربي المنبت الصلة بالعصر وحضارته، أنه إذا كان من المتفق عليه أن الأنظمة الحاكمة هي بالعموم أنظمة شمولية، مع القليل من الاختلافات والتدرجات في الاستبداد، أو في ديكوراته المصاحبة، فإن الخلاف المحتدم بين الأنظمة وشعوبها ليس اختلافاً على إرساء قيم الحرية والحداثة والإنسانية، بل تطالب الجماهير –المغيبة بالفكر العروبي والديني السلفي- بالمزيد من الشمولية، فلا نريد تدخل العالم للحد من عصف البشير بالملايين من شعبه، فالسودان الموحد تحت قيادة البشير هو الصنم الذي نصر على التعبد له، وليقتل ويشرد كما يشاء ومن يشاء، فهذا خارج عن نطاق اهتماماتنا، ولا يستدعي منا تظاهرات وتنديدات وشجب غوغائي، كالذي يستنفرنا لتوافه تغضبنا هنا أو هناك، أو لأي بادرة تقدم نلمحها للسير نحو سلام، نهرب منه هروب الأجرب من الماء!!
بل وتطالب التيارات الدينية بامتداد شمولية الدولة إلى حياة الفرد الخاصة وعبادته لربه، لتقوم على مراقبة صومه وصلاته وملابس زوجته وبناته، وما يشاهد ويقرأ من فن وأدب وفكر، أما اقتسام الثروة بالتساوي والعدالة في الفرص بين مكونات الوطن العرقية والدينية والطبقية، وتوفير الحماية والأمن للجميع، كل هذا لا يدخل في أجندة الجماهير المسيرة كالقطيع خلف مثقفيها، تماماً كما لا يدخل في اهتمامات أنظمة الحكم.
من المفارقات الطريفة ما رصده د. عبد المنعم سعيد، في مقال له بالأهرام يوم 17/9/2007، وهو أن المطالبين في مصر بالحرية والديموقراطية عبر شعاراتهم المرفوعة، يطالبون في نفس الوقت بإحكام قبضة الدولة على كل الأنشطة الاقتصادية، فما نرصده فعلاً أن المناضلين المسيطرين على الإعلام، ومعهم الجماهير المبرمجة وفق فكر المرحلة الناصرية، يطالبون الدولة أن تقوم بكل شيء، بدءاً من إنتاج الحديد والصلب، حتى بيع الملابس الداخلية في محلات عمر أفندي، وإذا كان المتأسلمون كما قلنا يطالبون بتدخل الدولة في الأخلاق وحياة الفرد الخاصة، بل وأن تحدد للفرد دينه رغماً عنه، كما يفعلون مع البهائيين، ومع الأطفال المسيحيين الذين يسلم والدهم، فهل من قبيل التجني القول أن شعوبنا لا تنشد الحرية، وإنما المزيد من العبودية، ولا تكترث بحقوق الإنسان وكرامة وقيمة الحياة، إنما ما يستهويها فقط هو تأجيج الأحقاد والعداوات، سواء مع العالم، أو مع المكونات الداخلية للشعوب، كالأكراد المسلمين السنة والمسلمين الشيعة، وشعب جنوب السودان بفسيفسائه العرقية والدينية، وأخيراً مأساة دارفور، التي أقضت مضاجع العالم أجمع، ولم تختلج لها خلجة من خلجاتنا، والتي يباد فيها شعب مسلم، وليس يهودي أو نصراني!!
يشير موقف شعوبنا من قضية دارفور أيضاً، إلى ما سبق وأشرنا إليه في أكثر من مجال، من أن الأفراد والجماعات إذا ما سيطرت عليهم أفكار ومشاعر الكراهية والعداء، لن يجدوا في قلوبهم وعقولهم مكاناً للحب، فالعداء لأمريكا والغرب الكافر يقودنا –ولسنا من يوجهه- إلى أن نرى أن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور ليست لنجدة إخوان لنا في الإنسانية، وفي الوطن العربي الواحد (كما نقول)، لكنها مؤامرة إمبريالية صهيونية معادية للأمة العربية والإسلامية، هكذا يكون العداء ليس خيار شعوبنا وصفوتنا الأول، وإنما الأوحد، والذي نأبى أن نستبدله، أو حتى نؤجله إلى حين، تحت ضغط مأساة شعب حركت العالم كله، إلا عالمنا العربي المجيد.
إيلاف
kghobrial@yahoo.com
دارفور فضيحة عروبيةحقيقة أن تجاهل مأساة شعب دارفور عار على ما يسمى بالأمة العربية، كما أن تجاهل الشعب المصري لمأساة النوبيين عار الشعب المصري كله. الأستاذ كمال غبريال عضو مؤسس في جماعة تحوتي، وهي جماعة سكندرية مصرية تهتم بمصر عموما. وتمويلها من الأعضاء أنفسهم. وهي جماعة محترمة بالفعل. اهتمت كثيرا بنهر النيل وناقشت علاقات مصر والسودان، لكنها خشيت حتى الآن أن تقيم ندوة واحدة لتناقش فيها القضية النوبية! وكأن مصر تستطيع أن ترتبط بالسودان رغم إهمالها للنوبة، وهي تعلم تماما أن النوبة أيضا في شمال السودان وأنها ركن ركين من السودان كما هي ركن ركين من مصر. يا صديقي الأستاذ… قراءة المزيد ..