احتفل حسن نصر الله في خطابه بيوم القدس إلتزاماً منه بقرارات الثورة الاسلامية وقائدها آية الله الخميني ووفاء لها… بعدما اعتبر ان سقوط المدينة المقدسة «في ايدي الصهاينة يعدّ من اقسى الاحداث التي حلّت بالأمة»، وايضا وفاء لـ «الأمة» الملتبسة… الوفاء لطهران بعد دمشق، والرثاء لأصحاب القضية الأصليين، الفلسطينيين، الذين يرثي لحالهم بعدما اصبحت «معاناتهم خبراً عابراً». وهذا ممتاز، لكنه لا يكتمل إلا حين يحضر في بال «السيد» الوفاء لآلاف الشهداء اللبنانيين الذين سقطوا بذريعة المدينة المقدسة، ومئات الشهداء العسكريين من الجيش اللبناني الذين استبْسلوا في سبيل حماية لبنان من عصابة أصولية مخابراتية ترفع ايضا شعار تحرير القدس وكامل التراب… فبدا خطابه وكأنه يستمد مشروعيته من طهران ليؤكد براءة دمشق؛ كأنه موجّه الى الخارج، لا الى المواطنين اللبنانيين الذين جاؤوا ليستمعوا الى خطابه ويستعدّوا للتصفيق له…
فعلى المنوال نفسه، منوال تغليب الاقليمي على الوطني، تأتي النقطة الأكثر اهمية من خطاب نصر الله، والخاصة بالاغتيالات التي غيّبت حتى الآن ستة نواب من الاكثرية المعادية للسياسة الرسمية لسورية (ستة فقط، فيما الآخرون من رفيق الحريري الى باسل فليحان ومن تلوا… في طي التناسي). و»طالما ان المسألة تحليل سياسي»، يقول نصر الله، فله الحق طبعا «منطقيا» بأن يتّهم اسرائيل بارتكاب هذه الجرائم. كيف؟ بإعتماد «فرضية» قوامها ان اسرائيل هي التي تغتال قادة الاكثرية، وليس النظام السوري. وطالما اننا بازاء «فرضية» فلنلجأ الى احدى القواعد الفقهية، أي القياس، لنجلو مدى «صحتها»، المنطقية ايضاً.
حلف الاكثرية هو بحسب «حزب الله» وحلفائه الاقليميين والمحليين «خونة، منتَج اسرائيلي، حلفاء الصهاينة والاميركيين، يمشون بحسب اجندتهم…». هم يقولون ويكررون ذلك. «منطقيا» ايضا» يفترض باسرائل ان تحمي حلفاءها. فما الذي عدا مما بدا حتى انقلبت اسرائيل على المنطق وراحت تقتل حلفاءها، الذين يطبقون اجندتها… الواحد تلو الآخر؟ يحاول نصر الله ان يرمّم هذه السقطة التي أوقع فيها قياسه الخاص جدا، فيؤكد بأن اسرائيل معتادة على ارتكاب جرائم ضد يهود، فما بالك بحلفائها؟ ما زلنا في «التحليل» او «الافتراض». لذلك يجد المجتهد نصر الله بأن من حقه التساؤل عن موقف اميركا من هذه الاغتيالات التي تنفذها اسرائيل ضد حلفائهما المشتركين، فما الجواب؟ انه لا يعلم. «قد يكون الامر بعلم الاميركيين وقد لا يكون»، مفتعلا بذلك حالة شك اواستكشاف… لكن يقين نصر الله اقوى من الافتعال. هو اليقين الذي دفعه الى قول اشياء تنسف بعضها بعضاً فأوقعنا في حيرة «معرفية»: الغالبية منتَج اسرائيلي ام ضحية اسرائيل؟ اسرائيل تقتل اعداءها او اصدقاءها؟ لا مفر من القول بان هذه ليست فرضية بل هي يقين؛ ولا مفر من ملاحظة سقوط هذا اليقين في امتحان القياس.
هذا كان عن «المنطق»، المنطق المجرد. اما في امتحان الواقع، فالسقطات اعنف. نختار منها اثنتين:
الاولى شماتة القاعدة الشعبية لـ»حزب الله» بهذه الاغتيالات… وفي الوقت نفسه رواج الاعتقاد في وسطها بأن النظام السوري هو الذي ارتبكها… مع شيء من السينيكة التي لا ترى حُرما على ابناء وطن يفترض انه واحد. كيف توّفق هذه القاعدة الشعبية (التي تضع العداء لاسرائيل على رأس اولوياتها الوطنية والوجودية) بين فرحتها باغتيال قادة الغالبية وبين ما تحققه اسرائيل من اجندتها باغتيالهم؟ وهل يتوسّل نصر الله تواطؤاً مع هذه القاعدة من اجل الحفاظ على «الخط السياسي» الذي يعتنقه؟ تماما كما كان يُطلب منا ايام النضال «التقدمي» بأن لا نبوح بما يُضعف خطنا السياسي… مع اضافة التكليف الشرعي هنا، أي المزيد من الاغلاق على العقول، والمزيد من تعطيل التفكير.
السقطة الثانية: تخص «الهاجس الامني» الذي يتحصّن خلفه نصر الله خوفا على حياته من اسرائيل. والهاجس حقيقي على الأرجح. وقد يكون نصر الله فعلا على لائحة اغتيالات في الاجندة الاسرائيلية. ولكن كيف يفسر ان اسرائيل التي تريد فعلا ان تقتله، لا تفلح الا في إغتيال خصومه؟ هل تستعيض عن فشلها بقتله بقتل خصومه؟ وهل يقصد بهذا اليقين بأن مشروع الفتنة الاسرائيلي الذي يحاربه بكل جوارحه يقتضي بان تُشعر اسرائيل «حزب الله» بأنها تستهدفه، فيما هي في الواقع تستهدف القادة من خصومه؟ «وسوف يستمرون في هذه الاغتيالات» يقول. مستبقا بذلك حكم الموت والعدالة بازاء ابناء جلدته… بعدما اخرج نفسه من دائرة الاستهداف الاسرائيلي، هو المُعفى اصلا من الاستهداف السوري (لِمَ التخبئة اذاً؟).
بعد ذلك فيض من العشوائيات الفكرية: الازمة القائمة حول اختيار رئيس للجمهورية تتعثر بين الاغلبية والمعارضة. الاولى تريد ان تنتخب مثلما انتخب رئيس تركيا، أي باكثرية ولو ضئيلة، وهذا حقها الدستوري. اما الثانية، المعارضة، فتريد اشراكها، بقوة الامر الواقع، أي بقوة السلاح الذي لم تستطع حتى اسرائيل انتزاعه، فتهدد بالتفجير إن اتى الرئيس بهذه الاغلبية الضعيفة. فماذا يقترح نصر الله حلا للأزمة؟ ثلاث او خمس مؤسسات استطلاع للرأي العام، «موثوقة وحيادية» تجري عملية استطلاع رأي في لبنان تحدد «الشخصية التي تحظى بأعلى نسبة تأييد تذهب الى البرلمان وتنتخب رئيسا للجمهورية». هل يجامل نصر الله حليفه عون صاحب الفكرة الاصلي؟ أم يلعب مع الوقت؟ هل من حاجة مثلا لتصوّر الحرب التي سوف تندلع فقط لتحديد من هي الشركة «الموثوقة والحيادية»، كي لا نقول بأن هذا الاقتراح هو عين الفتنة لما يتسبّب به من انفراط لمؤسسات واطر وعقود ومصالح واتفاقات وقوانين قائمة… معرّضة كلها اصلاً للفوضى العارمة؟
ثم ان نصر الله لا يريد رئيسا ذا برنامج، بل شخصية تتصف بـ»الشهامة والصدق والشرف». لِمَ يرفض مرشحا صاحب برنامج؟ لأنه «في لبنان يا عيني… أهون شيء هو ان يتراجع وان يغير ثيابه وان ينقل البارودة (البندقية) من كتف الى كتف….». طبعا سبب أقبح من ذنب. فلأننا في لبنان تحديدا حيث الاهواء السياسية متقلبة والموازين غير مستقرة، نحتاج الى رئيس صاحب برنامج، أي ملتزم بما يلتزم به ووفق نص مشهود؛ لا مجرد «شهم» أو»شريف»… إلا اذا كانت صورة الفقيه المعصوم قد أُسقطت على المرشح الرئاسي كانت «شخصيته» فوق الزمان والمكان.
لكن الاخطر من بين السقطات، تلك المعادلة التي يطرحها نصر الله، وقد سبقه اليها العديدون من الزعماء الالهيين. فأمام الاحساس بتعاظم قوتهم، بعد احتفاظهم بسلاحهم وصواريخهم، ركب في عقل هؤلاء ان لبنان باتَ جاهزا لغلبتهم باسم «الاكثرية العددية». فبدأوا يطرقون باب هذه «الاغلبية» بعدما عجزوا عنها بـ»التوافق». وبصرف النظر عما اذا كان اعتقادهم الضمني صحيحا، من انهم ضامنون للاغلبية، فإن «الاكثرية العددية» التي يدعو اليها «حزب الله» الآن هي عين الغلبة ومولّدة الفتنة. وذلك لأن «حزب الله» حزب طائفي مذهبي ومسلّح. ولكي لا يكون هناك فتنة على «حزب الله» في دعوته هذه الالتزام بشرطين: الاول ان تكون الاكثرية العددية حرة في التعبير عن خيارها، أي ان لا تكون الا تحت السلاح الشرعي الواحد. والثاني ان يقوم تعبيرها على اساس المواطنة.
الشرط الاول يقتضي من «حزب الله» ان يتخلّى عن سلاحه، فيتساوى بذلك مع الجميع ويُفكّ الخناق عن الطائفة الشيعية… اما الشرط الثاني، فيقتضي ان لا يتم الاختيار الا بناء على الانتماء لكل الوطن، لا الطائفة أو المذهب. وخطاب نصر الله لا يبشر بالاقتراب من ذلك. بل بالعكس، يبتعد أكثر فأكثر عن تلك «اللبننة» التي دأب بعض المتفائلين على مناشدته بها.
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة