إن تعيين عباس الفاسي من طرف الملك وزيرا أول ، جاء تجسيدا لاحترام جلالة الملك “المنهجية الديمقراطية” التي تقتضي ـ تبعا للقواعد الديمقراطية ـ أن يتولى الحزب الفائز بأكثرية المقاعد النيابية، رئاسة الحكومة . والملك ـ بهذا التعيين ـ يكون قد أوفى بأولى تعهداته التي يريد أن تكون الانطلاقة السليمة للفعل الديمقراطي والبداية الحقيقية للممارسة السياسية الهادفة. وهذا ما سبق وأكد عليه في خطاب العرش لهذه السنة كالتالي (فإن على الجميع أن يجعل من انتخاب مجلس النواب المقبل ، موعدا جديدا لترسيخ الممارسة الديمقراطية المألوفة. وتجسيد إرادتك الحقيقية، وإفراز أغلبية حكومية ذات مصداقية ومعارضة فاعلة وبناءة، على أساس برامج ملموسة وهادفة ) . والملك ، بهذا الوعد الذي جعل الالتزام به واجبا ، يكون فعلا قد قطع مع التجارب السابقة التي كانت تتم وفق منطق ما سمي بـ”الديمقراطية الحسنية”. إنه عهد طواه الملك بسلسلة من الإجراءات أبرزها :
1 ـ احترام المواعيد الانتخابية عكس ما كان معمولا به سابقا من تمديد أو تأجيل . وأذكر هنا أن الأحزاب السياسية كانت ترغب في تأجيل موعد الانتخابات لسنة 2002 لولا إصرار الملك على احترام الآجال الدستورية .
2 ـ تحييد الإدارة التي اعتادت ، في التجارب السابقة ، على صناعة الخريطة السياسية وتحديد نتائج الاقتراع قبل موعده .
3 ـ احترام حرية الناخب بدءا من التسجيل في اللوائح الانتخابية ثم سحب البطائق وانتهاء بالتصويت . إذ كفت الإدارة عن أساليب الإكراه والوعيد وحشد الناخبين في البوادي للإدلاء بأصواتهم طوعا أو كرها .
4 ـ الدعوة إلى ممارسة السياسة الفاضلة حذرا من الوقوع في السياسة الرذيلة كما جاء في الخطاب الملكي لذكرى ثورة الملك والشعب هذه السنة ( وإننا لندعو مواطنينا للانخراط في العمل السياسي النبيل .. فمن لا يمارس السياسة الفاضلة بالمواطنة الملتزمة ، فإن السياسة الرذيلة تستغله بالأساليب التضليلية لأغراض مقيتة: انتهازية أو عدمية مرفوضة أو إرهابية محرمة) .
5 ـ إشراك المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمراقبين الدوليين في تتبع العمليات الانتخابية ومراقبتها .
وبالجملة ، فقد لخص الملك مجموع هذه الإجراءات كالتالي ( وبعون الله ، فقد تمكنا جميعا من توفير إطار عصري وفعال .. من معالمه البارزة : مدونة انتخابية حديثة .. قانون جديد لتأهيل الأحزاب وتمويل شفاف لعملها ، حياد إداري إيجابي وحازم ، مراقبة قضائية مستقلة ، حضور فاعل للمجتمع المدني ، ولوسائل الإعلام في التوعية والمتابعة) .
وبخلاف ما درج عليه ديدن العهد القديم من اعتبار “الديمقراطية الحسنية” أرقى مراحل البناء الديمقراطي وأنضجها ، فإن الملك محمد السادس يقر أن ما تحقق على مستوى الممارسة السياسية هو “مرحلة متقدمة من النضج” لكنها لا تمثل النهاية والنضج ( ومهما يكن التقدم السياسي الذي حققناه ، فهل يجوز القول : إننا قد بلغنا درجة الكمال الديمقراطي ؟ كلا ) . لهذا ينبغي قراءة هذه الخطوات ضمن السياق العام الذي يؤطر اللحظة السياسية الحالية التي يريد فيها الملك أن يشرك كافة القوى السياسية والفعاليات المدنية وعموم المواطنين في إنضاج الممارسة السياسية والارتقاء بتجربتنا الديمقراطية إلى درجات الكونية. أي احترام القواعد الديمقراطية كما هي متعارف عليها كونيا. فهل الأحزاب السياسية في مستوى المرحلة الحالية؟ بمعنى هل هي على استعداد للتحرر من “عقلية العهد البائد” بتعبير الأستاذ سالم يفوت (الأحداث المغربية 21/9/2007) والانخراط في بناء “الديمقراطية التشاركية” التي تمكن ـ كما جاء في خطاب العرش (من الإفادة من كل الخبرات، الوطنية والجهوية والمجتمع المدني الفاعل ، وكافة القوى الحية للأمة، ومشاربها وتياراتها،أيا كان موقعها)؟ إن الأمر يستوجب الالتزام “بالمنهجية الديمقراطية” على المستويات التالية :
أ ـ المستوى الداخلي /التنظيمي عبر دمقرطة الحياة الحزبية واحترام هيئات الحزب وهياكله ، بعيدا عن أساليب الاحتواء والإقصاء أو مناورات التحايل والالتفاف على توصيات الهيئات التقريرية للحزب. ومن شأن دمقرطة الحياة الحزبية الداخلية فتح المجال أمام الكفاءات المتجددة والطاقات الشابة التي تتعاطى مع قضايا المجتمع ومشاكله بروح جيلها وتطلعاته. ذلك أن الأحزاب التي لا تجدد قياداتها المحلية والإقليمية والوطنية ستعيش حتما الشيخوخة المبكرة، ومن ثم تصير ضحية النزعات المحافظة والأصولية الرافضة لكل تجديد أو تغيير. إذ الحزب الذي لا يعيش التغيير ولا يشيع ثقافته بين الأعضاء لن يسعى إليه (= التغيير) .
ب ـ مستوى الشأن العام الذي يقتضي حسن تدبيره ـ كما جاء في الخطاب الملكي ـ ( إبراز نخب مؤهلة ) قادرة على تطبيق البرامج الانتخابية . ذلك أن المجتمع الذي لا يجدد نخبه السياسية سيقبر كل كفاءاته ويحكم عليها بالعطالة الإجبارية . ومن ثم يحرم المجتمع من عائدات الاستثمار البشري . فالمناصب الحكومية لم تكن يوما ـ في عرف الديمقراطية وقيمها الكونية ـ شرفا أو امتيازا قابلا للاحتكار أو التوريث . بل هي مسئولية جسيمة تنعكس إيجابا أو سلبا على الشعب ومستقبله .
ج ـ مستوى عقلنة المشهد السياسي عبر بناء تحالفات منسجمة ـ كما ورد في الخطاب الملكي ـ ( تنبثق عنها حكومة متراصة . حكومة فعالة .. وليس مجرد اعتبارات سياسوية ضيقة ، أو حسابات عددية ) . ذلك أن الاعتبارات السياسوية تهمل مصالح الشعب وتتعامى على مشاكله . وبسبب ذلك تضيع على الوطن فرص التنمية الحقيقية كما تُهدر ثرواته نهبا وتبذيرا . فهل أحزاب الأغلبية على استعداد لتطبيق “المنهجية الديمقراطية” ؟ قضية تكون موضوع المقالة القادمة بحول الله .
selakhal@yahoo.fr
* المغرب