ثمة وضع غير عادي يمر به اليمن اليوم، من صعدة إلى حضرموت مروراً بصنعاء وتعز، وصولاً إلى عدن والضالع وابين في الجنوب، هناك حالة من الغليان الداخلي الذي عبر عن نفسه في صور مختلفة، أهمها تمرد الحوثيين في أقصى الشمال، وتحرك العسكريين المسرّحين جنوباً، الذي تحول بسرعة شديدة من إطاره الوظيفي إلى حالة سياسية أوسع، تتعلق بالمطالبة ب”إصلاح مسار الوحدة” بين الشمال والجنوب، التي تحققت في 22 مايو/ أيار سنة 1990.
ورغم خطورة الموقف الناجم عن حركة التمرد في الشمال التي مضى عليها أربع سنوات، فإن ما يحصل في الجنوب هو أكثر خطورة، وهو من دون مبالغة يعيدنا إلى الأجواء التي عرفتها اليمن عشية حرب مايو/ أيار ،1994 والتي طغى عليها مظهران أساسيان: الأول، هو التوتر على أساس جنوبي شمالي. والثاني، هو رمي المشكلات كافة على ظهر الوحدة. ويجمع كافة من تابعوا تطورات الخلاف في حينه على أن عدم حل هاتين الإشكاليتين، من خلال الحوار بين الطرفين الموقعين لاتفاقية الوحدة، سار بالنزاع إلى الحرب التي اندلعت في مايو/ أيار، وانتهت إلى خروج الطرف الجنوبي، الذي وقع الوحدة، من المعادلة كلياً، وأجبرت قيادة الجنوب الفعلية على سلوك طريق المنافي، ولا يزال علي سالم البيض الذي وقع اتفاق الوحدة مع الرئيس علي عبدالله صالح، لاجئاً في سلطنة عمان، وكذلك الأمر بالنسبة لأول رئيس وزراء لدولة الوحدة حيدر أبو بكر العطاس، الذي يقيم في السعودية.
لقد توصل الطرفان في شهر يناير/ كانون الثاني من سنة 1994 إلى “وثيقة العهد والاتفاق”، بعد أكثر من شهر من الحوار الداخلي داخل لجنة تشكلت لهذا الغرض وعرفت باسم “لجنة الحوار”، وكان من أبرز الشخصيات التي شاركت في أعمالها العطاس، المرحوم جار الله عمر، سالم صالح محمد، ياسين سعيد نعمان، عبد الكريم الارياني، المرحوم الشيخ مجاهد أبو شوارب، الشيخ سنان أبو لحوم، قاسم سلام، أحمد كلز، القاضي أحمد الشامي، محمد عبدالملك المتوكل، ولفيف كبير من الشخصيات الحزبية والقبلية والوطنية العامة. واعتبرت تلك “الوثيقة” أرضية فعلية لبناء صلب للوحدة، التي كانت لا تزال طرية وتهتز بفعل رياح العواصف الداخلية والخارجية، وخصوصاً كارثة اجتياح الكويت التي هزت المنطقة ككل. إلا ان حرب مايو جاءت لتضع تلك “الوثيقة” على الرف، وبذلك ضاعت فرصة ثمينة على اليمن لتعزيز وضعه الداخلي، وتجاوز التوتر الذي بدأ يطل برأسه بسبب شعور الجنوبيين بالغبن والتمييز والإقصاء في دولة الوحدة.
لقد كان في وسع تلك “الوثيقة” أن تمتص حالة الاحتقان، وتنقل البلاد إلى مستوى جديد يعتمد على المبدأ الذي قامت عليه الوحدة، وهو “الأخذ بالأفضل في تجربتي الجنوب والشمال”. ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليبرهن على أن الحرب شكلت كارثة في حينه، ليس فقط على مستوى تداعياتها المباشرة، بل على صعيد آثارها البعيدة المدى، ولكن أخطر ما نتج عن تلك الحرب هو تضخم عقلية الاستئثار بمشروع الوحدة، واستمرار سياسة “الوحدة بالحرب”.
حاول الطرف المنتصر في تلك الحرب تبرير العملية على أساس نزاع بين “وحدويين” و”انفصاليين”، وأن الحفاظ على الوحدة يقضي باتخاذ جملة من الإجراءات الاستثنائية، إلا أن الاستثنائي تحول إلى سياسة دائمة ذات تأثير خطير، كان من نتائجه المدمرة إبقاء الجنوبي في موقع المتهم بالانفصالية، وهذا هو السبب الفعلي لما هو حاصل في الجنوب.
إن المبالغة في إبراز النزعة الجنوبية لدى البعض منذ نهاية الحرب، يقابله في الشمال منطق استفزازي استعلائي تجاه أهل الجنوب يتعامل وفق مقولة: الأصل (الشمال) والفرع (الجنوب)، والجزء (الجنوب) والكل (الشمال). ومن المؤسف أن ممارسات منحرفة تأسست على هذا المنطق الأعوج. وقد زاد في الطين بلة أن معالجة ملف الحرب ونتائجها، لم يتم على أسس تأخذ قضية الوحدة في الاعتبار، بل جرى بته على أساس غالب ومغلوب، وبذلك خرجت الدولة الجنوبية التي دخلت الوحدة من المعادلة كلياً، بقيادتها السياسية وحزبها الاشتراكي وجيشها، وحتى رجال أعمالها، وهذا ما يفسر الدعوة التي انطلقت بعد الحرب مباشرة تحت شعار “إصلاح مسار الوحدة” الذي ترفعه التظاهرات الجنوبية اليوم من حضرموت إلى عدن، وهي تهدد بأن ترفع السقف في اتجاه الانفصال، في حال لم يتحرك من بيدهم مفاتيح الحل والربط لتدارك الموقف. ولا يشك أحد في أن من بيده مفتاح الحل اليوم هو الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي لا يحتاج في جميع الأحوال لمن يعطيه الدروس ويقدم له النصائح، بل إنه الأدرى من غيره بشؤون اليمن من صعدة إلى المهرة، يعرف الشاردة والواردة، وبحكم تجربته وخبرته الطويلة في وسعه إيجاد الحل لأي قضية داخلية مهما استعصت وتعقدت. وبالتالي لكي لا يتفاقم الوضع في الجنوب ينزلق إلى مواجهة جنوبية شمالية، ينتظر منه أن يقوم بمبادرة تاريخية، على غرار الخطوة التي قام بها في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة ،1989 حين زار عدن ليوقع مع البيض “اتفاق عدن” التاريخي الذي كان الأساس لانطلاق عملية التوحيد. إن الرئيس اليمني مدعو للمبادرة إلى حل المشكلة من زاويتها السياسية بالعودة إلى “وثيقة العهد والاتفاق”، وروح اتفاق الشراكة الوحدوية بين الشمال والجنوب، وإجراء مصالحة سياسية تكون الخطوة الأولى فيها عودة البيض من المنفى، لأنه الرمز الجنوبي الوحيد الذي يتمتع بشرعية تاريخية، ويحظى بالاحترام في أوساط الشمال والجنوب بوصفه المبادر إلى الوحدة. سيحسب هذا الموقف للرئيس صالح، ولن يأخذ عليه أحد أنه تنازل للجنوبيين، فالجنوبيون هم أبناء البلد أيضاً، ولهم كامل الحق فيه، عدا عن أنهم قوة للوحدة وليس العكس، وها هي ألمانيا التي تجزأت بالأمس تقودها اليوم سيدة قادمة من الشطر الشرقي، فالمهم بالنسبة للألمان هو المستقبل وليس الماضي.
bacha@noos.fr