إن عسر السؤال حول أبعاد فهم العملية الشعرية، قد دفع بالعديد إلى الإجابة عنه بيسر وارتجال، وهو بحدّ ذاته يحمل أقطاباً مختلفة، باعتبار أن العملية الشعرية، هي بناء نفسي– حسي، كالذي يمرّ بأي كائن حي يعيش علاقات غير واضحة، يهيئ لهذا البناء ظهور ما للكائن من مَلَكة وإمكانية في التخيل؛ التخيّل الذي يتضاءل لدينا تدريجياً بعد أن كان في أعلى درجاته وأوسع مساحاته في الطفولة، بعد أن تمر طفولتنا وعفويتنا وبدائيتنا بمراحل المعرفة والتلقين، الذي يقاومه الشاعر– أي التضاؤل – بإمكانية الابحار في التخيل وبالتالي يوظف عموم إمكانياته المعرفية للتأويل والافتراض الذي منبعه “الشك” بالموجودات، بتواريخها، وبالتالي الوصول إلى مرحلة التعبير عنها.
قد يرى البعض في هذا الرأي ضرباً من “التفلسف” وهو فعلاً، لأن وعي الضرورة الشعرية والفنية بشكل عام وعياً حقيقياً وعميقاً، لا يمكن أن يتوفر دون الرجوع إلى الأصل التفكيري للبشرية، وهو معرفة الأبعاد الأولى للتفكير الفلسفي، وطرح الإنسان أسئلته المحرجة إزاء الكون والطبيعة، تلك الأسئلة التي يعود لطرحها فضل الإنجاز الحضاري والفكري في الفن والأسطورة والعلم، وإلى ما عليه الآن وضعنا الإنساني عموماً.
إن فهم الإشكال الفلسفي هو الكفيل بإدراك الجميع لماهية الفن، وبالتالي لضرورته، أما ما يقال هنا وهناك عبر الإجابات والمقدمات الصغيرة عن الفن والشعر، لا يعدو أن يكون “تغزلاً” بمتعة الكتابة عموماً في أن الشعر هو “الدم والروح” وهو “المتعة” وهو “نزهة تحت ضوء القمر”، لا مثلما يقول جان كوكتو (1889- 1963) في عبارته الشهيرة ((الشعر ضرورة، وآه لو أدري لماذا ؟))، فكوكتو يعني تماماً؛ أن الشعر والفن هو الهروب المبرَّر من دائرة انتحار الموجودات ضمن حركة الحياة المحسوبة. ولكن، هل هذا هو الشعر؟
إنني لم أحدد الشعر. بل حددت دوافعه، بالنسبة لي ولبعضٍ ممن قرأت لهم من شعراء عبر التاريخ ومن زملاء، بعضهم على قدر واعٍ للعملية الشعرية هذه.
إن تأطير الشعر في أية دائرة هو مناقض تماماً لماهيته، فالشعر الحقيقي لا يتكرّر، إنه “السيولة الدائمة” كما يرى هيروقليطس؛ أي إنك لا يمكن أن تضع قدمك في النهر مرتين؟ إنك تستطيع أن تضع قدمك مرتين في النهر ولكن هل هو الماء ذاته؟ هذه الجدلية في المضي هي ما يشبه الشعر.
غير أنني أرى أن التواصل الفكري مع المدنية والحضارة، هو الذي ينتج الحضارة الموضوعية، التي يكون الشعر روحها، والوسيط غير المستقر بينها وما هو غير مكتَشَف فيها. وهو خلاصة وضالة التعبير عن مجمل الفعاليات الإنسانية، لا في القصيدة كقوانين وبناء، بل في الفن عموماً فإننا قد نجد الشعر في صوت أم كلثوم – مثلا- أو في فهم أبي حيان التوحيدي للفن، أو في منحوتة لسامي محمد، أو في أداء لورنس أوليفييه لدور هاملت، أو في بكاء أمي على أمها ..الخ إنها الأسئلة التي لا أجوبة لها، والأجوبة التي ليست لها براهين.
إننا جميعاً منذ بدايتنا نسعى للتعبير عن أشيائنا بشكل جميل، بدءاً من كتابة رسالة، ولا إنتهاء بمحاولة كسب إنسان أكثر منّا وعياً، ورغم أن هذه تقع ضمن حدود الوسائل الحياتية، إلاّ أن بعضنا بحكم طبيعة نمو التحسس والمدركات والقدرة على تأويل الأشياء، يجد نفسه قد وقع في دائرة ديمومة المضي في هذا غاية لا وسيلة فحسب أي أنه أدرك دون سابق إنذار، أنه في دائرة الذهاب بالتعبير عن النفس والأشياء، لا سيما بعد إدراكه لشيء من الإرث التفكيري والإنجاز الفني، لا شيء غير أن ندرك ما مضى يؤكد حقيقة أننا ننمو ونبدع ونتواصل، فالحياة ذات حدَّين، إما أن يدعك أحدهما؛ تعطي نفسك لها، لموجوداتها؛ وقصر ما أتاحته لك من زمن، وإما أن تستثمر الحد الآخر للتضحية من أجلها بإدامتها، سواء بالفن أو بالدفاع عنها بطريقة أخرى، وإلاّ هل أن الأربع وستين سنة – عمر ارسطو- أو الإحدى وستين سنة – عمر هيغل- أو الإحدى وأربعين سنة – عمر فهد العسكر- أو الثماني وثلاثين سنة – عمر بدر شاكر السياب- على سبيل الأمثلة، هي في المعنى والديمومة مثل أعمار أناس بسطاء قدموا للحياة ما فرضته عليهم من واجبات اعتيادية لم يفرضوا عليها هم، ما فعله أولئك، رغم إنسانية الجميع، إنه الفن، الارتقاء بالحياة الاعتيادية إلى ما هو مثالي – كما يقول هيغل.
ayemh@yahoo.com
* باحث وشاعر كويتي.