لو كان اللبنانيّون «شعباً» واحداً تجمع بينه إجماعات حول الأساسيّات، فيما يتعدّد في الكيفيّات ويختلف، لكانت مبادرة نبيه برّي سيّئة تستحقّ مقابلتها بالارتياب. فهي تحول دون ترجمة الاتّفاقات العريضة، لو وُجدت، الى الحيّز المؤسّسيّ والرموز والبرامج. أما وأن اللبنانيّين، وعلى عكس الورديّة التي يصفون بها أنفسهم، شعبان سياسيّان على الأقلّ، وشعوب إيديولوجيّة عدّة، بدت مبادرة برّي معقولة وصالحة، وربما واعدة.
ذاك أن «التوافق» قد يكون ممكناً، أما «الوفاق»، في ظلّ الانقسام حول معاني الوطن والسيادة، فلا.
ومن دون الوقوع في المبالغات اللبنانيّة المألوفة عند وصف الإيجابيّات، أو السلبيّات، لا بدّ من استدراك بسيط: فما دام انعدام الإجماعات يعطي الخارج اليد الطولى في رسم المسار الوطنيّ، فإن قدرة المبادرة، أيّة مبادرة، «مصنوعة في لبنان»، قدرة محدودة تعريفاً. بيد أننا، وتحت سقف المحدوديّة هذه، يسعنا أن نتبيّن وجهاً جيّداً للمبادرة: فهي تسهم في تجنّب الفراغ المؤسّسيّ، ومن ثمّ نزع الفتيل الداخليّ لما قد يترتّب عليه من فوضى أو عنف. ودرء الموت والدمار، ولو ليوم واحد، تستحق أن يُبذل لها كلّ ما يمكن بذله. ثم إن مبادرة رئيس المجلس النيابيّ تستبعد من رئاسة الجمهوريّة كلّ من يراه أيّ الطرفين، 14 و8 آذار، متطرّفاً، فيما تسمح بإعادة تفعيل الوسط التجاريّ وتحريك آلته الماليّة فالاقتصاديّة.
أبعد من هذا، إن المبادرة يمكن وصفها بالديموقراطيّة من زاويتين، أولاهما أنها تستجيب رغبة الأكثريّة اللبنانيّة الساحقة في تجنّب الحرب (ولنلاحظ، هنا، أنه لا يزال في وسع اللبنانيّين أن ينجزوا إجماعاً سلبيّاً في مقابل عجزهم عن إتيان الإجماعات الإيجابيّة)، أما الثانية فإنها تعكس توازن القوى القائم في المجتمع: ذاك أن الـ14 آذاريّين كما الـ8 آذاريّين يبدون عاجزين تماماً، ولو أنكروا، عن تحقيق الحدّ الأقصى من «برنامجهم». وقد شرع توازن قوى شالّ ومديد كهذا يطلق برماً شاملاً بحدّيهما الأقصيّين.
وفي وسع كلّ من الطرفين الكبيرين أن يعثر، في مبادرة برّي، على نقاط لمصلحته: فالـ14 آذاريّون ينزعون كلّ تشكيك بشرعيّة حكومتهم، حكومة فؤاد السنيورة، لكنهم يضيفون إليها رئيساً للجمهوريّة لا يمكن أن يكون في سوء إميل لحّود (وهل ثمّة من هو هكذا أصلاً؟). والـ8 آذاريّون يُبقون لبنان معلّقاً، يراوح مكانه في الأساسيّات، وهذا، في المحصّلة الأخيرة، جوهر «برنامجهم». لكنْ ما دام هؤلاء، للأسف، يجمعون تحت لوائهم نصف اللبنانيّين، وما دام نصف اللبنانيّين يستهويهم تعليق بلدهم، فلا بدّ من التسوية معهم ما دام الانقسام عنهم، لأسباب عمليّة وواقعيّة، مستحيلاً.
وهذا جميعاً لا يلغي احتمال الاغتيال هنا، والعبوة هناك، إلا أنه يحرمهما طاقة التمهيد لحرب أهليّة. وهو، بالطبع، لا يلغي التطوّرات الإقليميّة في انعكاسها على لبنان، غير أن هذا فوق قدرة برّي ومبادرته، بل فوق قدرة اللبنانيّين جميعاً في ظلّ انشطارهم العميق الراهن. وفي انتظار ان يتولّى الوضع الخارجيّ تعديل توازنات القوى الداخليّة، يبقى أن هذا أحسن الممكن.
الحياة