في 16أغسطس/ آب الجاري أعلن في بغداد عن تشكيل ما أطلق عليه ”جبهة المعتدلين” التي ضمت كلا من المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة عبدالعزيز الحكيم، وحزب الدعوة الإسلامية بزعامة نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني رئيس حكومة كردستان العراق، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يترأسه جلال الطالباني والذي يشغل منصب رئيس الجمهورية العراقية، وقد وقع الأطراف الأربعة المشاركين في التكتل الجديد (القديم) على وثيقة مشتركة أطلق عليها ”وثيقة المبادئ الوطنية لاتفاق القوى السياسية وآليات العمل”.
واللافت هنا هو اقتصار هذا التكتل الرباعي على مكونات شيعية وكردية، في حين سجل غياب كتل وقوى أساسية من هذا الاتفاق رغم الجهود الحثيثة التي بذلت حتى اللحظة الأخيرة لإشراك الحزب الإسلامي العراقي (سني) بزعامة طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، الذي أعلن أن حزبه قد “حسم أمره في هذه المسألة مبكرا ولايزال عند موقفه من عدم المشاركة لأسباب موضوعية تخص الحزب نفسه”. هذه الخطوة تأتي في سياق محاولات رئيس الحكومة (المالكي) ورئيس الجمهورية (الطالباني) منع أو تأجيل انهيار الحكومة اثر توالي الانسحابات من أطراف أساسية فاعلة في الائتلاف الحكومي الهش، ونشير هنا إلى انسحاب ممثلي حزب الفضيلة (شيعي) والتيار الصدري (شيعي) من الحكومة، وما تلاها من استقالة وزراء جبهة التوافق (سنية)، وأخيرا تعليق عضوية وزراء القائمة العراقية (ليبرالية) بزعامة رئيس الوزراء السابق إياد علاوي، وضمن هذا السياق هناك تسريبات عن جهود يبذلها رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري لتشكيل تكتل جديد منافس. كل ذلك يعني في المحصلة استقالة وانسحاب 17 وزيرا يشكلون أكثر من نصف أعضاء الحكومة الحالية، مما يفقدها النصاب الدستوري والقانوني لاستمرارها، رغم إصرار رئيس الحكومة على رفض الاستقالات الجماعية المقدمة، وتصريحه انه لا يزال يتمتع (بدعم من نواب الحزبين الكرديين) بالغالبية تحت قبة البرلمان. هذه الخطوة التكتيكية (تكتل المعتدلين) كسابقاتها لن يكتب لها النجاح، لأنها تنطلق من حسابات ومصالح آنية ضيقة، وغالبا ما ستكون متعارضة على المدين الوسيط والبعيد بين أطرافها، إلا إذا كان المقصود والهدف (غير المعلن حتى الآن) هو المضي في تكريس التشطير والتقسيم الفعلي (القانوني) للعراق على أساس المذهب والاثنية، وهو ما طرحته مؤسسة راند الأميركية واسعة النفوذ في واشنطن حديثاً كخيار محتمل، في ظل فشل واخفاق الاستراتيجية الأمنية الجديدة التي أعلنها الرئيس جورج بوش قبل أكثر من ستة أشهر، وأرسل نحو 20 ألف جندي أميركي إضافي من اجل إنجاحها. والتي تضاف إلى سلسلة الإخفاقات والأخطاء والانتهاكات الأميركية منذ اليوم الأول للاحتلال، وخصوصا حل هياكل السلطة والدولة العراقية، وفي مقدمتها الجيش وأجهزة الأمن. وسن قانون ”اجتثاث البعث”، وتطبيقه بشكل اعتباطي يفتقد أسس العدالة وينتهك القوانين والدستور. ناهيك عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين العراقيين في المواجهات العسكرية إبان واثر سقوط النظام السابق، والاعتقالات الكيفية والعقوبات الجماعية، وما تكشف من ممارسات بشعة تعرض لها معتقلو سجن أبوغريب والبصرة وغيرها. ولا ننسى هنا ذكر النتائج السلبية الخطيرة التي كرستها صيغة مجلس الحكم الانتقالي (على أساس المحاصصة الطائفية والقومية). كل ذلك أدى إلى بروز وتعمق الاصطفافات والصراعات الطائفية والمذهبية والاثنية على نحو غير مسبوق في المجتمع العراقي، المعروف تاريخيا وحتى أمد قريب بتعايش وتداخل وتمازج مكوناته الطائفية والمذهبية والاثنية والعشائرية (من دون أن نغفل الممارسات الاستبدادية التسلطية للفئات الحاكمة التي وظفت الدين والمذهب والاثنية والعشائرية وفقا لمصالحها الخاصة). والذي انعكس في شلل وفشل وعجز الحكومات المتعاقبة اثر الاحتلال، بما فيها حكومة المالكي من وقف التدهور الحاصل على صعيد إرساء الأمن وحماية المدنيين، ومعالجة التردي الشنيع في الخدمات، وارتفاع كلف المعيشة، والزيادة الخيالية في أسعار النفط ومشتقاته في بلد يطفو على بحيرة نفط، وانعدام الكهرباء والمياه النقية (مع وجود نهري دجلة والفرات) وتفاقم البطالة، والفقر، واستشراء الفساد المالي والإداري. إلى جانب تدهور الأوضاع الأمنية، وتزايد أعمال القتل والخطف والتفخيخ والتطهير الطائفي والعرقي المتبادل التي تمارسها المليشيات الطائفية (وبعضها تعمل تحت يافطة السلطة) المختلفة، بما في ذلك المجموعات العسكرية والعشائرية المسلحة المرتبطة بالنظام السابق، والمجموعات الأصولية المسلحة وخصوصا تنظيم القاعدة، والتي أدت إلى حصد أرواح مئات الآلاف من العراقيين المدنيين من الطوائف والمذاهب والاثنيات المختلفة، وأخرها ما حصل من تفجيرات في الأسبوع الماضي استهدفت الزيديين العراقيين في قراهم (محافظة الموصل) وحصدت اكثر من 400 قتيل ونحو 470 مصابا ومفقودا تحت الأنقاض. ووصلت حدة العنف والصراع لتشمل المليشيات والمجموعات المسلحة المتنافسة على السلطة والثروة في داخل الطائفة الواحدة، كما تمثل في عملية اغتيال كل من محافظ القادسية ومدير شرطتها ومحافظ المثنى (ينتمون إلى المجلس الإسلامي الأعلى) واتهام ميليشيا المهدي التابعة للتيار الصدري انه يقف وراءها. الأوضاع الأمنية والحياتية المتردية وصلت إلى درجة خطيرة تنذر بكوارث جديدة اشد واقسى على العراقيين. ونشير هنا إلى ما أعلنته الأمم المتحدة إن ”العنف في العراق أدى إلى اكبر موجة نزوح في الشرق الأوسط منذ إنشاء إسرائيل العام ”1948 وقالت المنظمة الدولية أن ”واحدا من كل ثمانية عراقيين نزحوا عن ديارهم، مشيرة إلى أن نصف مليون شخص تركوا منازلهم في الأشهر الستة الأخيرة فقط. وعموماً، يعتقد أن مليوني شخص غادروا البلاد في حين نزح 7,1 مليون شخص داخل العراق” وتشير الإحصاءات الخاصة بالأشهر الستة الأولى من العام الجاري إلى أن العراقيين شكلوا اكبر مجموعة من طالبي اللجوء في أوروبا، بينما ارتفع عدد العراقيين الذين يطلبون حق اللجوء في الدول الصناعية المتقدمة بنسبة 50 في المئة عما كان عليه في العام الماضي. وأشارت مفوضية اللاجئين إلى أنها اضطرت إلى تغيير مهمتها من مساعدة العراقيين على العودة إلى بلادهم إلى مساعدة أولئك الذين يهربون من الأوضاع غير الآمنة.
هذه الأوضاع المأساوية لا يمكن عزلها عن استمرار الأزمة السياسية المستفحلة، وفشل الكتل السياسية الرئيسة في الحكومة وخارجها في التوصل إلى إقرار المصالحة الوطنية الواسعة والشاملة، بعيدا عن منهج المحاصصة الطائفية والقومية، وتقاسم المنافع الخاصة، الذي لايزال يتحكم في سياستها ومواقفها وممارساتها اليومية على الأرض، رغم الشعارات الطنانة حول الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية. التكتل الجديد يعبر إلى حد كبير عن توافق مصلحي آني بين أطرافه. وهناك شك كبير أن يصمد طويلا، خصوصا في ظل تفاقم التجاذبات والصراعات السياسية بين الكتل الرئيسة، ومكوناتها وتمظهراتها الطائفية والمذهبية والاثنية، وعجزها عن التوصل إلى حلول توافقية على قاعدة المصالحة الوطنية الشاملة، ووفقا لمشروع وبرنامج سياسي للإنقاذ، تشارك في صياغته وتنفيذه كافة الأطراف والمكونات العراقية الفاعلة، وبما يعزز مفهوم المواطنة والحياة المدنية العراقية، والمشاركة والممارسة الديمقراطية، واحلال الأمن والاستقرار، واحتواء العنف والإرهاب عبر حل المليشيات والجماعات المسلحة كافة، بما فيها المرتبطة أو القريبة من أجهزة السلطة، وخلق الأرضية الملائمة لترسيخ دولة القانون والمؤسسات، واتخاذ خطوات واجراءات عملية لضمان جلاء قوات الاحتلال وفق جدول زمني، وتمكين العراق من استعادة حريته، واستقلاله، ووحدته ارضا وشعبا. المؤمنون بهذه المبادئ والأسس ويسعون إلى تحقيقها فعليا على الأرض، يستطيعون وفي مقدورهم أن يكونوا أعمدة الجبهة الوطنية ”المعتدلة” العتيدة لانقاذ العراق وشعبه. اخيرا اقترح على التكتل الجديد ان يبحث له عن تسمية جديدة تتفق ومواصفاته واستهدافاته الحقيقية.
* كاتب سعودي
الوقت
na.khonaizi@hotmail.com