فرج بيرقدار : شاعر سوري من مواليد 1951. سجن عدة مرات.. قضى في المرة الأخيرة قرابة أربعة عشر عاماً. له عدة مجموعات شعرية:
ـ وما أنت وحدك، دار الحقائق، 1979
ـ جلسرخي، قصيدة مطولة، دار الأفق، 1981
ـ حمامة مطلقة الجناحين: هرّبها من السجن وطبعها أصدقاؤه في الخارج 1997, وقد ترجمها الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي إلى الفرنسية.
ـ تقاسيم آسيوية، دار حوران، 2001
وثمة مجموعات أخرى من كتابات السجن مخطوطة وقيد الطبع.
حائز على جائزة هلمان/هامت، 1998 وجائزة نادي القلم العالمي، 1999
خرج من السجن في 16/ 11 / 2000 بفعل حملة دولية لإطلاق سراحه.
بعد خروجه عاد إلى الساحة الشعرية عبر العديد من الأمسيات والندوات والمهرجانات في دمشق وعمان وألمانيا وفرنسا وسويسرا وهولندا والسويد وبريطانيا.
* قابله فاضل الفاضل
فاضل: هل السجن خمسة جدران كتيمة، أم أنه زمن راكد ورطب، أم أنه الحنين المسور بالبنادق، أم هو الطاقة الإنسانية منـزوفة في العتمة؟
فرج: هو كل هذا وغيره أيضاً. هو مكان لازمان له. إنه مكان مضاد. كما يمكن لك أن تقرأه على أنه شهيق من الجمر وزفير من الرماد. وهو، من جهة أخرى، زمن حجري عاطل ودنِس وغير أخلاقي.. زمن تؤرخه في الأيام الأولى على الجدران.. وفي الشهور اللاحقة على الذاكرة. ولكن عندما تصبح السنوات قطاراً طويلاً متعباً من الصفير ويائساً من المحطات، فإنك تحاول شيئاً آخر يشبه النسيان.
بالطبع ثمة قراءات متعددة للسجن، ولكن مهما تعددت هذه القراءات، فإن من حقها وواجبها، جميعاً وبدون استثناء، أن تحيل إلى فلسفة واحدة وحيدة هي الحرية.. أعني الحياة.
أما السجن فإنه.. يا إلهي!! هل يكفي أن أقول إنه حليف للموت؟
فاضل: الطفل ينمو بتقليده لعالم الكبار.. السجين يستحضر ويقلد عالم خارج الأسوار.. هل تشرح لنا هذه الآلية، وما وظيفتها؟
فرج: ببساطة لأن السجن غير قادر وغير قابل بطبيعته أن يشكل للسجين مرجعية آمنة أو مقنعة، وبالتالي يبقى الخارج بالنسبة إليه المرجعية الأم.
ولأن شروط السجن لا تتيح له التعامل مع مرجعيته الأم بصورة طبيعية، فإنه يلجأ إلى التواصل معها عبر الحلم أو الوهم أو التقليد.
حين يدخل السجين إلى الزنزانة أو إلى المهجع، لا يرى أمامه غير جدران عارية، وعليه أن يؤثث هذا المكان المضاد المعادي على نحو صداقي ما، يضمر شيئاً من الألفة أو الحنين أو الإحالة إلى ما كان قبل الاعتقال.
بعضهم يصنع خزانة ثيابه من سحاحير الخضار، بعد سرقتها أو طلب الإذن بحيازتها، وبعضهم يصنعها من تنك السمنة، وبعض آخر من الكرتون المقوى لعلب الزيت وغيره.. في البداية ربما يصنعها بدافع الحاجة أو الضرورة، ولكنه لاحقاً عندما يهدأ أو يستقر، يبدأ بتجديدها لتكون على أقرب نحو ممكن من طراز ما، يتخيله أو يعرفه في الخارج، ولكن ضيق المساحة المخصصة لكل سجين وشح بعض المواد الأولية وانعدام بعضها، يفرض عليه تصغير حجمها، فتبدو خزانة بائسة ممسوخة شكلاً وحجماً، وكذلك يفعل مع طاولة الكتابة مثلاً أو سفرة الطعام أو الكرسي. تراه يتحايل على أطباق البيض الفارغة، يجمعها ببطء ويركبها طبقاً بعد آخر، إلى أن تصبح كافية لبناء كرسي بارتفاع ثلاثين سنتيمتراً، وبعضهم يبالغ في الأمر ويمكن أن يصنع كرسياً بارتفاع ستين سنتيمتراً. لا أعرف كم مئة طبق يحتاجه كرسي من هذا الحجم؟! بالطبع الزمن فائض إلى حد لا تعرف ماذا يمكنك أن تفعل به.
وحتى الأسرّة التي يمكن أن تحتاج إلى جمع أخشاب السحاحير لمدة عام أو عامين، لماذا يجمعها السجين؟ أليس في أحد الوجوه من أجل إقناع نفسه أنه مازال على اتصال بمرجعيته في الخارج، من خلال إحساسه بأنه ينام على سرير كما ينام الكثيرون من خلق الله؟ وأياً كان شكل وحجم وارتفاع هذا السرير، فإنه يكفيه منه الاسم، بحيث يستطيع أن يقول ( نمت في سريري، وجلسنا على سريري، وملعون أبو سريري )
وإن لم يحاول السجين محاكاة مرجعيته السابقة فليس أمامه إلا الاستسلام والإقرار بأنه أصبح سجيناً أبدياً وغير قادر على استعادة حريته حتى بعد الإفراج عنه.
وبالمناسبة فإن الشق الأول من سؤالك يثير في ذهني واقعاً مقلوباً مفاده أن السجناء، ومعظمهم من الرجال والكهول، يميلون إلى تقليد عالم الصغار، ولا أدري إن كان ثمة حاجة نفسية لذلك، أم أن واقع السجن يحول السجين إلى عاطل وطفيلي ومتطلب ونزق ومحكوم بتفاصيل يومية تافهة وزمن مترهل وأبله وقليل الكثافة، إذ ليس في حياته من جديد يعيده إلى نفسه سوى الزيارة التي ينتظرها مرة في الشهر وربما في الشهرين أو الثلاثة.
فاضل: إذن في مثل هكذا مكان، كيف يبتدع السجناء علامات وسلوكات للتمايز عن بعضهم ولماذا؟!
فرج: حين يعامل السجين بوصفه رقماً حيادياً بعيداً عن اسمه ولونه وملامحه، ومتشابهاً مع بقية الرموز أو الأرقام، وحين يطغى الرمادي على الزمان والمكان في نسق جهنمي مطفأ وملول وبارد، يغدو الإحساس بالتمايز فسحة حرية أو شكل مواجهة مع شروط الأسر، وهنا يتباين السجناء في طرائقهم وأساليبهم وعمق إحساسهم وثقافاتهم ودوافعهم، وأحياناً يتباينون بإمكانياتهم المادية التي تساعدهم على خلق تمايزات أوسع.
بعض السجناء يرتدي قميصه وحذاءه، خارج الضرورة والأعراف، من فتح الأبواب صباحاً وحتى إغلاقها في المساء، وبعضهم يرتدي ثيابه الرسمية فترة التنفس فقط، بالطبع إذا استثنينا الزيارات فإن السجن لا يقتضي أكثر من ارتداء بيجاما.
بعض السجناء يحاول التمايز بطريقة تدخينه، وبعضهم بالمبالغة في كمية السجائر التي يحرقها، وهناك من يتمايزون بطريقة تعاملهم مع أمراضهم وآلامهم عبر نزوعات تدميرية مرعبة، وتلمس أحياناً ابتداعات عجائبية تتعلق بالمبالغة في القراءة، أو مقاطعتها مقاطعة تامة كنوع من الاحتجاج الداخلي على شيء ما، أو باختيار عناوين أو مواضيع لا دافع إليها غير التمايز. كذلك الأمر بالنسبة إلى الرياضة مثلاً حيث تتحول إلى ميدان للتمايز بين ذاك الذي يمارس الجري ساعات طويلة وذاك الذي يقرر أنه لن يخرج من مهجعه حتى لممارسة المشي أو التعرض إلى الشمس في باحة التنفس. بعضهم كان ينفذ تمرين “المعدة” على سبيل المثال حوالي ألف مرة بشكل متصل. أحدهم يثبت أنه قادر على تدجين عصفور ” دوري” بل إنه درّبه على سرقة السجائر من علب الآخرين بمنقاره، وغيره يربي قطة ويعلمها أن تؤدي بعض الحركات الرياضية، وآخر يرعى بضع بزّاقات بحنان فائض، ورابع يدافع بذكاء وشاعرية عن ذباب الصيف البليد بوصفه كائنات لطيفة وشفافة .. إلخ.
ولكن لابد لي هنا من الإشارة إلى أن دوافع التمايز في هذه الأمور تختلط أحياناً بمسائل أخرى ليس سهلاً تحديدها أو القبض عليها، فقد تكون تزجية للوقت، وقد تكون بفعل الإحباط أو تعويض الانكفاء عن الواقع والآخر، وربما تكون اعتراضاً إنسانياً مبالغاً فيه على واقع وحشي مبالغ فيه.
لا أدري.. أشعر أن سؤالاً كهذا يحتاج إلى رويَّة وزمن واسترجاعات كثيرة وأشخاص كثيرين ممن عاينوا التجربة، وبالتالي يصعب على مقابلة من هذا النوع أن تنهض بالإجابة عليه كما ينبغي.
فاضل: قصيدة ” زيارة ” في مجموعتك ” حمامة مطلقة الجناحين ” تحرّض سؤالاً: ماذا تعني الزيارة للسجين. كيف يحياها قبلها وحينها وبعد أن تنتهي ويعاد إلى المهجع؟
فرج: تختلف الحالة كثيراً بين سجين وآخر، لا يمكن لردود فعل سجين لم يزر غير مرة أو اثنتين خلال عشرين عاماً أن تتقارب مع ردود فعل سجين يزار شهرياً أو كل بضعة أشهر.
كذلك يختلف الأمر بين من تأتي زيارته مفاجئة وبين من يعرف توقيتها مسبقاً، ولهذا دعني أحاول التركيز في حديثي عما تعنيه الزيارة بالنسبة إلي.
أقول دعني أحاول لأني لست واثقاً من قدرتي على رصد نفسي وردود أفعالي ومشاعري بين زيارة وأخرى، وإن كان ثمة جوانب ثابتة تتكرر في كل زيارة.
عندما تدخل الزيارة في مدارها المتوقع خلال أيام، أشعر أني قلق متوتر ومتقلب المزاج، ومع ذلك أبدأ بتهيئة نفسي لمواجهة لحظة إبلاغي من قبل الشرطي بأنه عندي زيارة.. ولكني كنت أفشل دائماً، إذ أجدني معوماً ومشتتاً وذاكرتي غير قابلة للتنظيم. لذلك صرت لاحقاً أسجل على ورقة كل ما أريد التحدث فيه أو السؤال عنه، ومع ذلك أعود من الزيارة لأكتشف أني لم أر أو لم أنتبه لبعض الفقرات التي سبق وسجلتها، فأنقل ما نسيته إلى ورقة أخرى ثم أبدأ بإضافة الأسئلة الجديدة التي تتناسل وتتراكم إلى حد لا يكفي زمن الزيارة القادمة لطرحها كلها.
كانت تمر لحظات، وغالباً في بداية الزيارة، أشعر فيها أن السماءات تنحني وأن الله يبتسم. ولكني في لحظات أخرى أشعر أن الزيارة هي الصحوة الجارحة والأكثر تأكيداً لمدى وعمق غيابي.. وقد شعرت في بعض المرات بنوع من الخجل.. نعم كنت أخجل من تصرفات بعض العساكر ومن إحساسي بالعجز ولا سيما أمام أمي وابنتي، ولكني أعود لأتواطأ مع نفسي وأهلي والزيارة، فما من بديل آخر يلبي ما تلبيه أو يجعلني على علاقة مباشرة مع الحياة.
وحين أعود فإنني غالباً ما كنت أعود منهكاً راغباً في النوم أو البكاء منفرداً، ولكنني عاماً وراء عام بدأت أدرب مشاعري على التبلد فور خروج أهلي من غرفة الزيارات.
نادرة هي الزيارات التي كانت تحمل أخباراً سارة للمُزار أو للآخرين، ولكن عندما يحدث فإنك ترى المهجع مكتظاً بالزملاء المهنئين. أما عندما لا تكون هناك أخبار مهمة تضيف جديداً إلى مستنقع السجن، فإن المهجع يعود إلى وحشته خلال دقائق، ويعود الإحساس بوطأة انتظار الزيارة القادمة.
بعض السجناء كان يتعاطى مع الزيارة بوصفه طفلاً وبوصفها عيداً، يرتدون من أجله ثياباً جديدة وينتظرون منذ الصباح الباكر وهم يرقبون الخارج بين فترة وأخرى من النوافذ العالية، حتى إذا حضرت زيارتهم أخذوا بالتلويح والإشارات وربما رفع الصوت ببعض الجمل، رغم ما يترتب على ذلك من مخاطر إلغاء الزيارة أو إغلاق الأبواب على الجميع.
بعضهم يعود من الزيارة التي تمتد إلى حوالي نصف الساعة، فيتحدث عنها لمدة عشر ساعات،وأحياناً يستكمل الحديث في اليوم التالي مع تعديلات هنا وهناك، وبعض آخر يعود من الزيارة متجهماً باستمرار وليس لديه من رد على أسئلة السجناء سوى جواب واحد يتكرر “ماشي الحال” تاركاً الظنون تأخذ المهنئين في مذاهب شتى، وهناك من كانوا يعلنون أنهم لا يرغبون أن يزورهم أحد بعد عودتهم من الزيارة!!
عموما أجمل الزيارات هي تلك التي يكون فيها زوار ملائكة، أعني الأمهات والأخوات والزوجات والبنات. وجود المرأة أكثر قدرة على منح الروح طراوتها وخضرتها المقاومة لجفاف الحياة ومرارتها في الداخل. ولكن بوصفك خضت التجربة، فإنك ستوافقني إذا اختصرت معنى الزيارة بالقول: إنها خروج من الجحيم إلى النعيم لفترة من الوقت ثم العودة إليه.
فاضل: غياب المرأة المادي في السجن يحوّلها إلى حضور وجداني، تخييلي وحلمي، تصبح معادلاً للحرية ونفياً لواقع السجن. أرغب أن أسمع تجربتك الوجدانية حول هذا، وهل أثّر هذا التركيز الحلمي على العلاقة الواقعية مع المرأة بعد خروجك من السجن؟
فرج: أبدأ من خاطر لطالما راودني داخل المعتقل، وقد كثّفته في المقطع التالي:
لا شمس هنا/ ولهذا أجدني عارياً/ من الظلال/ ولا امرأة أيضاً/ ولهذا أجدني عارياً/ من نفسي/
بالطبع تتعدد وجوه المرأة وحضوراتها في السجن على نحو لا يستطيعه الكلام إلا أصداء، ولا يستطيعه الصمت إلا ظلالاً.
بالنسبة إلي.. وحده الشعر كان يمكن له أن يشرف على ذلك الفردوس المفقود، ووحدها صلوات الأمل كان يمكن لها أن تجعل الزرقة أكثر قابلية لتجلي الرحمة والأنوثة.
السجن ذكورة افتراسية قصوى، والحرية أنوثة رحمانية قصوى. لا داعي لاستخدام لفظ الشبّاك إذا كانت لفظة النافذة تنوب، لا داعي لاستخدام لفظ الليل إذا كانت لفظة الليلة تنوب، وكذلك الأمر بين الفرشة والفراش، والخمرة والخمر والبطانية والغطاء، والسنة والعام، والعنق والرقبة.. إلخ.
باختصار تصبح تاء التأنيث هي الحرف الأجمل في دنيانا. لم يكن يشغلني كثيراً غياب المرأة أو حضورها كجسد. المرأة هي المرأة أماً وأختاً وابنة وحبيبة وصوتاً وقصائد وملائكة، وما من قداسة جعلتني أحتمل الأسر أكثر من اثنتين: أمي وابنتي. واحدة في آخر الغروب والثانية في أول الشروق، وأنا بينهما طائر الصمت والدموع بمنقاره المحنى وجناحيه الضارعين.
بدون المرأة.. بدون أطيافها وأصدائها أو رائحتها على الأقل، لا يكون الرجل إنساناً، أعني لا يكون إنساناً كامل المعنى.
غياب المرأة في السجن، وبالتالي كثافة حضورها، يمنح السجين شيئاً من صفاتها، ورغم ذلك يبقى السجين مهدداً بوطأة الزمن وقطار سنواته الطويل، ولهذا شيئاً فشيئاً يشعر بالتخثر، وربما يتبدد على نحو ما، روحاً وأحلاماً وذاكرة، حتى لا يتبقى منه سوى مساحات جرداء محروقة ومسورة بما تيسر من اللعنات والتوابيت والأسلاك الشائكة.
الظلال الوحيدة التي يمكن أن تحميك في هذا الوضع هي ظلال المرأة.
أظن أنه لولا السجن لما خطر في بالي ولا كان بإمكاني أن أقول: أنت أدرى بأن أعز النساء/ جميع النساء.
أجل تصبح المرأة في السجن معادلاً رمزياً وإنسانياً وفنياً للحرية، بل تصبح الحرية هي المرأة. أما عن أثر هذا التركيز الحلمي على العلاقة الواقعية بالمرأة بعد خروجي من السجن، فإن الأمر مازال أشبه بنص مفتوح على آلاء لم أكن أدرك أعماقها أو أشعر بها من قبل، ولم يكن ممكناً لي أن أرمم نفسي بدون المرأة أو بدون ما تنطوي عليه من علامات لها الكثير من مواصفات القداسة.
فاضل: عقدة الخبز، أعني النفور منه، عقدة تتفرد بها.. كيف تكونت؟
فرج: تربيتي الريفية علمتني أن الخبز نعمة مقدسة منحها الله لعباده، فإذا وقعت قطعة منه على الأرض توجّب عليك رفعها وتقبيلها ووضعها على جبينك بمنتهى الخشوع والاعتذار، وبغض النظر عما إذا كنت بحاجتها لاحقاً أم لا. وقد ظلت علاقتي بالخبز كعلاقة جميع الريفيين، الذين لا يشبعون بدونه، إلى ما بعد اعتقالي ببضعة شهور. كانوا في الفرع يقدمون لنا خبزاً لا يمكن تقديسه أبداً، بل لا يمكن اعتباره خبزاً أخلاقياً.
كنت أستغرب كيف ينجحون في تصنيع خبز على هذا القدر من الإهانة والازدراء؟! كان يخطر في بالي أنهم لو أقاموا مسابقة لأسوأ الخبازين، لما استطاع الفائزون أن ينتجوا خبزاً أسوأ. بدأت أشعر أن الأمر مخطط وأنهم يريدون إذلالنا وترويضنا نفسياً عبر تقديم خبز يقول: كلوني إن استطعتم فو الله الكلاب لا تستطيع أكلي. وهكذا يوماً بعد آخر بدأ إحساسي بالإهانة يتفاقم إلى حد الكزازة.
ذات مرة اتفقنا في المهجع، وكنت عضو لجنة فيه، أن نحتجّ على ما يُقدّم إلينا من عجين ملفوح بنار سيئة النية. لم تستجب الإدارة فكررنا الاحتجاج مرات عديدة، وفي النهاية قررنا عدم إدخال الخبز ما لم يحضر مدير السجن ويرى الخبز بأم عينه، فاعتبرت الإدارة هذا السلوك تمرداً جماعياً. كانت أمورهم على الأرجح مرتبة، إذ ما كدنا نعلن رفضنا لإدخال الخبز حتى حضر مدير السجن مع سرية من أسوأ عناصر الفرع.. حاولوا إخراجي من المهجع، فقلت إني لا أخرج إلا بحضور الضابط المناوب، غير أنهم قرروا إخراجي بالقوة. أعتقد أن ما تلقيته من سياط ولكمات كان أفظع وأبشع بكثير من جولات التحقيق المتعلقة بالمطبعة والبيوت والمواعيد. أخيراً منحني الله نعمة الإغماء، وتم سحبي خارج المهجع مع أربعة رفاق آخرين لينتقموا منهم عبر شبحهم بالكلبشات فوق قضبان حديدية متقاطعة تشكل حاجزاً فاصلاً قبل نهاية الكوريدور.
بعدها صاروا يحضرون لنا كمية أوفر من الطعام وخبزاً منتقى على الأغلب، ولكني لم أعد أمتلك القابلية لأكله، وربما زاد في الحالة أن بعض أسناني وأضراسي قد تكسر وتخلّع، ولم يعد سهلاً علي المضغ. أما الآن ورغم ترميم وضع الأضراس إلا أن نفوري من الخبز مازال قائماً. أحاول أحياناً بضع لقيمات وفي داخلي ما يشبه أصداء السياط وظلال الإهانة ومالا أدري.
فاضل: السجن السياسي يُحمَّل دلالة وقيمة هي كعلاقة كالعلاقة المتوترة بين تحقق الرغبة وبين كبتها. نقرأ هذا فيما يُكتب.. ونلاحظه في الحياة اليومية، حين يلتقي من عانى هذه التجربة مع غيره.. لماذا؟ وكيف تفسر هذه العلاقة الما تحت الوعي؟
فرج: عندما يطغى قانون القوة العارية على حساب قوة القانون المحتجبة، يصبح جميع المواطنين برسم الاعتقال أو الانتهاك، إن لم نقل اغتصاب كينوناتهم مادياً ومعنوياً، ويغدو اعتقال فلان دون فلان كما لو انه مسألة مصادفة أو نيابة قربانية، الأمر الذي يلقي على السجين السياسي ظلالاً فيها الكثير من ملامح الشفقة حيناً والإكبار حيناً وربما القداسة في أحيان أخرى، وبالتالي الكثير من ملامح البطولة التراجيدية. يحدث هذا بصورة خاصة بعد أن يخوض السجين السياسي التجربة ويخرج منها. أما قبل خروجه فإنه بالنسبة إلى الآخرين ضحية تثير فيهم الخوف والتعاطف وربما اللوم، بوصف اللوم دفاعاً عن أو تبرئة للذين لم يخوضوا التجربة بفضل المصادفة وحسن الطالع، وهذا لا يلغي بالطبع مفاعيل الغياب ودلالاته وهواجسه و إضفاءاته.
إذن دعني أقل إنه ثمة احترام ورهبة وإعجاب من جهة، وثمة شعور بالنقص أو بالذنب من جهة أخرى. الآخر يرغب في المواجهة والخروج منها سالماً أو منتصراً، ولهذا فإنه يُسقط عليك ما يتناقض في داخله من رغبة المواجهة والعجز عنها في آن معاً، وبالتالي فهو يريدك وينظر إليك ويحققك مثلما يراك في داخله، فيحمّلك مالا يستطيعه، وربما يطالبك أيضاً بما لا تستطيعه، إذ ليس أمامه من سبيل إلاك، لتعويض عجزه من ناحية والتصالح مع شعوره بالذنب من ناحية ثانية. السجين السياسي بالنسبة إلى الآخر شكل من أشكال المطهر الرمزي، والآخر بحاجة إليه مادام قد نجا من الاعتقال أو تنصّل منه أو جبن وتراجع حتى غدوت أنت في المقدمة. يكاد الأمر يكون تطبيقاً حياً لنظرية أرسطو في قراءته لتجربة المسرح اليوناني وأبطاله الذين يخوضون صراعاتهم مع قوى الخير والشر في معركة، صحيح أنها غير متكافئة، ولكنهم يخوضونها بشرف إلى النهاية، وعلى نحو يفضي بالمتفرج إلى نوع من الإسقاط والتمثُّل وبالتالي التطهّر، وقد يشبه الأمر في مجتمعاتنا، المتشابكة الأديان والطقوس الإيمانية، نوعاً من الفداء الإنساني الأكثر أصالة، كما في سيرة السيد المسيح الذي ناب بآلامه عن الجميع، ففداهم وخلّصهم من شرورهم وآثامهم ونقص إيمانهم، وقد يشبه الأمر حالة رمزية تستحضر مأساة الحسين بن علي ( فما أشبه الكفر بالكفر/ والجمر بالجمر/ والشِمر بالشمر يحتزُّ رأسَ الحسين).
هكذا أقرأ سؤالك على هذا النحو العمومي ومن زواياه القصوى عبر قراءتي لنفسي قبل الاعتقال، وكيفية رؤيتي للسجناء السياسيين حينها، كما عبر قراءتي أو سماعي لآراء ومواقف وتعليقات الكثير من معارفي بعد خروجي من السجن. ومع ذلك هناك زوايا أخرى أقرب أو أوضح أو أبسط، يمكن أن نرى من خلالها من يرغب في أن يتماهى معك وبأكثر من معنى، وهناك من ينسجم مع نفسه في موقفها منك إلى الحد الذي يمكن أن يتحول فيه إلى سجين سياسي وتصبح عندها أنت الآخر، كما أن هناك من يعتبرك ضحية مجانية أو قضية خاسرة ولا شأن له بك، فيداك أوكتا وفوك نفخ.
ولكن في النهاية يبقى السجين السياسي يمثل همّاً عاماً أو قضية عامة، بخلاف السجين القضائي، ومن هنا تنبع أهميته أو قيمة تجربته التي تقارب رغبة الآخر في تحقق هذه التجربة عبر السجين السياسي وعلى نحو رمزي.. ذلك أن النحو الواقعي ينطوي على العديد من عوامل الكبت لا التحقق.
فاضل: تجربتك السياسية هل خدمت شعرك؟ وهل خدم شعرك تجربتك السياسية؟ وماهي العلاقة بين الشعري والسياسي في نصوصك وفي حياتك؟
فرج: سؤالك يبدو لي كما لو انه ينطلق من بدهيات، في حين يبدو لي الأمر مزدحماً بالالتباسات وربما بالنقائض. لا أدري.. قد تكون تجربتك في السجن وتعايشنا معاً قبله وخلاله وبعده، قد سمحا لك بالتقاط مسائل معينة استدعت منك طرح هذا السؤال.
إذن سأحاول معك الآن تقصي ما يمكن تقصيه على صعيد الشعر والسياسة في تجربتي معهما.
ينبغي علي أن أشير أولاً إلى أنني وردت السياسة كشاعر ولم أرد الشعر كسياسي.
في الحقيقة لم أكن مقتنعاً وربما لم يكن ممكناً لي أن ألعب دوري كشاعر وكسياسي “حزبي” في الوقت نفسه، وأنت تعرف أن العمل الحزبي أقصاني عن كتابة الشعر لمدة ست سنوات، ولم أعد إليه إلا في السجن.
قد أكون لعبت هذا الدور بصورة ما، بعيدة وعامة، في مراحل سابقة ولاحقة للعمل الحزبي المباشر، ذلك أنني منذ زمن طويل أحد المهتمين بالسياسة كهم وكهاجس عام، يمكن أن يغطي مساحات واسعة قد تمتد من وردة العاشق إلى مقصلة الجلاد.
بهذا المعنى وكشاعر، كتبت قصائدي بمفردات اللغة، أما كسياسي فقد حاولت كتابة قصيدة الحياة بمفردات الواقع. وإذا كان هناك بعض الظلال المتداخلة ما بين الشعر والسياسة، فيمكنني القول إن تجربتي السياسية خدمت شعري أكثر مما خدم شعري تجربتي السياسية.
لم أكن مقتنعاً بتوظيف الأدبي لصالح الحزبي على نحو إرادي مباشر، ولكن من حيث أدري ولا أدري، علّمتني تجربتي في العمل الحزبي وفي سنوات التخفي وحتى في سنوات الاعتقال، أن أتحرر من أسر الذات، وأن أرى هموم الناس وقضاياهم وأحلامهم وآلامهم على نحو أكثر ملموسية، وأعبر عنها على نحو أكثر وضوحاً وانحيازاً. فإذا كان شعري منحازاً إلى الكرامة لا إلى الذل، وإلى الحرية لا إلى الأسر، وإلى الحب لا إلى الكراهية، وإلى الحياة لا إلى الموت، أقول إذا كان ذلك يعني أن شعري خدم تجربتي السياسية فلا بأس.
هكذا أرى العلاقة بين الشعري والسياسي في نصوصي وفي حياتي جناحين للطائر نفسه أو للشاعر نفسه.
ربما ساعدني الشعر على التخفيف من قسوة ملامح السياسي، مثلما ساعدتني السياسة على التخفيف من فوضى الشاعر ومبالغاته في الذاتية واستغراقه في لعبة اللغة والعبث والهذيان.
بالطبع تراجعت هذه العلاقة بينهما خلال سنوات السجن لصالح الشعر أكثر فأكثر.
يبدو أنني في العمق غير قابل لأن أكون سياسياً بالمعنى الحزبي التنظيمي.
لقد بدأت حياتي شاعراً وسأكملها شاعراً، متأثراً بهذه الدرجة أو تلك بمجمل تجربتي في السياسة وفي السجن كما في ميادين حياتي الشخصية والاجتماعية.
أشعر أني كجسد وكروح أشبه نصاً مدروزاً بالأشواك والورود ومثقلاً بالغيوم والأجنحة.
فاضل: الشعر ديوان العرب والنحو منطقهم، هكذا قالوا، والديوان كما يمكن أن نعرّف، حيز للتواصل الإعلامي والمعرفي وللصراع ورسم الحدود والاستراتيجيات.. ألهذا استعارت السياسة لغة الشعر في تاريخ العرب؟ وكيف جرى هذا التحويل؟
فرج: لا أوافقك بأن السياسة استعارت لغة الشعر، وأعتقد أن أي قراءة لبرامج الأحزاب وجرائدها تنفي ما تذهب إليه. ولا يغير في الحال شيئاً إذا كان هناك زعيم سياسي ما قادراً على التحدث بلغة تتمتع بقدر من السلاسة والجمال والفصاحة والطراء.
ما فعله السياسيون أو السلطات السياسية هو أنهم استعاروا الشعراء وأشعارهم، ولم يستعيروا لغتهم. و لا أظن أن واحداً كسيف الدولة مثلاً، استعار في لغته السياسية لغة الشعر، هو استعار المتنبي وأشعاره، ولم يستعر لغة الشعر إلا عندما كان يحاول كتابة الشعر بعيداً عن شؤون الإمارة وسياستها.
وحتى في الوقت الراهن. تعال لنقرأ خطاباً سياسياً لأي زعيم عربي ونبحث عن الشعر في لغة خطابه. أنا على يقين بأننا لن نعثر إلا على ما يشبه الوحول والأشواك والرمال المتحركة وغير ذلك مما يعجز عن ماء الشعر وانخطافات أجنحته وألوانه. والمشكلة هنا ليست في السياسي وإنما في طبيعة السياسة ومقتضياتها. لغة الشعر تقتضي حرية قصوى، بينما لغة السياسة تبحث عن واقع أفضل أو مصالح شخصية أكبر وفقاً لأهداف وأخلاق السياسيين. حالة واحدة تلجأ فيها السياسة إلى لغة الشعر، هذه الحالة تتعلق بالأهداف البعيدة للسياسة، أعني بالأحلام المستقبلية التي تأخذ أبعاداً تبشيرية. والسياسات السائدة في هذه الأيام أكثر ضحالة وركاكة من أن تطمح إلى ذلك. أما في السياسات غير السائدة، السياسات المقموعة أو المعارضة، فالأمر يختلف جزئياً، وبالتالي قد تلجأ هذه السياسات إلى استخدام لغة الشعر بين حلم وآخر أو بين معاناة وأخرى.
فاضل: سأترك تاريخنا المعاصر بين قوسين، لأن الاختراق الكولونيالي ترك ما ترك من تداعيات، وأسأل: كيف تفسر إذن شبه الغياب للتنظير السياسي في تاريخنا؟ وكيف تفسر طغيان المديح والهجاء في الشعر العربي وهي أغراض سياسية بامتياز؟
فرج: السياسة كمفهوم لا يمكن فصلها عن الديموقراطية إلا مجازاً أو تجاوزاً.
ولأنه ليس في تاريخنا ديموقراطية، فإنه من الطبيعي أن لا يكون فيه سياسة بالمفهوم المعاصر، لا على صعيد الممارسة ولا على صعيد التنظير. ولكن لو تركنا المفهوم جانباً وتحدثنا بالدلالات اللغوية للألفاظ، فسيكون من السهل علينا الوصول إلى النتيجة التالية: سياسة القمع هي بالضرورة قمع للسياسة، هي إما أنك معي أو عليّ، وبالتالي ليس بإمكانها أن تعطي احتمالاً ثالثاً أو حصيلة ثالثة من العلاقة أو التفاعل بين النقائض النهائية أو التباينات الجزئية.
وقد لا نكون بحاجة إلى الجدال في أن تاريخنا العربي منذ أكثر من ألف عام لم ينم على وسادة الديموقراطية أو معادلاتها ليلة كاملة. بالطبع أتحدث عن الديموقراطية من زاوية معانيها أو مضامينها ووظائفها الأهم، لا من زاوية المصطلح بلفظه وتفصيلاته، فمصطلح الديموقراطية كما تعلم جديد نسبياً وإن جاء مبنياً على أو مستمداً من التجربة الإغريقية.
ومادامت حالتنا هذه، فإن السلطات غالباً ما تعدي معارضتها بأمراضها، فتعكسها على صورتها ولكن بشكل مقلوب أو من الجهة المقابلة، وهكذا لم يكن أمام الشعراء غير المديح أو الهجاء، ولكن لأن الشعر أكثر أخلاقية ورحابة من السياسة، فقد نجح بعض الشعراء في الهروب من هذا الطباق الملعون، أعني الهجاء والمديح، إلى حقل ثالث، فزرعوه بالغزل والتأمل والتصوف والرومانسية وغير ذلك من المعارضات الضمنية أو السالبة أو المهزومة أو الناجية بنفسها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المديح والهجاء تطورا وتعقدا بتطور وتعقد بنية المجتمع العربي من القبيلة والعشيرة والتحالف وصولاً إلى أشباه الدول.
فاضل: أنت الشاعر السياسي.. كيف تحدد الاختلاف بين لغة السياسة وأغراضها وغاياتها.. وبين لغة الشعر وأغراضه وغاياته؟
فرج: لا أعرف لماذا تبدو مصراً على وصفي بالشاعر السياسي؟! أنا لا أتفق معك ولا أرى أن التسمية تنطبق عليّ، لا من الناحية النظرية ولا التطبيقية. أعتقد أن عملي لسنوات في الحقل السياسي الحزبي هو ما يجعلك تضيف الصفة إلى الموصوف بشكل تلقائي.
أعتقد أني كتبت عن المرأة أكثر بكثير مما كتبت عن قضايا تنطوي على قواسم مشتركة ما بين هواجس الشعر والسياسة، وكذلك الأمر في الجوانب الوجدانية والإنسانية والتأملية، وحتى حين كتبت عن السجن والحرية، إنما فعلت من زاوية الشاعر لا من زاوية السياسي. كان ينبغي على سؤالك أن يعطف لفظ السياسي على الشاعر، لا أن يكون صفة له، فالسياسة والشعر نهران اثنان، يسير كل منهما على حدة، وإن حدث أحياناً أن تسربت بعض الجداول من هذا النهر إلى ذاك.
بالطبع يمكن لأي شاعر أو أي سياسي أن يكون لديه تصور أو رأي معين بشأن الاختلاف بين لغة السياسة ولغة الشعر. بالنسبة إلي، وكوني سبحت في النهرين خلال أوقات متباينة، أرى أن السياسة محاولة للارتقاء بالواقع، بيتما الشعر محاولة للارتقاء بالحلم. إذن هي تبدأ تحت وتسبح على السطح، وهو يبدأ فوق ويسبح في الأعالي.
قد يشكل الشعر حالة إغرائية للسياسة، بينما السياسة لا تستطيع أن تشكل تلك الحالة الإغرائية للشعر. هو لا يكتفي بأقل من المجاز، بينما هي قابلة للتعاطي مع أي قاموس لفظي. الجمال هو الحد الأدنى للشعر، بينما الحد الأقصى للسياسة هو التجميل، ولهذا قد تحاول السياسة في بعض المناسبات أن تتزين ببعض أثواب الشعر، أما الشعر فإنه غني عن السياسة. وإذا كان ثمة حقول مشتركة بينهما، فهي تلك الحقول المتعلقة بشرف المعنى والقيم الإنسانية الكبرى والانتصار لما هو أكثر عدلاً وجمالاً.
أخيراً لابد من الإشارة إلى أن الشعر والسياسة فعاليتان ضروريتان، لا يمكن لواحدة منهما أن تنوب عن الأخرى.. ولكن الأشخاص كفاءات واهتمامات واستعدادات متنوعة، ولابد أن تصب نشاطاتهم، عرفوا أم لم يعرفوا، في الميدان الواسع لسياسة ما، بيد أن هذا لا يعني ولا يتيح لنا تلقائياً وصفهم بأنهم سياسيون.
فاضل: سأدع العديد من القصائد الواضحة وسآخذ مثالاً ملتبساً: تكتب عن المرأة في قصيدتك الأولى من مجموعتك الأولى ” من يعجز عن حب امرأة / يعجز عن حبك يا وطني ” . وهو قول عن المرأة والحب في مستوى من القراءة، لكن بعد التحليل نعلم أنه قول يصنّف ويحدد ويقوّم ويقصي وهي عناصر رئيسية في انبناء القول السياسي.. ما تعليقك على هذا؟
فرج: الشعر، والإبداع عموماً، أبعد من السياسة، وبالتالي من الطبيعي أنه يتضمن ما يهمه من عناصرها ويتخطاها. ثم إن جزءاً كبيراً من الحِكَم والأقوال المأثورة في تراث الشعوب، تنطوي على نوع من التصنيف والتحديد والتقويم والإقصاء، فهل يضعها هذا في خانة القول السياسي؟!
ما يهمني هو أن لا يحدث الخلط ما بين السياسي والحزبي، وبعد ذلك ليس مهماً أن تتناول قولي الشعري السابق من زاوية سياسية. أما أنا فأعتقد أنه قول عن المرأة والحب في مستوى من القراءة، وهو موقف سياسي في مستوى ثان، وموقف جمالي وفلسفي و وجداني في مستويات أخرى. أنا أرى الإنسان أولاً والوطن تالياً، وأرى المرأة أولاً والإنسان تالياً. المرأة هي المعادل والرمز الأعلى للكينونة البشرية، هي حاملة الحياة وحاميتها، هي الوجه الأكثر حباً وحناناً وعطاء وتحملاً وتضحية، وهي نقيض القمع وضحيته في أكثر من ميدان، اجتماعياً وطبقياً وجنسياً.. إلخ. والموقف منها معيار حقيقي لإنسانية الإنسان بوجه عام وليس لوطنيته فحسب.
ألم يقل أجدادنا “الأرض عِرض”؟ وهو قول ينطوي على شحنة عالية ومتعددة الأبعاد سياسياً واجتماعياً ومعيشياً، فإن صحّ قولهم، وقد قيل بعيداً عن السياسة بمعناها الضيق وبمفاهيمها المعاصرة، فلماذا لا تأخذ قولي باتجاه قولهم، ولكن على أرضية ثقافية من أواخر القرن العشرين؟! هذه الثقافة التي ربطت في علم النفس وفي الأدب بين مهنة الجلاد والعنانة، فهل العنّين يحب؟ أنا أعتقد أن الجلادين وأشباههم، صغاراً أم كباراً، أعني على مستوى البيت أو الدولة، لا يحبون حتى أنفسهم، ناهيك عن الوطن أو الشعب أو المرأة في التكثيف الأخير.
فاضل: أليس انشغال القول السياسي هو في العلاقة بين الموجودات وممكناتها، بينما القول الشعري ينشغل بتصدعات وجود الموجود في الوجود؟
فرج: أعتقد أني أجبت عن بعض جوانب هذا السؤال أثناء حديثي حول طبيعة اللغة ما بين الخطاب السياسي والخطاب الشعري، ومع ذلك فإن صيغة سؤالك الآن تتيح لي أن أطل على أفق آخر قد أرى من خلاله ما لم أره سابقاً.
يسقط الطائر من بين جناحيه فتتلقفه السياسة، أما الشعر فلا يرضى بأقل من الأجنحة، ليرسم الطيران كمفهوم، كحالة، كهاجس.
ربما تحاول السياسة أن تتنبأ، ولكن الشعر لا يرضى بأقل من الرؤيا، في الوقت الذي يحاول فيه أن يتخطى النبوّة، بما يضمره أبداً من نية الخلق، أو إعادة الخلق على هيئة أكثر جمالاً وأخلاقية وحرية.
أحياناً يتشاغل القول الشعري بالموجودات وممكناتها.. ولكن تيارات الأعماق فيه تمضي إلى ما لا إياب له. هكذا.. ذهاب أبدي في سفينة الوجود التي لا جوديّ لها ولا مواعيد ولا جهات.
بالنسبة إلى الشعر، دائماً ثمة وجودٌ آخر، ينبغي البحث عنه والوصول المستحيل إليه” نوع من السيزيفية الألوهية” وثمة وجود أول، ينبغي ترميمه وتربيته وترويضه، وباختصار إعادة خلقه سوياً وبما يجعله مؤهلاً لممكن قابل للزواج من المستحيلات، مثلما هي القابلية بين الواقع والحلم.
كما ترى لا أعني هنا الوجود بوصفه موضوعاً فحسب، وإنما أيضاً وأولاً بوصفه ذاتاً إنسانية يستبد بها العقل من جهة، ويمنحها من جهة ثانية ارتياد مالا حدود له ولا ضفاف، ناهيك عما تفيض به الروح من مجاهيل وغوايات.
لهذا ينشغل الشعر بالحب والجمال والألم والحنين واليأس والحرية والكفر والإيمان والشك واليقين والحياة والموت وغير ذلك من هذه الفجائع والرهافات التي لا يستطيعها الوجود فتضنيه التصدعات، ولا هي تستطيع الوجود متصدعاً، فتواصل سموها في المعاناة والنهوض بأعباء ومسؤوليات أغضت عنها عناية المطلق الأول المفترض.
ولهذا أيضاً فإن مياه السياسة تبقى ضحضاحة في هذه الميادين، بينما تفور مياه الشعر بالكثير من الأسرار والغموض والقلق والرغبات.
فاضل: لقد كان خروجك من السجن بفعل تدخل مباشر من الرئيس الفرنسي الذي عبر عن حركة مطالبة بالإفراج عنك قام بها أفراد وهيئات في أوروبا، كما أنك دعيت في العام التالي من إطلاق سراحك إلى مهرجان “جرش”، وسافرت إلى ألمانيا بدعوة من مؤسسة “هاينرش بول” وأقمت العديد من الأمسيات في أكثر من بلد أوروبي، فهل تأسس هذا الاهتمام أولاً: على قول شعري تعرض قائله إلى الانتهاك، أم على معتقل رأي يكتب الشعر؟
فرج: صحيح أن الرئيس الفرنسي تدخل من أجلي بشكل مباشر أثناء زيارة الرئيس حافظ الأسد إلى فرنسا عام 1998 ، إلا أن السلطات لم تفرج عني في ذلك الحين، لقد تأخر الأمر إلى 16/ 11/ 2000، وخلال هذه الفترة كانت الحملة الدولية تواصل نشاطاتها بشكل مكثف عبر منظمات أدبية وصحفية وحقوق إنسان، مثل اللجنة العالمية لمناهضة القمع، والأمنستي، ونادي القلم العالمي، وصحفيين بلا حدود..إلخ، كما من خلال أدباء وفنانين سوريين “في الخارج”، وعرب وأجانب، ولكن الوزن الأكبر للحملة نهض به الأدباء والفنانون والحقوقيون الفرنسيون. وقد تكون هذه الحملة توافقت مع ظروف قبضة أقل تشدداً في سوريا، لها شروطها وضروراتها الداخلية والخارجية، وربما حد أعلى من المرونة في استجابة السلطة السياسية لتلك الضرورات.
وأياً ما كان الشأن، وبعد إعلان امتناني لكل من أسهم في حملة الإفراج عني، أقول إن هذا الاهتمام قد تأسس أولاً على مرافعتي إلى محكمة أمن الدولة العليا، حيث ترجمت وأذيعت ولفتت انتباه الرأي العام الأوروبي والمنظمات المعنية، إلى أن صاحب المرافعة ليس معتقل رأي وحسب، وإنما هو شاعر أيضاً.
من الواضح أن الرأي العام الأوروبي وجزءاً مهماً من المثقفين العرب، يعير اهتماماً خاصاً للسجين إذا كان شاعراً أو فناناً أو صحفياً أو حقوقياً أو غير ذلك من الحقول الإبداعية والإنسانية التي من شأنها أن تحمي صاحبها أو تستدعي مزيداً من الدفاع عنه، أياً يكن رأيه أو انتماؤه السياسي.
فيما بعد لعب نشر مجموعتي الشعرية “حمامة مطلقة الجناحين” وترجمتها إلى الفرنسية دوراً إضافياً وربما نوعياً في تصعيد الحملة وصولاً إلى الإفراج عني.
إذن كما ترى.. لم يتأسس الاهتمام أولاً على قول شعري تعرّض قائله للانتهاك، ولا يجوز لي ادّعاء ذلك، لاسيما أنني حين اعتقلت لم أُعتقل كشاعر، وإنما بوصفي معارضاً سياسياً.
(سبق لي أن اعتقلت عام 1978 بوصفي شاعراً فحسب).
صحيح أن معظم الدراسات التي نشرت حول مجموعة الحمامة كانت تركز على ما تعكسه هذه المجموعة من خصوصية في تنوع مواضيعها وهواجسها، أو ابتعاد لغتها عن المباشرة في عرض بعض وجوه التجربة أو المعاناة، ولكن رغم ذلك فإنه ليس من السهل هنا الفصل ما بين الشاعرية والشاعر والتجربة. هنا تصبح الحرية أولاً، تصبح الحالة بمجملها قيمة إنسانية بحد ذاتها، لا يتبرأ منها غير الخصوم أو المحكومين بدوافع الانكفاء أو الغيرة أو الخوف أو الحسابات الشخصية الضيقة.
بالطبع ليس لي حق على بعض الشعراء العرب، والسوريين خصوصاً، الذين تحاشوا أن ترد أسماؤهم في أي من المذكرات أو البيانات أو الكتب التي طالبت بالإفراج عني، وإن كنت آمل لو انهم فعلوا، ليس من أجلي شخصياً، بل من أجل شرف الثقافة وحرية الرأي. أقول ليس لي حق عليهم، ولكن ليس من حقهم أيضاً أن يستغربوا اهتمام الآخرين بشاعر داخل المعتقل أكثر من اهتمامهم بشعراء يعيشون حياتهم ضمن الحدود العادية من الهدوء والطمأنينة أو من القلق والسأم وغير ذلك. أحياناً كان يخطر في ذهني أن أتصل ببعض هؤلاء الشعراء لا لأعاتبهم على صمتهم الطويل، ولا على عدم إزعاج هواتفهم للاتصال بي وتهنئتي بالخروج، بل لأعتذر إليهم عن غيابي عنهم، وربما عن عودتي إليهم أيضاً بعد كل تلك السنوات.
في حلقي الكثير من المرارة.. يا إلهي كم تذكرتهم في السجن وكم تجاهلوني. بعضهم اعتبر اعتقالي امتيازاً وسبيلاً إلى شهرة أكبر من أن أستحقها، وأنا أعتذر إلى هؤلاء أكثر من غيرهم، ومع ذلك لا أتمنى لأحد منهم أن يعيش تجربة مماثلة لتجربتي، حتى لو كان محذوفاً منها السياط والجنازير وامتهانات الروح والجسد وازدراء ذلك الجرْس البعيد لتك الحروف الثلاثة التي تتشكل منها لفظة الموت.
أعرف أني ابتعدت قليلاً عن سؤالك، ولكني أعود إليه الآن لأختصر الإجابة أو أكثفها بالقول: ربما بدأت قضيتي كسجين شاعر، ولكنها شيئاً فشيئاً، ولا سيما بعد قصائدي المهربة إلى الخارج، أصبحت قضية شاعر سجين. أما الآن وبعد أن انتهت القضية، فإن المطروح هو حال الشعر وليس حال الشاعر.
فاضل: أربع مجموعات شعرية قد صدرت، وهناك ما هو قيد الطبع، فضلاً عن ترجمة شعرك إلى عدة لغات.. ولست عضواً في اتحاد الكتاب العرب، لماذا؟!
فرج: إسأل بها من كان خبيراً؟
ماأعرفه هو أني حين تقدمت بطلب انتساب إلى الاتحاد، في بداية1981، جاءني الرد بالرفض، ولم يحدد لي علي عقلة عرسان أي سبب للرفض. لقد اكتفى كتابه بالقول” يؤسفنا إبلاغكم عدم الموافقة على قبولكم عضواً في اتحاد الكتاب العرب. آملين لكم التوفيق في خدمة الآداب والثقافة. وتقبلوا فائق التحية” .
وأنا أعتقد أن ليس لدى عرسان أي اعتبارات أدبية أو فنية تحول دون الموافقة على عضويتي. ولأن عرسان رئيس اتحاد مؤبَّد منذ عام 1975 ولايزال، فإني لا أفكر في تقديم طلب انتساب جديد. أنا الآن أتساءل فقط عن الحكمة من تأبيده، هل هي جدارة إدارية أم سياسية أم لها علاقة بأمن الثقافة؟؟
في العام التالي، أو ربما في نفس العام، انتسبت إلى الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، كوني كنت أنشر معظم كتاباتي في الصحف الفلسطينية، ولكن تبين لي فيما بعد أنه لا يختلف كثيراً عن اتحاد الكتاب العرب، من حيث درجة استقلاليته عن السلطة التنفيذية في سوريا، إضافة إلى أنه لم يجرؤ على الإعلان أني عضو فيه، وذلك كنوع من الرد أو التصحيح لما صرح به صابر فلحوط في أكثر من مقابلة عن عدم وجود أي صحفي في السجون السورية ( لقد كنا حينها ستة صحفيين سوريين والسابع فلسطيني، تطالب بهم منظمة صحفيين بلا حدود). يبدو أن صابر فلحوط وكذلك علي عقلة عرسان لا يعترفان ولا يجدان نفسيهما معنيين بأي أديب أو صحفي خارج اتحاديهما. لكأنه لا سلطة للثقافة عندهما خارج ثقافة السلطة!!
ومع ذلك، ورغم كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات، فإنه لا يزال في الاتحاد كتاب جديرون بالاحترام وينبغي التعاون معهم، ولكن لأفترض أنني فكرت الآن في الانتساب إلى الاتحاد، فكيف لي أن أتجاوز المطالبة برد الاعتبار منذ عام 1981؟
بالطبع لا هم مضطرون لقبولي على هذا النحو، ولا أنا مضطر لقبولهم خارجه. ولهذا على الأرجح أن ينجو الاتحاد من عضويتي، أو أنجو من عضويته، مع كامل تقديري لكثير من الأعضاء فيه، وشكري لترحيبهم بي شاعراً من خارج الاتحاد.
“الرأي / خاص”