شكر وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، طهران على اسهامها في جمع سياسيين لبنانيين من الصف الثاني بضاحية باريس، في الأيام الأولى من تموز (يوليو) المنصرم. وموضوع الشكر هو ترخيص السياسة الإيرانية للمنظمة الشيعية المحلية بالمشاركة في حوار الضاحية هذا. وفي النصف الثاني من الشهر، ألقى الوزير الفرنسي نفسه، غداة مجيئه الى بيروت ومحاولته استئناف الحوار الوطني وحمل سياسيي الصف الأول على مباشرته في بلدهم وعاصمتهم، ألقى تبعة انفجار العنف و «الحرب الأهلية» اللذين يتهددان لبنان على «سورية وايران» معاً وجميعاً. وأبدى أحد موظفي الإعلام في وزارة الخارجية الإيرانية دهشته، رداً على كلام الوزير الفرنسي، ووعد بتبديد مخاوف كوشنير، وبتكذيب تكهناته ضمناً، في آتٍ قريب. وأغضى اعلام المنظمة الشيعية السياسية والعسكرية اللبنانية عن تقويم الوزير الفرنسي الدورَ الإيراني (في لبنان)، ومساواته بالدور السوري المعروف، وهو موضوع إجماع سلبي غير مستتر. ولكن الإغضاء هذا يصحبه تقدير «ممثلي المعارضة (في) غداء قصر الصنوبر» ببيروت، وهو مقر السفير الفرنسي الرسمي، بأن فرنسا «بات لديها ادراك عميق بوجوب الشروع الجدي في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية» (قبل التزام الكتلتين النيابيتين الشيعيتين وحليفهما العوني المشاركة في جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، في 25 أيلول/ سبتمبر التزاماً لا يعطله تعذر الاتفاق على مرشح للرئاسة اذا تعذر الاتفاق هذا)، على ما ذهبت اليه إحدى الصحف المحلية (السفير، في 31 تموز).
وغداة سفر الوزير عائداً الى بلده، لخص السفير الفرنسي «ملخصاً تنفيذياً»، على قول صحيفة أخرى، ثمرة محاورات الوزير. فقال ان الوزير شدد على «ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري(…) ضمن نصاب الثلثين، على أن تعقب ذلك حكومة اتحاد وطني». وأما مواد برنامج الحكومة العتيدة، فهي تطبيق القرار الدولي 1701، وما انتهت اليه دورات الحوار الوطني (تحديد الحدود الدولية مع سورية، وتبادل التمثيل الديبلوماسي بين بيروت ودمشق…) واقرار اصلاحات باريس – 3 (وأولها خصخصة بعض المرافق العامة وتعهد فاعلية الإدارات) والتزام النقاط السبع (والنقطة السابعة فيها تقضي بنقل مزارع شبعا المتنازعة الى رعاية الأمم المتحدة واخراجها من الاحتلال الإسرائيلي قبل الجلاء عن الجولان، ومن غير ربطها بالجلاء هذا).
وتنكر المنظمة الشيعية المسلحة، وينكر حلفاؤها من بعدها، حصول اتفاق على هذه المسائل. وهم جميعاً دأبوا على الطعن فيها، وفيمن يذكّرون بها ويدعون الى احيائها. فهم، المذكرون ودعاة الإحياء، يتسترون على تواطئهم مع «الكيان الصهيوني» على «المقاومة» و «عمقها العربي والإسلامي». وكان سبق زيارة كوشنير صدور بيان مشترك عن محادثات الرئيس الإيراني والسوري بدمشق، في 19 تموز. وزكى البيان «تعزيز الوحدة الوطنية والوفاق الوطني ودعم (الرئيسين) لما يجمع عليه اللبنانيون كافة». ويعلق ابراهيم حميدي، من دمشق السياسية والإعلامية، على معنى «الإجماع» و «كافة»، فيقول ان ربط حل الأزمة بالتوافق «يعني اقتراباً ايرانياً من موقف دمشق» («الحياة» في 3 آب/ أغسطس الجاري). وأما كلام البيان على «أمن لبنان واستقراره وسلامة أراضيه»، وعلى «حق الشعب اللبناني في مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية… واستعادة ما تبقى من أراضيه»، فتأويله «الشامي»، بحسب المراسل، هو «ربط أهداف (حزب الله) وسلاح المقاومة بضرورة وقف اسرائيل انتهاكاتها سيادة لبنان وتحرير مزارع شبعا». وترجمة العبارة الأخيرة هي «ربط دمشق ترسيم الحدود في شبعا بتحرير الجولان». وهذا، في جملته، يخالف «ملخص» السفير الفرنسي «التنفيذي». ويخالف، على الأرجح، الرأي والمخطط الفرنسيين المعلنين والمعروفين.
وتكني الترجمة العامة للبيان، أو لفقرته اللبنانية، عن «رد على كلام وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير ان ايران تريد التهدئة في لبنان (وأن) سورية تعرقل ذلك». وهذا تطمين الى ان الحكمين المتحالفين يريدان في لبنان شيئاً واحداً: «التوافق» (أي حق النقض على المحكمة ذات الطابع الدولي، وتطبيق القرار 1701، والنقاط السبع، وباريس – 3)، و «الاستقرار» (من طريق الجهاز الأمني «السوري» واقرار المنظمات الفلسطينية «الشامية» على سلاحها وانتشارها داخل المخيمات وخارجها)، و «المقاومة» (أو استقلال «المقاومة الإسلامية» بولايتها على «أمتها» و «جهادها» وادارة بلادها).
والحق أن التعويل على الصياغة الديبلوماسية لا طائل كبيراً منه في الاستدلال على نهج السياسة القائمة، أو السياسات القائمة. فهذه الصياغة انما تنفع أولاً في الاستدلال على رغبات السياسة التي تتولى التنبيه والتأويل، وعلى مطامحها أو مطامعها ومقاصدها. ولا تعدم سياسة، أو ديبلوماسية، «مناقضة» نفسها بنفسها في اليوم التالي. فقبول من ندبه أحمد بن نجاد الى كتابة البيان السوري – الإيراني بعبارة البيان: «استعادة الجولان السوري المحتل الى خط 4 حزيران (يونيو) 1967»، ينبغي مقارنته أو موازنته، على الأقل، بمؤتمرات أحمدي نجاد السابقة، وتوصياتها بـ «شطب اسرائيل من الخريطة»، ودعوته في 5 آب الجاري، أي قبل أن يجف حبر البيان، اليهود الى ترك فلسطين، والإقامة بمكان آخر. وعلى هذا، فخط 4 حزيران 1967 هو خط الحدود الفلسطينية (في قيادة «حماس» على الأرجح) – السورية، وليس خط الحدود الاسرائيلية، (على ما يتوهم التعليل «الشامي) – السورية. وعبارة البيان، على هذا، تطوق خلافاً فلسطينياً – سورياً افتراضياً، تتيح «الحنكة التفاوضية والحرفة السياسية الفائقتان» (على قول المراسل) استباقه وتطويقه قبل وقوعه بعقود أو قرون. فالتنويه بالعبارة، وتأويلها انتصاراً ديبلوماسياً وسياسياً سورياً على «التعنت» الإيراني، انما يعلنان على الملأ بعض المشكلات التي تعانيها الديبلوماسية السورية في علاقتها بنظيرتها الإيرانية، الأحمدية النجادية على وجه الخصوص.
فسوابق الديبلوماسية الإيرانية القريبة في شأن القضية اللبنانية، والمساعي الفرنسية في معالجتها، ترد كلتاهما الى حوادث معروفة على هذا القدر أو ذاك. فمن هذه الوقائع مفاوضة ايرانية وفرنسية وعربية، على مثال المثلث «الإسلامي» – الأوروبي – العربي الذي ترى طهران نفسها أحد أركانه وبُناته، على الاتفاق الرباعي الانتخابي الذي انتخب الى المجلس النيابي اللبناني، في ربيع 2005، غالبية من كتل تكتل «14 آذار» (مارس).
وكانت الوزارة التي ولدت من هذه الانتخابات، ولا تزال ثابتة وقائمة الى اليوم على رغم استقالة 6 من وزرائها واغتيال سابع، من ثمرات الرعاية المثلثة نفسها، ومترتبة عليها. وحين اندلاع حرب «المقاومة الإسلامية» واسرائيل، في صيف 2006، أراد وزير خارجية فرنسا يومها، فيليب دوست – بلازي، لقاء منوشهر متقي، نظيره الإيراني، ببيروت، على رغم انتقادات فرنسية وأوروبية وأميركية حادة، وسعى في تجديد التنسيق الذي أثمر في 2005 – 2006 استقراراً جزئياً هزته، دورياً، اغتيالات، أردت شخصيات أعلنت معارضتها السياسة السورية في لبنان، وتفجيرات تولت استكمال «عمل» اغتيال رفيق الحريري و «مهماته» المقيمة والمتعاظمة. ولم يفلح الوزير الفرنسي في مسعاه. ولكن دوام العلاقات الفرنسية – الإيرانية، أو وجه من وجوهها، على هذا النحو خلف بعض الأثر في صوغ القرار 1701. وعن هذا القرار نشأت صيغة قوات الفصل الدولية (اليونيفيل) الجديدة والمعززة في جنوب لبنان. واضطلعت القوات الفرنسية، بعد تردد، بدور بارز في إحياء قوات الفصل، وحمل دول أوروبية أخرى على الإسهام فيها والانضمام اليها.
مقر رئاسة الحكومة اللبنانية
وجزء من الدالة الفرنسية في المسألة هذه يعود الى شبكة العلاقات الفرنسية – الإيرانية المعقدة. ففرنسا، الى دورها في المفاوضات الأوروبية – الإيرانية (مع بريطانيا والمانيا)، ثم في المفاوضات الدولية – الإيرانية (5+1)، قطب استثماري بارز في ايران. ومواقفها المتحفظة عن السياسات الأميركية في العراق وفلسطين وشرق آسيا، وربما أفريقيا، معروفة. ويعول خط أو جناح من خطوط السياسة الخارجية الإيرانية وأجنحتها، يتولاه هاشمي رفسنجاني على الأرجح (وهو حمل على الاتصال بالمملكة العربية السعودية، ودعا اليه، قبل زيارة أحمدي نجاد الرياض، في أواخر كانون الثاني/ يناير من العام الجاري)، على تعاون ايراني – فرنسي، من وجه، وعلى تعاون ايراني – سعودي، من وجه آخر. وتسعى الأطراف الثلاثة في تنسيق ما يمكن تنسيقه بينها في دائرة الشرق الأوسط. ولا يضير السياسة الإيرانية طبعاً الظهور في مظهر القطب، أولاً، والقطب المعتدل والمسؤول، ثانياً. وتستحسن طهران لبوس هذا اللباس في أمور صورية لا تقدم ولا تؤخر، شأن جمع السياسيين اللبنانيين الذين دعاهم برنار كوشنير الى ضاحية العاصمة الفرنسية، أو عاد فدعا «أقطابهم» الى قصر الصنوبر ببيروت.
وفي وسع طهران الإدلال بـ «اعتدال» حزبها «الإسلامي»، غداة ابتداء تكتل «8 آذار» اعتصامه في قلب بيروت، وإناخته على هذا القلب، وذلك قياساً على «تطرف» من يمتون الى السياسة «الشامية» من غير وسيط. فلا ريب في أن الاستيلاء بالقوة المسلحة والارهاب على السرايا الكبير، مقر رئاسة الحكومة، كان في متناول الحزب الشيعي المسلح وأنصاره، لو اقتصر أمر الاستيلاء على حساب عسكري وتقني، على ما دعا اليه أنصار السياسة السورية المباشرون، وتابعهم على دعوتهم ميشال عون وأعوانه، من غير احتساب الثمن السياسي الأهلي، والديبلوماسي، والاقتصادي الداخلي، والاقليمي، والدولي. ولكن الحزب الشيعي نكص عن الخطوة هذه عمداً. ونكص عن المضي على «الإضراب العام» المسلح الذي قسر عليه معظم اللبنانيين في 23 كانون الثاني (يناير) 2007، وكاد يؤدي الى كارثة وطنية نذيرها الأول شطب الجيش اللبناني من عداد هيئات الدولة وأعمدتها وأركانها، وترك الدولة والمجتمع نهباً لقوى أمر واقع أهلية. وغداة نذير الكارثة هذا، حط أحمدي نجاد بالرياض ساعياً في تفادي شقاق مذهبي يُخرج فرق «المقاومة الإسلامية» العربية مخرج الوكالات المحلية المسلحة، أو أدوات تسلط طهران و «سيطرتها على عدد من الأوراق (…) جميعها عربية (…) من أجل تحقيق مصالح وأهداف غير عربية»، على قول أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر («الشرق الأوسط»، في 3 آب).
وتؤدي فرنسا دوراً آخر مباشراً في السياسة النووية الإيرانية، على ما تأمل طهران، هو غير دور الوساطة الديبلوماسية الذي مر الكلام عليه. فغداة استقبال الديبلوماسية الفرنسية السياسيين اللبنانيين، وحضهم على المناقشة المباشرة، والتوسط في انتخاب المجلس النيابي الرئيس العتيد بحسب الأصول الدستورية، بباريس وبيروت، دعا بعض مفاوضي الملف النووي الإيراني 10 صحافيين غربيين الى «رحلة في قلب الجهاز النووي» هذا، على قول صحافية فرنسية، سارة دانيال، شاركت في الرحلة («لونوفيل أوبسرفاتور»، عدد 2 – 8 آب). وفي أثناء «الرحلة»، لم يكف الأدلاء المأذونون عن مديح الرئيس الفرنسي الجديد، نيكولا ساركوزي، وتثمين عزمه على بيع طرابلس الغرب، ومعمر القذافي، مفاعلاً نووياً لتحلية مياه البحر. فطرابلس القذافي، شأن طهران خامنئي وأحمدي نجاد، محل تهمة دولية، ويُخشى توسلها برنامجاً مدنياً الى انجاز برنامج نووي عسكري. فإذا رفعت التهمة عن الزعيم الليبي، فقد يؤذن رفعها بعودة الى «تقليد» سابق أباح لها بيع مفاعلات نووية الى زعماء اقليميين غير مأموني الجانب ولا السياسة، على ما لاحظت صحيفة ألمانية قاسية («الحياة»، في الأول من آب).
وهذه الخيوط، الدقيقة أو الغليظة، قد ينعقد منها تنسيق ظرفي. ولكن من العسير أن ينعقد منها محور، لا سيما في مسائل شائكة وحيوية مثل مسائل الشرق الأوسط الأربع (العراق وفلسطين ولبنان والملف النووي الإيراني)، وبين دول وسياسات بينها ما بين فرنسا وايران وسياساتهما، من تعارض عميق وتلاقٍ اضطراري. فالالتزام الفرنسي استقلال لبنان – ويتفق هذا وميل فرنسا، في صيف 2004 الذي صيغ فيه القرار 1559، الى تقديم اجلاء القوات السورية على كسر شوكة الحزب الشيعي المسلح، على خلاف الترتيب الأميركي للمسألتين، على نحو ما يتفق وترجحها في تصنيفه حركة ارهابية – الالتزام هذا يناقض مناقضة حادة المماشاة الفرنسية الطويلة (من 1983 غداة الهجوم الانتحاري على «دراكار» – الى 2004 تاريخ القرار 1559) السياسةَ السورية. فذريعة تخليص الدولة والمجتمع اللبنانيين من القبضة السورية و «تعريبها» الأبنية السياسية والاجتماعية وتحويلها مرافق سيطرة ساحقة تتولاها طغمة أمنية وأهلية، لقاء شراكة متوسطية – أوروبية تتبوأ سورية منها مكانة منظورة، باءت بالفشل. وتتحمل الديبلوماسية الفرنسية الشيراكية بعض المسؤولية عن الفشل هذا.
والتحاق بشار الأسد بالسياسة الإيرانية، من طريق أداتها الحزبية والمذهبية المحلية – وهذه الأداة رعتها الهيمنة السورية على الدولة اللبنانية، وكان يفترض فيها أن تكون سنداً لسياسة اقليمية هجومية ومستقلة – قيد الحكم السوري بمشكلات جديدة (المسألة النووية والعراق) لا تقل تعقيداً عن القضية الفلسطينية. ومقايضة طهران التحاق دمشق في («ساحة») لبنان، وبلبنان «شامي»، تكاد تكون أضعف الإيمان الإيراني و «الإسلامي». فلبنان كان غنيمة سورية. وهو غنيمة الحكم الأسدي الوحيدة. ولبنان المستقل والوطن السياسي (غير الإثني والعروبي المذهبي) مصلحة فرنسية وأوروبية وغربية متعاظمة. وعلى هذا فرسو محور إيراني – فرنسي، ولو هامشي، عليه، يوشيّه لون أو ظل «ليبي»، أمر عسير. والسعي الفرنسي المحموم في تجنب عثرة انتخابات الرئاسة وكمينها، وهو سعي تحدوه علاقة فرنسية وثيقة بكتلة الحريري ودالة مفترضة على ميشال عون بددت معظمها انتخابات المتن، قد تجزيه السياسة الإيرانية تعليقاً يعود على اللبنانيين بسلم ضعيف يجنبهم انفجار العنف، ولا يحصنهم من تفشي القروح (الاعتصام، مخيم نهر البارد، تهديد القوة الدولية، الاغتيالات، الحلف الشيعي – العوني…) في جسمهم المخلع. ومثل هذا لا يقيت محوراً ولا يقوم بأود استراتيجية.
* كاتب لبناني.
الحياة