وجوه في مخاض وطن: جويس الجميل والجيش اللبناني وأشرف ريفي
فارس خشّان
ـ 1 ـ
إنّها جويس الجميل
بالكاد تتكلم، ولكنها كلما فعلت غيّرت الكثير في كثيرين.
منبرها الوحيد في مناسبتين متباعدتين بالزمن ومندمجتين بالهدف، هو الصرح البطريركي، مرة حين كان بحلة الشتاء ومرة ثانية حين يزهو بحلة الصيف المسروق.
صوتها وهي تحذر المسيحيين من النزول الى ساحة الرياض الصلح، في الأول من كانون الأول الماضي، بعد أقل من أسبوعين على اغتيال بكرها بيار الجميل، لا يزال صداه يتردد. لا نزال نرسم تلك الصورة التي تجمع بين كل متظاهر لإسقاط الشرعية السيادية التي تمثلها الحكومة التي صُنعت في لبنان وبين مساهمته في توسيع رقعة الحفرة التي يراد أن يسقط فيها لبنان.
كان ذاك تصريحها الأول. كلمات معدودة بآثار لا تُمحى.
وفي الأيام القليلة الماضية، قرأت تصريحها في الديمان. قرأته عشر مرات، على عدد حبّات سبحة الصلاة المسيحية. كنت كلما انتهيت من آخر كلمة فيه أعود الى أول كلمة منه.
بدت كأنها مرآة تعكس حقيقتنا. تعكس نبتة محبة بيار الجميل التي كانت بدأت تنمو وتنمو. تعكس جذور الخيبة والصدمة من “بطلنا” ميشال عون. تعكس أغصان خوفنا على استقلالنا الوليد. تعكس التصميم الذي لا يلين على لبنان الذي به حلمنا ومن أجله تعذبنا ولتحقيقه ما زلنا ثواراً.. غيفاريين.
بعد تصريحها رميتُ كل التصاريح. لقد أشبعتني سياسياً. لم أعد أريد أن أستزيد. ما أروع السياسة بطلة أنثوية مباشرة ورسولية. سياسة بلا تلويح بما يتم تحضيره لنا من مكونات ما تحت الزنار.. العقلي. سياسة بلا كسر وخلع. سياسة بلا لقط على الرقاب. سياسة بلا ثوابت معروضة في المزادات العلنية.
كانت سياسة بلغة الأم. أليست السياسة وظيفة أمومية؟، بلى هي كذلك، لأنها تسيير شؤون المجتمع، السهر على كرامة الوطن، حسن تدبير أحوال المواطنين، السعي الى توفير رفاهيتهم ومعاقبة الضالين منهم وتقديس الغائبين بالشهادة.
كانت استراتيجية بلغة غريزة البقاء، وهل يمكن أن يدوم وطن بلا دفاع شرس عنه؟، وهل يمكن أن يستقيم مجتمع بلا تطهيره من غدرات الزمن عليه؟.
كانت عملية اقتراع بمراجعة الوجدان الجماعي، وهل الانتخابات بحقيقتها وبوظيفتها وبأهدافها، غير تغليب صوت الوجدان الحي على المصالح الانتهازية؟.
كانت استعادة لأصوات المنتشرين في السماء الذين يبحثون عن جنتهم في تفويت الأهداف على قتلتهم.. وعكس ذلك هو جهنمهم.
كلماتها النابعة من قلب ممزق بمشهد جسد ولدها الممزق برصاص الاغتيال، اختصرت الدستور والقوانين والتقاليد والصلاحيات وحقوق الطوائف وعلم السياسة و.. تعاليم الأنبياء.
ـ 2 ـ
إنّه الجيش اللبناني
معركته في مخيّم نهر البارد طالت. لائحة شهدائه في مواجهة الإرهابيين تطول. الألسنة المعقدة من تاريخها المملوء بالهزائم طويلة.
في عيده، للسنة الثانية على التوالي، لا يُقدم سيوفاً الى ضباطه الجدد بل يحملهم في نعوش، لا يستعرض جنوده أمام السياسيين واللبنانيين بل يُقحم أجسادهم قرابين على مذبح الوطن.
الأول من آب 2007 كالأول من آب 2006، الجيش اللبناني يُقاتل. الجيش اللبناني يبني ذاته. الجيش اللبناني يتعمد بالدماء.
في الأول من آب 2008، سوف يستحق العيد. في الأول من آب 2005 كان الاحتفال أملا بعيد مستحق. قبل ذلك كان الأول من آب عبئاً على الجيش اللبناني. عبء وجود لمؤسسة بلا وظيفة. لمؤسسة تخدم السيد حسن نصر الله وتتستر على غازي كنعان فرستم غزالي.
الاحتفال بالعيد لا قيمة له متى كان استذكاراً للتأسيس، لأن التأسيس بذاته يتهاوى متى كان موعداً لانطلاق مؤسسة بلا دور وبلا وطن.
في الجنوب، عندما انتشر الجيش اللبناني على الحدود متجاوزاً الحدود السياسية التي رسمتها له الدويلة وفلولها المنتشرة في أهمّ مواقع الدولة، أصبح الجيش اللبناني جيشاً. صار يستحق أغاني الصبوحة الوطنية، لأنه أصبح فعلاً لا قولاً “حامي استقلالنا”.
في نهر البارد، عندما واجه الجيش اللبناني بالجسد ـ في انتظار وصول السلاح والعتاد ـ إرهابيّي “فتح الإسلام”، صار الجيش أنشودة بتوقيع وزير دفاع ناج بأعجوبة من موت، وصار منصة يرتفع عليها قائد الجيش ليوجّه السياسيين، وصار ابتسامة ترتسم بفخر على ثغر كلّ مستبدل صرخات الموضة بتلك البذة المرقطة.
تضحيات نهر البارد هذا العام والانتشار على الحدود في العام الفائت، وحدها صنعت جيشاً للبنان. لحود بنى أيدياً لعقول مريضة لا توصل الى الحدود بل الى القصر الجمهوري، ولا تقاتل عدوا بل تفبرك ملفات تفتح أبواب سجن وزارة الدفاع، ولا تدافع عن وطن بل تجيّر هذا الحق الى “ميليشيا المثالثة الدستورية”.
في الجنوب وفي نهر البارد، محت كلمات النضال الحقيقي سطور الخزي والعار التي كتبت في مديرية مخابرات زمن الوصاية والانتهازية وانتهت عقدة نموذجي ميشال عون وإميل لحود وعاد الافتخار بذكريات فؤاد شهاب.
قبل أيام، وفي مجلس خاص، سأل مسؤول سوري نفسه وهو يتابع آخر أخبار معركة الجيش اللبناني في نهر البارد، عن الفارق بين جيش لبنان وجيش النظام السوري قبل أن يجيب: “لديكم، يستشهد الضباط والجنود خوفاً على حياة المدنيين، ولدينا يستشهد المدنيون خوفاً على حياة الجنود”.
ـ 3 ـ
إنّه أشرف ريفي
الوسام الفرنسي الرفيع الذي منحته إياه فرنسا، يحقق أهدافه ولكنه لا يوصله الى أمنيته.
برنار إيمييه الذي يغادر لبنان أثلج قلب أشرف ريفي. عدّد له إنجازاته كأول مدير عام استقلالي على رأس مؤسسة قوى الأمن الداخلي. أبلغه أن إنجازاته مقروءة في العيون الأوروبية وأن الهجوم السوري “الملبنن” عليه سقط في الحفرة، وإن تجاوزه الدائم بابتسامة لا تفارق محياه، للتهديدات التي أوصلها اليه هذا المجرم أو ذاك المتسلح، بدأ يثمر إنجازات.
لكن التكريم الفرنسي ولو أتى بعده ألف تكريم عربي ودولي لن يكفي. وهذه الفضيلة الوطنية لأشرف ريفي.
سيبقى هذا الضابط الديموقراطي يناضل الى أن يأتي التكريم اللبناني.
التكريم اللبناني ليس فيه شخصنة. لا هو يوصل الى رئاسة الانتربول، ولا هو يفتح أبواب التخليد لمكافحي الجريمة المنظمة والإرهاب، ولكنه يرتقي بمؤسسة أمنية يحتاج لها الوطن الى مصاف الوطن.
مؤسسة أنجزت للبنان. أنجزت ضدّ جريمة “عين علق”. هي تنتج ضدّ قتلة الوزير الشهيد بيار الجميل. أنجزت الكثير في ملف اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. أنجزت اكتشافات مهّدت لتصفية “فتح الإسلام”. رجالها أمثال سمير شحادة، ولو نستهم السياسة إلا أنهم الدليل الساطع على الاستعدادات الاستقلالية التي تبدّت منذ اللحظة الأولى عند المؤسسة التي تسلمها أشرف ريفي من علي الحاج.
التكريم الفرنسي في مكانه. التكريم اللبناني لن يكون بعيداً.
المستقبل