“أنت إن خربت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم
فهي خراب أينما حللت”
كافافي
عندما نتحدث عن المنفى فإن مرادفات كثيرة تتداعى في نفس السياق: الغربة ،الهجرة،الرحيل،الحنين…إلخ، الأمرالذي يحيل مباشرة الى اللوعة والفراق الصعب والمعاناة،ويغدو أي مهاجر عادي منفيا يعيش مضاعفات التجربة.إلا ان المنفى مثله مثل أي فضاء آخر ليس حكرا على المطرودين ،ويمكنه ان يكون طوعيا ولا طوعيا،لكن الذي يجمع ما بين الحالتين هو ما بات يعرف ب”أعراض أوليس”، التي تسجل في باب الرغبة في الذهاب بعيدا للبحث عن الافضل،ولهذا تصبح المعاناة امرا عاديا بفضل اسطورة حلم العودة المظفرة.
في جميع الاحوال، لا يمكن اختصارالمنفى في المعاناة فقط،بل هو منذ البير كامي وحتى سولجنستين،مرورا ببيسوا وجورج سامبران وعبد الرحمن منيف، صار حالة إنسانية وثقافية،وحياة،واخلاق،وممارسة.
لكي لا أبقى في الإطار النظري، أود أن القي ضوءا سريعا على جانبا من تجربتي الشخصية مع النفي الطوعي، الذي صار مع الزمن قسريا،طبقا لحكمة صديقنا الكبير مالك حداد الأثيرة”المنفى عادة سيئة يتقنها الانسان “.
حين عبرت الحدود لآخر مرة ما بين سوريا ولبنان، انتابني شعور بأني لن ارى قريبا تلك البلاد التي اخلفها ورائي.لأول مرة أحسست برغبة فعلية بعدم الالتفات الى الوراء نحو طفولتي الأولى،ففي كل مرة كنت افعل ذلك كان يصيبني وهن عاطفي يستولي عليّ مثل حمى مقيمة، فأضطر لأن أعود أدراجي بعد شهرين او ثلاثة من بيروت الى دمشق تحت وطأة الحنين.في ذلك اليوم من شهر نيسان/ابريل الذي مضى عليه اليوم نحو ثلاثة عقود، انتابتني رغبة وراثية جامحة في عبور الحدود من دون رجعة، مثلما كان اجدادي البدو الاقحاح يطوون المسافات والبلدان ما بين نجد والشامية، والفرات والربع الخالي،وهم يهزجون فوق ظهور الأبل،يقطعون الصحارى العامرة بالضواري وبحار الرمل، وكأنهم يسيرون فوق السحاب،لا يهزهم خوف ولا يقهرهم زمن،ولا يأسفون لما يتركون خلفهم، ولا يثنيهم خوف من المصير القادم.كلما كنت اريد عبور الحدود كنت استعيد في مخيلتي صور اجدادي الذين عبروا الربع الخالي ،لذا قررت مهتديا باولئك السراة الابديين الضاربين ردحا طويلا في تاريخ النأي والقطيعة الحدودية، أن اسير الى الامام بعيدا عن تلك الارض التي ولدت فوقها،ولم اتمرغ بترابها بحنان ولطف وكرم لائق.عقدت العزم ببساطة ان اذهب بعيدا،مثلما يليق بخائن أخذ على نفسه أن يرتكب الخيانة مع سبق الاصرار حيال المكان الأول،والارض التي تحولت بين عشية وضحاها الى منتجعات ومزارع للضباط الهاربين من الجبهات في المواجهات التي خاضها الوطن مع العدو،وفقد فيها اجزاء منه عزيزة عليه.
قد يعتبر البعض ان تلك اللحظة كانت قاسية عليّ وجدانيا وفيزيولوجيا، انا الشاب الطري العود الذي كنته،لا أبدا فقد كنت احلق عاليا بجناحين خفيفين ، لأحط بعيدا عن تلك البلاد.رغم صغر سني شعرت بأن العالم الكبير من حولي لم يعد يتسع لي،وأن “أرض الآخرين”(عنوان مجموعتي الشعرية الثانية) تناديني.
قررت الخروج نهائيا لأني أصبحت بلا وطن هناك،اذ لايكفي ان يكون للمرء مكان ميلاد وبطاقة هوية لكي ينتسب الى بلد بعينه،بل في بعض الاحيان تكفي ثانية واحدة لكي ينشطب تاريخ شخصي بقرار من شرطي لايجيد القراءة ولا الكتابة.كان امامي احد ثلاثة طرق إما ان انتحر،أو ان ادخل السجن بسبب شتيمة في بار اوشارع او شجار مع رجل امن من “سرايا الدفاع”(ميليشيات شكلها شقيق الرئيس السوري رفعت الاسد)،أو ان اغادر،فأخترت الحل الثالث،وكان هو الطريق السهل الممتنع.كان الاصدقاء يقولون اني اخترت الهرب على المواجهة،وبالنسبة لي كانت المسألة بمثابة التسوية التاريخية التي عقدتها مع نفسي،والتنازل الوحيد الذي قدمته هو للطريق الذي قادني للمستقبل.
لم يكن لدي اي مشروع خاص لاكتشاف العالم البعيد، مثلما ينسب غالبية كتاب السيرة الذاتية لانفسهم،كنت احلم بالعبور نحو الضفة الأخرى لرؤية التضاريس والجغرافيات الاخرى، التي حدثنا عنها احمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي ،كنت أتوق لأرى حنين نيرفال وفلوبير وهولدرلين على الضفة الأخرى ،لكني لم اكن قد خططت لارتكاب الخطيئة الكبرى،بالذهاب نحو المنفى البعيد،والتحول الى منفي بقرار رسمي ،ولاني سليل نار البدو المشتعلة على مر العصور،ووفيا لحداء أبي الذي سار من الحجاز الى دمشق سيرا على الاقدام تحت راية الملك فيصل الأول،وجدت في ظل العلم الفلسطيني في بيروت دفئا خاصا ووطنا لايمتهن مواطنيه،وبواسطة بيروت عين شرق النهضة العربية المفتوحة على التنوير الاوروبي،بدأت باكتشاف العالم،لذلك دخلت هذه المدينة وجداني بسرعة شديدة ، بكائناتها وموجوداتها وزمنها الذي يؤرخ للزمن العربي الجديد ،وبدأت تشكل لي وجودا جديدا،ورغم الفترة الزمنية القصيرة التي امضيتها فيها وهي لاتتجاوز خمس سنوات، فإني لم اتحرر من تأثير سحرها الخاص الى الآن،ولطالما وجدت من العبث البحث في اسباب تلك العدوى وطرق علاجها،فمثلي مثل كل ابناء جيلي في المشرق العربي ، سأظل أشعر بامتنان خاص لكرم تلك المدينة الانساني والثقافي،واكثر من ذلك هي التي وضعتنا على طريق القراءة،وعلمتنا كيف ندافع عن وجودنا بالاحلام والورود،وعن وعينا بيقين المستقبل،لذلك احتفظنا بالرائحة والنكهة الخاصة، ولم يفلح الزمن وتعاقب البلدان في تغيير مساراتنا الشخصية. بيروت كانت، وهي باقية حتى الآن، نقطة الضوء الوحيدة في الشرق.
حين نتحدث نحن الكتاب العرب عن المنفى ،إن السؤال الاساسي الذي يطرح نفسه هو:هل بقيت هناك مساحة اليوم في المنفى لم يحرثها العابرون للقارات،الملايين من البشر الذين يجرون خلف سراب تاركين خلفهم جحيم الأوطان،هل ترك لنا نحن العرب اشقاؤنا الفلسطينيون والعراقيون واللبنانيون فضاءا لننفي انفسنا اليه طواعية،وهم الذين نفيوا قسرا بالملايين،وأي عدالة هذه أن تصبح ظاهرة المنفى حكرا على هؤلاء الاشقاء دون غيرهم، اين نضع انفسنا نحن الذين غادرنا طواعية، ولم يبق لنا هناك غير بقية تواريخ مجروحة،وآثار تنمحي؟
لم اخرج لكي ابحث عن وطن بديل،فكما اشرت في البداية انا رجل مسكون بفيروس النفور من المكان الواحد، والوطن بمفهوم الحدود وجواز السفر والشرطة والمطار.لذا أصابني الخوف حين سمعت في عدن جملة :اهلا وسهلا بك في بلدك الأول”،شعرت بالرهبة التي تثيرها قداسة الجغرافيا الاولى،بقيت هذه الجملة محفورة في وجداني ،لطالما بقيت عدن تغمرني بدفء انساني لا حدود له. كنت في كل مكان من الوطن العربي اسمع كليشيه الترحيب المعتادة “اهلا وسهلا بك في بلدك الثاني”.لكن من قال لأصحاب المطارات، اني سافرت لابحث عن بلد ثان او ثالث؟ اذا كنت تخليت طواعية عن بلدي الأول وتركته لبنات آوى،فهل يعقل أني خرجت لافتش عن رئيس شرطة آخر لأقدم له الولاء والطاعة،وعن علم ونشيد أموت لأجلهما بالمجان .إن الذي ينشق عن وطنه الاصلي لن يكون مشغولا بأن يعثر على وطن جديد،سيكون عرضة لأن يصبح مواطنا لاكثر من بلد،وقد تتجاور فيه البلدان،ولذا من الصعب علي اليوم القول اني اصبحت فرنسيا ولم اعد سوريا،فأنا في الاصل لم اشلح سوريتي خلفي لكي استجدي مواطنة اخرى خارج الحدود،نعم اصبحت مواطن وطن ابنتي وابني لكني لم اصبح فرنسيا،وليس هذا هو حلمي أو طموحي على الاطلاق،ليس لاني ارفض الفرنسيين،لا بل على العكس فأنا احتفظ لهم بدفء خاص، وكنت ساشعر بنفس الشعور لوكنت في الولايات المتحدة او اليابان،وبالتالي انا لست من المشغولين كثيرا بمسألة الانتماء الوطني ولا الهوية،لأن هذه القضايا تتكون وفق لحظتها وشرطها الانساني والتاريخي، وتتغير من تاريخ لآخر وما بين جغرافية وأخرى،وهي صارت تعني أكثر اصحاب الايديولوجيات المحاربة ،وليس الصعاليك من امثالنا، نحن الذين قررنا ان نطبق الباب خلفنا وندير ظهورنا لشرطة الحدود.
شهادة ألقيت في “الملتقى الدولي الأول للكتاب العرب في المهجر”، الذي انعقد في الجزائر بين 22و28 حزيران/يونيو الماضي، بدعوة من المكتبة الوطنية الجزائرية،والمركز العربي للأدب الجغرافي في ابوظبي- لندن.w
bpacha@gmail.com
المنفى بدل عن وطن ضائع
يا بشير : وهل بقي للعربي وطن ؟
لايستفزني إياب
(غني عن الأوطان لايستفزني إلى وطن سافرت عنه إياب)
المتنبي
للوطن مفهوم آخر غير الحرس والحدود والمطار, ومن البديهي أن هذا المفهوم لاينطبق على سورية الحبيبة .