لم تعد الوقائع تخيف أحدا، بل لم تعد ذات فائدة للفهم. في الوسع تغطيتها
فورا بتأويلات من أي نوع، او استنطاقها اي كلام كان. في الوسع ايضا
تجهيلها او التجاوز عليها. في حال الانقسام اللبناني تتم دخلنة كل شيء
وإدخاله في صلب البارانويا الجمعية وقراءته على أنه تهديد دائم. في حال
كهذه ليس النقاش ممكنا بالطبع ولا يهتم أحد بغير تغذية خوفه واعادة
انتاجه. الواقع لا يعود يملك اي وجود موضوعي ولا يمكن فصله عن منطق
الخوف الحديدي الذي لا يمكن دحضه.
نفذ الى لبنان بعد انذارات عديدة فائض عراقي، مجموعة اصولية تكونت في
الغالب حول الحرب العراقية، وشجعت السلطة السورية على القائها في لبنان
بعيدا عن سوريا، لتتخلص منها هنا وتراقبها من قريب وتستعملها بالقدر
الذي تسمح به علاقاتها المعقدة بالحرب في العراق، انها جزء من فائض
الحرب العراقية، يمكن ان يتزايد كلما تفاقم وضع القاعدة في العراق او فاض
عن الساحة العراقية بفعل منازعات مع محيطها العشائري في الأساس.
فائض عراقي لن يستطيع العودة الى مواطنه العربية في السعودية وغيرها.
ولن تستقبله سوريا على أرضها بالطبع اذ سرعان ما ينقلب عليها وليس
سوى لبنان المنقسم المباح مخرجا له . هذه المجوعة باشرت ما تفعله عادة،
وتفجيرات عين علق هي النموذج . اما ذبح الجنود فهو المظهر التقليدي من
افغانستان الى العراق . رد الجيش الذي لم يترك له خيار آخر. واذا كنا لم
نطلع تماما على عواقب الرد الا ان الجيش لم يكن أرعن ولا هائجا في خطاب
على الأقل وسمح بهدنة انسانية، ولا يزال يؤكد على انه يسعى وسعه ليتجنب
المدنيين ودور العبادة. هذه الوقائع، اما ما بني عليها فلا نعرف كيف اتصل
بها . لا نفهم الصيغة التجهيلية التي تتكلم عن توريط الجيش، سعيا الى
استدراج اليونيفيل الى بقية لبنان واحتيالا لإلغاء مخيم البارد على طريق
التوطين. انها جملة غيلان كبيرة تستدعى مرة واحدة . وربما على انها
مترادفات او سلسلة على الأقل . تدمير الدولة والتدويل والتوطين، فالآخر
الذي هو الشر كله والإجرام كله لا يتورع عن شيء.
الذي لا يسمى مثله مثل الشيطان « المجهّل » انه اجرام بنيوي يجعل هذا الآخر
المسؤول الحقيقي عن ذبح الجنود والمسؤول الحقيقي عن قصف المخيم
والمسؤول الحقيقي عن مقتل عناصر فتح الاسلام وربما المسؤول الحقيقي
عن تفجيرات عين علق وسرقة البنوك وربما، اذا استطردنا، سيكون المسؤول
الحقيقي عن الاغتيالات والجرائم كلها . اما الشر الذي ظهر امام الجميع وتحت
كل العيون في مهاجع الجنود وفي الباصات فهذا ليس المصدروليس الأصل.
اذن لا تفيد الوقائع في شيء، انها مظاهر فحسب، اما الخطر والشر والاجرام
فهي في هذا العقل المفيستوابيلي الذي لا يسمى والذي يدبر خفية ويستعمل
الجميع من الجيش الى فتح الاسلام، والذي يتسلسل بالتأكيد من اركان 14
آذار حتى بوش.
هكذا يتعمم فهم لا تجدي معه الوقائع ما دام ثمة وراءها دائما وابدا باطن
خصب لا يُدرك الا بتأويل يرجع كل شيء الى اركان ثابتة، هي ذاتها بلا أي
فرق ولا توسطات ولا خصوصيات . اذ يمكن ان نلاحظ كيف توالى اسقاط
صفات العدو الاسرائيلي على الخصم المحلي، بدأ من التعامل والاشتراك
انتهاء بحلول الخصم المحلي تقريبا محل العدو نفسه في الاجرام والتخريب.
انه عقل الثورة لكنه ينتقل الآن من الخارج الى الداخل، ومن الحدود الى
العمق، وغالبا بدون فارق كبير في الخطاب . ثمة عدو الخارج وعدو الداخل
وليسا مختلفين في الجوهر والشبه والمصدر . في الداخل كما في الخارج
تصلي الثورة العدو حربا حامية.
تتناقص هكذا فرص الحوار وامكاناته الى درجة الصفر، فاذا بدا بعد مقتل
الزيادين ان شبح الحرب الأهلية يطل وان خطرا كهذا يستدعي اصطفافات
جديدة، ويقوم وليد جنبلاط بخطوة في هذا السبيل، يرتفع صوت التنديد
اكثر وأعلى، واذا بدا ان الاعتداء على الجيش من قبل عصبة تكفيرية ينقلنا
الى مرحلة اخرى من المجابهة ارتفع صوت يستدعي الغيلان نفسها ويتهم
الطرف الآخر بها جميعا . في الحالين يدعو الواقع الصرف بالوقائع البارزة الى
تغيير وجهة الصراع والانتقال الى مجابهة اخرى، سواء للعنف الاهلي أم
للفائض العراقي، وفي الحالين ثمة من لا يريد ان يرى ويصر على ان يبقى
الصراع على أرض الاسواق وعلى حدود الانقسام التي جرى رسمها
بالجغرافية والسلاح والعصبية الطائفية منذ أشهر.
منذ انتقلت المعركة الى الداخل، هناك تصميم على اسقاط الخطاب الحربي
بكامله على المواجهة الجديدة . لقد تعين العدو وسيكون باستمرار نصب
العين، ولن يؤدي أي تغيير في الظرف او الواقع الى صرف المواجهة صوب
ناحية اخرى . سيبقى العدو هو الهدف مهما تبدلت الوقائع ولو اقتضى ذلك
القفز عليها او تأويلها على نحو يعيد العدو الى مثاله ويعيد المعركة الى
نصابها الاول . العدو هو العدو وهو ركن ثابت لا يجري عليه تعديل ولا تبديل.
والعدو جوهري وليس ابن ظرف او مناسبة. هذا ما لم يفهمه الذين فوجئوا
في موقع العدو، وما « فتح الاسلام » بالخطاب الذي يجعل 14 آذار اكثر من
لم يفهمه الذين يعجبون من الإصرار، رغم كل شيء، على رد المجابهة الى
طرحها الاول، اسرائيل واميركا يحلان في 14 آذار لا في الارهاب الاصولي،
والحرب إذن تظل هنا لا هناك.
لا بد بالطبع ان نشير الى حيل بعض 14 آذار الصغيرة التي تتم بلا دهاء ولا
تلبث ان تفتضح في وضح النهار . ان وهم استعمال شراذم تكفيرية في
مواجهة المد الآخر او ايجاد قوات خاصة ينخران، بمجانية وبدون اي فعالية،
مبدأ الدولة بالدرجة ذاتها، ويمنحان للطرف الآخر حجة رخيصة، بمقدار ما
يتحولان في اللحظة المناسبة الى فضيحة والى مجلبة لليأس والى باب
لعدمية سياسية يغرق الكثيرون فيها . أليس في التورط، لأي سبب كان، مع
طرف سلفي ما يبدو، في لحظة واحدة، ارتدادا على كل مشروع الدولة والقوة
الواحدة والسلم الأهلي، في لحظة واحدة وعابرة وسريعة وبلا دلالة سوى
افتقاد اي ضمانة او وازع.
يمكننا ان نحمل الجميع جريرة وضعنا أمام الخيار الأسوأ . بدلا من خيارات
الدولة والمشاركة والقانون والمستقبل نجد أنفسنا أمام خيار القوة، نحن
الذين لا تغرنا الحروب ولا الأناشيد الوطنية . فما لا يفهمه البعض هو ان
امتحان القوة في نهر البارد هو اعلان عن ولادة قوة لبنانية، وهو في ذات
الوقت اشعار لنا بأننا نعيش بلا سياج تقريبا . وان من يقول انه يتعفف عن
استلام السلطة لا يكذب . فإذا كان الخطر هو الفائض العراقي اليوم بدا لنا ان
خطر استثمار الضعف اللبناني ماثل اليوم مثله لدى انتقال المقاومة
الفلسطينية من الاردن الى لبنان، بسبب سهولة ذلك كما يقرر شفيق الحوت
في مذكراته . ليس هناك من دعوة بوليسية في ذلك ولا شغف بالقوة. لكن
هناك الآن من يدق على باب اباحة التسلح والتنظيم المسلح غير اسرائيل . لا
تحتاج القاعدة والسلفية الارهابية عموما الى اكثر من ان تجد مسربا. وهي لا
تحتاج الى من يستفزها اذ ان فعاليتها في ان تصلي المجتمع كله حربا
فظيعة. لذا لا خيار الا ان يربح الجيش معركته فإذا خسرها انكشف المجتمع
للجيش سواه فإذا كان « فتح الاسلام » كله وانكشف البلد . انه خيار لم تترك
صبر على فتح الاسلام بعد تفجيرات عين علق، فانه لن يستطيع ان يصبر
اكثر على ذبح جنوده في مهاجعه، واذا كنا لا نزال نمجد العزة والكرامة فكم
بالاحرى نريدهما لجيشنا ايضا.
اختار الجيش تبعا لحكمة قديمة ان يفعل سلبا وان يكون حكما بين الفريقين
المتخاصمين . لم يُطلب من الجيش ان يكون غير ذلك، لكن كان واضحا ان
موقفا كهذا ليس موقف القوة، فالأرجح انه يناله من المتخاصمين ما ينال
المحامي عادة كما يقول مثل شعبي ويخرج من كل مناسبة كهذه بهيبة أقل.
اضطر الجيش الى معركة لا مناص منها في نهر البارد، ودفع ثمنا لذلك،
وأنجد لضعف تجهيزه وكان على من احتجوا ان ينجدوه هم. ومن الواضح ان
دعوة السلم في ظرف كهذا ليس لها محل وان الجمع بين محاكمة القتلة
والسلم معادلة صعبة بل مستحيلة . لقد بدا ان ما يُفتقد هو قوة خاصة للدولة
وان الدولة في بلد يعج بالسلاح ليست قوة معنوية فحسب ولا تكون كذلك اذا
كانت بلا سلاح. الأرجح ان نتيجة ذلك، مهما حسنت النوايا، هو استضعافها
ولعل عجز الحكومة يترجم في جانب منه ذلك الاستضعاف. قد تفسر دعوة
السلم لذلك بأنها اصرار على ان يبقى الجيش في موقع الحكم وان لا توكل
اليه اي مهمة خاصة، وان يبقى محايدا متوسطا بين الفريقين، اي ان يكون
هو ايضا سلطة معنوية ولا تكون له قوة. فمن العجب ان يحتج على امداد
الجيش في عز المعركة من لا يخفي ان السلاح يتدفق عليه وانه ازداد تجهيزا
وتسلحا. هل في ذلك، عن وعي او غير وعي، رفض لقيام اي قوة في الداخل،
واذا كان تحول الحكومة بالدعم الدولي والعربي واليونيفيل الى قوة مستقلة
نسبيا ووجه بسرعة بعملية تفكيك عنيفة . فهل نجد في خطاب السلم ضمنيا
دعوة اخرى لعدم قيام قوة داخلية. مهما كانت أسباب المعارضين للمعالجة
الحربية فإنهم لا يقدمون حلا، الا ان يكون الحل هو ان تسرح فتح الاسلام
في المخيم وتنجو بجريمتها. لكن ما يجمع هؤلاء المعارضين هو شك خفي
بأي قوة لبنانية، سواء أكانت الدولة ام الجيش وايثار على ان لا تقوم في
الداخل اي قوة، مع رضا عن التجزئة الأمنية والعسكرية . هل هذا راسب
لرفض عروبي للبنان واعتباره متدرجا في العروبة قاصرا ولا بد له من رعاية،
ام هو راسب لرفض اسلامي للبنان واعتباره قوة مسيحية وغربية. هل هو
يرى في تشكل اي داخل لبنان اتجاها الى استقلال « موضوعي » حساب
وسعيا الى حصانة لا يناسبان طوباويات عروبية واسلامية وانتي امبريالية.
ففي البلد الأضعف والأقل حصانة ترعى الطوباويات.
مهما كانت اسباب المعارضين فمن الواضح ان التصدي المفاجئ لبداهة
معركة البارد تطويق مسبق لاحتمال ان تغدو وجهة. انها انذار واضح لمن
يفكر في ان يبني على هذه المعركة . من الواضح ان معركة البارد هي معركة
الدولة التي لا يمكن في ظرف كهذا نفي وجودها، كما ان الجيش الذي تجنب
الخوض في الصراع الداخلي لا يمكنه الذهاب الى الحرب بدون مرجع . سواء
انضمت الحكومة الى الجيش ام انضم الجيش الى الحكومة فإن الجيش
الفاقدة » ورفيق السلاح قد خطا خطوة الى جانب الحكومة « المحبوب »
وهذا ما يجعل فقدانها للشرعية اقل. قد يبدو هذا للبعض تعويما، .« للشرعية
او قد يبدو بالاضافة الى المحكمة الدولية مكسبا، عندئذ سيكون الهدف الاول
احباط ذلك ما دام العدو هو العدو، وما دام الانجاد الاميركي دليلاً آخر. من
دون ان يمنع ذلك التنديد بضعف هذا الانجاز في مقام آخر.
مع ذلك يجوز لنا ان نتساءل عن مقدار دهاء المعارضة في هذا التدبير،
لطالما امتدحنا الأفق الاستراتيجي للمعارضة مقابل المياومة السياسية لدى
14 آذار . اليس في موقف المعارضة من معركة البارد جرأة على بداهة لا
تزال ممكنة : الجيش المحبوب وتهديد الفائض العراقي والسلفية الارهابية . الا
يبدو ان المعارضة لم تعط لكل ذلك وزنه الكافي . كيف يمكن بلحظة ان يغدو
الجيش الحكيم المقاوم متورطا ومورطا. ما يعني، انه بوعي او بلا وعي، انجر
الى سياسة المتآمرين. كيف يمكن ان لا يكون الارهاب السلفي عدوا اول وان
لا يبدو تهديد الفائض العراقي هو الأولوية. فيما ان ذلك على الأقل، منعطف
من العنف يجعل كل التطمينات المتعلقة بالسلم الأهلي في غير محلها . فتح
عرضيا في الصراع، « حادثا » الاسلام كما يبدو لكل ذي عينين ليست الا
لكنها بما استوجبته من عنف ورد عنيف قد تكون اول سلسلة تفجير داخلي لا
نأمن من ان ينتهي باستقطاب عام. والسؤال، بعيدا عن مسؤولية النظام
السوري، هو اذا لم يكن في التعدي على الجيش كما حصل في البارد اعتداء
على الوطن، بأبسط المقاييس كما فهم العماد عون، واذا كان هذا فهمه أفلا
يستحق ذلك مؤازرة المقاومة وسلاحها. الا ينبغي ان يكون هذا، في منطق
بسيط، سؤالا بديهيا. الا يشي بعدم اتفاق على مفهوم الوطني الذي يحصره
البعض في مواجهة اسرائيل والعدو الداخلي.
اما المبادرة التي اتهمت المعارضة بتجاهلها . المبادرة التي ترتكز على
التسوية التاريخية وزواج الاستقلال والتحرير، فهي فتوى نظرية وتماسكها
الشكلي ليس له في الواقع سوى مقابل معاكس . هذا في الواقع شأن السجال
كله، فالامعان في التصاد والتحاجز الواقعيين يتمان تحت شعارات اتحادية.
الاعتراف بالانقسام الواقعي لا يمكن الهروب الى امامه كما يقال، انه حقيقة
نواتية في الغالب، فالأرجح ان التنازع الذي لا يملك اي طموح لكسب الآخر او
للاشتراك معه في شيء هو القائم حاليا، في حال كهذه ما من زواج ولا
تسوية تاريخية. هناك فقط التعايش السلمي والحؤول دون الانفجار الحربي،
انها تسوية حسابية اذا جاز التعبير، تسوية تشمل ما كان ميشال شيحا
يعتبره فيدرالية سياسية لا جغرافية، وهذه بالطبع ليست ولن تكون نهائية.
انها نوع من ارجحية للاكثرية مقابل فيتو للأقلية يتفق على ان لا يؤدي الى
مأزق دستوري . قد يكون الاتفاق على رئيس مدخلا لذلك، على افتراض، وهو
افتراض غير اكيد، من ان الانقسام مؤذ للاطراف كلها . الانقسام يؤذي اقل
واكثر وهذا ما يجعل الموقف منه متفاوتا، واختباره لمهلة اضافية امرا ممكنا.
اغتيال الشهيد وليد عيدو اعطى للاكثرية حقا مشروعا في التشدد، لكن هذا
مشهدي الى حد بعيد . فهذا الاغتيال ينبغي، مهما كان اثره العاطفي، ان
يؤدي الى حسابات صحيحة . ان ربح معركة البارد هو بالتأكيد الاساس كما
لمح وليد جنبلاط . والمبادرة الى مفاوضات حول الرئيس المقابل هي،
سياسيا، الأوْلى مسألة الانتخابات الفرعية على دلالتها، تبدو كالمحكمة
الدولية، مسألة تحد لرئيس الجمهورية الذي يهدد بحكومة ثانية، وقد يبادر
اليها قبل الانتخابات . لا اعرف ان للانتخابات الفرعية التي طال السكوت عليها
في المتن، للاعتبارات اياها، اولوية مطلقة، في حين ان لا شيء يؤكد ان
المعارضة غير مستعدة لخيار الحكومة الثانية. ولنا ان نفهم ان ما جرى في
غزة يصلح عبرة، لا يعرف أحد ماذا في امكان طرف راديكالي مسلح ان يقدم
عليه. المدخل هو الاتفاق على رئيس وانطلاقا منه يمكن إعادة تركيب
المؤسسات وفتح الطريق الى ممارسة غير خطرة او تعطيلية لأرجحية
الأكثرية وفيتو الأقلية في حكومة اتحاد وطني هي صورة فدراليتنا السياسية
الهشة.