حين هاتفني الصديق عدنان الشخص عصر الأحد الماضي، وأبلغني بنبرة حزينة عن رحيل الفقيد الكبير الشيخ عبدالعزيز التويجري (أبو عبد المحسن) معرباً عن رغبته في أن نترافق معاً أو مع آخرين للقيام بواجب العزاء. تبادلنا العزاء بشعور أن من رحل عنا لم يكن ملكاً لأسرته ومحيطه الصغير، أو حتى للدولة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي جمعته بالراحل رابطة عشرة وصداقة مديدة قبل أن تكون صلة عمل بين قائد دولة ومسؤول في إدارته فقط. لقد كان الشيخ الراحل وسيظل إلى جانب ما ذكرت ملكاً وكنزاً للوطن بكل أرجائه الشاسعة، مناطقه، وباديته وحضره وكل مكوناته الاجتماعية والثقافية والمذهبية.
إثر المكالمة اختليت مع نفسي أسائلها ما الذي افتقدناه في غيابه؟ السؤال الكبير هذا، جعلني أعيش أجواء حوار داخلي تناسلت منه أسئلة عدة، استرجعت أثناءها ما في ذاكرتي من سيرة وشريط حياته المديدة الحافلة بالعطاء. كنت أتساءل: هل افتقدنا فيه الإنسان العصامي الخلاق الذي كوّن وبنى وطور ذاته وشكلها بجهده الشخصي في ظروف وأوضاع اجتماعية ومادية وعلمية ومعرفية وثقافية محدودة وشحيحة في بلادنا، وعلى النحو الذي تمثل في تدرجه في العمل الحكومي والإداري حتى وصل إلى تسنم أعلى المسؤوليات الحساسة والدقيقة في الدولة (النائب المساعد في رئاسة الحرس الوطني)، مارس خلالها واجباته ومسؤولياته بدقة وأمانة وانضباط وحرفية ودراية وحنكة والتي عبر عنها مرؤوسوه في أحاديثهم وذكرياتهم؟ أم انه الإنسان المثقف اللماح ذو الوجدان والمشاعر الجياشة والمسكون بالتأملات الفلسفية بشأن ماهية الإنسان ودوره المحوري في التاريخ والحراك الاجتماعي المعقد، مستلهماً فلسفة التاريخ والبعد الوجودي/ النفسي في كثير من مؤلفاته، سواء في ملحمة البطولة والتوحيد التي سطرها القائد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود، أو في استحضاره المتنبي، وأبو العلاء المعري، أوفي رسائله إلى ولده؟ أثناء استعراضي السريع لسيرته، توصلت إلى أن كل ما ذكرت من صفات وميزات تكفي واحدة منها لنشعر بحجم ما افتقدنا. لكن المنطلق والأساس والنتيجة لكل تلك الخصائص في شخصيته، هو ذاته الإنسانية المتميزة. ما افتقدناه جميعاً في غياب الشيخ عبد العزيز التويجري هو ببساطة ذات ودواخل وسلوك الإنسان النبيل، الذي امتلك القدرة الفائقة على قراءة حركة ومتغيرات الواقع الموضوعي، والتقاط وفهم لحظاته التاريخية المفصلية ومتطلباتها، والتعامل معها بواقعية وحكمة من دون حمولات ثقيلة مربكة، أو ومواقف وتصورات مسبقة. هذا الشيخ التسعيني (95 عاماً) ظل حتى مراحله الأخيرة قادراً على التأثير، والتعامل مع الواقع ومكوناته الاجتماعية التقليدية والحديثة في الآن معاً.
في هذا السياق، أذكر مناسبتين، الأولى تعود إلى العام 1988 حيث تم ترتيب موعد عن طريق الشيخ الراحل ضمّني مع مجموعة (6 أشخاص) من المثقفين من مختلف مناطق المملكة للقاء خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز (حين كان ولياً للعهد) في أمر خاص (منعنا من السفر). بعد السلام على ولي العهد وتناول العشاء على مائدته، عرج بنا إلى المجلس الخاص، حيث استقبلنا الشيخ عبد العزيز التويجري بحرارة وبشاشة، وتبسط معنا في الحديث لمدة ربع ساعة تمهيداً للمقابلة مع ولي العهد، التي ذكر أنها ستكون في حدود نصف ساعة. في تلك الدقائق القصيرة انتابنا (المجموعة) شعور مشترك، أننا لسنا في حضرة مسؤول كبير علينا أن نزن أية كلمة بميزان دقيق وصارم، بل أصدقاء حميمون ونعرف بعضنا منذ دهر من الزمن. ركز في حديثه بأن (ولي العهد) يجيد الإصغاء، ويعشق الصراحة، ويتقبل الاستماع إلى الآراء المختلفة بما فيها التي قد لا يتفق معها، وأن أشد ما يكرهه هو التملق والنفاق والوصولية. وأنه ليس علينا أن نحصر حديثنا في الشأن الخاص، إذا كان لدينا ما نريد قوله وإيصاله. وبالفعل كان اللقاء مع ولي العهد حميمياً وودياً. وقد بادرنا الحديث بتلقائيته وصدقه وشفافيته المعروفة المحببة للنفس، بشأن قضايا وأمور داخلية وإقليمية ودولية، كما أتاح لنا المجال طويلاً لكي نتحدث في موضوعات مختلفة تمس حاضر الوطن ومستقبله. وتلمسنا في حديثه نزعته الصادقة والعميقة للإصلاح والتطوير. وبدلاً من الوقت المحدد له بنصف ساعة استمر اللقاء قرابة الساعة ونصف الساعة. حين خرجنا من بوابة القصر فوجئنا بوجود الشيخ أمام البوابة، وقبل أن يودعنا بحرارة، قلنا له هل يا ترى أثقلنا على ولي العهد بكلامنا؟ كانت إجابته القاطعة كلا، ولو كان الأمر كذلك لما استمر لقاؤه معكم ليتجاوز الوقت المحدد بكثير. وأضاف موجهاً الحديث لي شخصياً، ما قلته جيد – وولي العهد كان مستعداً للاستماع إلى المزيد. تلك المقابلة لا تزال محفورة في ذاكرتي ووجداني، لأنها أزالت غمامة وجلت تصورات وعمقت قناعات أساسية لدي في ما يتعلق بالدولة، الكيان، والوطن، وبشخصية ومناقبية الملك عبدالله بن عبد العزيز.
المناسبة الثانية: في أبريل/ نيسان العام ,2003 كنت ضمن وفد من أهالي الإحساء والقطيف قدمنا للرياض لمقابلة خادم الحرمين الشريفين (حين كان وليا للعهد) الملك عبدالله بن عبد العزيز لأمر يخص مطالب الشيعة. في مساء يوم وصولنا وقبل المقابلة في اليوم التالي، استضافنا الشيخ للعشاء في منزله بحضور نجله الأكبر عبد المحسن التويجري المستشار الخاص لولي العهد آنذاك. وجرى أثناءها حوار ومناقشات ودية وصريحة، أكد خلالها الشيخ أن الوطن ملك لجميع أبنائه، وأن الدولة تتعامل مع الجميع من دون تفرقة أو تمييز. في اليوم التالي وأثناء اللقاء الخاص مع ولي العهد، تصادف وجودي بجوار الشيخ الراحل تحادثنا بصورة ودية، تحدثت معه أثناءها وسلمته ورقة تضمنت شعوري بالإحباط إزاء إلغاء مشاركتي شخصياً في اللحظة الأخيرة (على رغم تسلمي التذكرة) لحضور جلسة خاصة مغلقة لمجلس الشورى، دعي إليها عدد محدود من المثقفين والكتاب السعوديين، للاستماع والحوار بشأن أحد الموضوعات الحساسة. سألني باهتمام: هل الجلسة عقدت بالفعل واستثنيت منها شخصياً؟ أجبته: نعم، بحسب ما سمعت. بعد أن دوّن بعض الكلمات كان تعقيبه بكلمات قليلة، لكنها دالة وعميقة مفادها التالي: سأرفع الموضوع لولي العهد، لكن عليك أن تعرف أن الدولة لا تفرق بين مواطنيها على أساس المنطقة، والقبيلة، والمذهب. ونحن نعرف وموقنون أن غالبية الشيعة ولاؤهم لدولتهم ووطنهم، وأنه لا خطر منهم إطلاقاً، وإن وجدت قلة منهم غير ذلك، فإن الدولة تعرف كيف تتعامل معهم كما تتعامل مع أية حالات مشابهة في مناطق أخرى. وأضاف ببصيرته العميقة أن الخطر قد ينبع من أي مكان وجهة (جاءت تفجيرات مايو/ أيار في الرياض بعدها بشهر لتؤكد عمق تشخيصه وحدسه). كان حديثه برداً وسلاماً وكالماء الزلال بالنسبة إليّ، واعتبرت الأمر منتهياً في حينه. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، إذ بعد عودتي من الرياض بأسبوعين، هاتفني رئيس مجلس الشورى الشيخ صالح بن حميد. وأثناء حديثه الودي نفى استثنائي من حضور الاجتماع الخاص، موضحاً أن الاجتماع قد أجل في الواقع لأسباب معينة لم يذكرها، ولم أكن بحاجة لمعرفتها.
لقد تكررت لقاءاتي مع الراحل الكبير ولكن في إطار رسمي (بروتوكولي) على هامش مهرجان الجنادرية الذي يحمل بصماته الواضحة والمتميزة. حين افتقدنا وجوده في حفل افتتاح الجنادرية الأخير، وأثناء حفل الغذاء التقليدي الذي يحرص على إقامته لضيوف المهرجان من الكتاب والمثقفين والمبدعين العرب والسعوديين، الذين يحتفظ بعلاقات شخصية وودية مع جلهم، حيث ناب عنه نجله الأكبر عبد المحسن التويجري المستشار الخاص للملك عبدالله بن عبد العزيز، كان الشعور العام بأن وضعه الصحي أصبح حرجاً. وقد تأكد لي ذلك حين التقيت مصادفة قبل ثلاثة أسابيع نجله الأكبر عبد المحسن التويجري أمام البوابة الداخلية للقسم الخاص في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض (أثناء زيارتي مع بعض الأصدقاء لصديق ورفيق عزيز هو عبدالرحمن النعيمي رئيس جمعية العمل في البحرين الذي تكفلت حكومة المملكة العربية السعودية مشكورة بنقله في طائرة إخلاء طبي خاصة من المغرب وعلاجه على نفقتها). واستغربت بالطبع عدم وجوده في معية خادم الحرمين الشريفين، وبعد تبادلنا التحية سألته عن صحة الوالد، حينها أجابني إجابة مطمئنة عامة، شعرت عندها بأن وضعه الصحي في غاية الخطورة. وقد كان بودي استئذانه لزياراته غير أني ترددت خشية أن تكون الزيارة مقصورة على العائلة.
لقد تميز الفقيد الكبير بشخصيته المتوقدة المحببة للنفس، وشفافيته وانفتاحه على جميع المكونات الاجتماعية والمناطقية والمذهبية والفكرية، وقد أسهم بقسط ليس بقليل في تجسير التواصل والتفاعل بين الدولة وشرائح واسعة من المجتمع ونخبها الثقافية. وما سمعته ومن معي من كلمات طيبة وودية من نجله الأكبر مستشار خادم الحرمين الشريفين عبد المحسن التويجري، ونجله خالد التويجري رئيس الديوان الملكي، وإخوانهم أثناء تقديمنا واجب العزاء، جعلنا نشعر بأنهم فروع طيبة وامتداد خير للشجرة الراسخة السامقة. رحم الله فقيد الوطن والعروبة ونعزي أنفسنا كما عزاؤنا الخالص لأنجاله وأسرته الكريمة ولرفيق عمره خادم الحرمين الشريفين حفظه الله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
na.khonaizi@hotmail.com
صحيفة الوقت البحرينية
رابط المقال : http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=3797