المراجعة الشاملة التي أقدم عليها الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد اثر التحركات الشعبية الواسعة في أكتوبر/ تشرين الأول 1988 ابرز عناوينها الانفتاح السياسي، وإنهاء احتكار حزب جبهة التحرير الجزائرية والمؤسسة العسكرية للسلطة، من خلال السماح بتشكيل الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني المستقلة، وبروز الصحافة الحرة، ورفع شعار الخصخصة وإعادة الهيكلة عن طريق تصفية القطاع العام، وبيعه للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، وفقا لنصائح صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإعمار، والمؤسسات المالية الأجنبية التي كانت تتطلع إلى استعادة ديونها المتراكمة. غير أن تلك الخطوات المتسارعة نجم عنها اختلالات خطيرة، وبدلا من أن يكون الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي دعامتين للخروج من الأزمة الهيكلية المركبة، فإن النتائج أدت إلى مفاقمة الأزمة وإيصالها إلى حد الحرب الأهلية، والتهديد بتدمير ما تبقى من المقومات الاقتصادية، والاجتماعية، والإنسانية، والحضارية، في حرب الجميع ضد الجميع، والمأكلة الكبرى وفقا ”لهوبز”.
الأحداث المأساوية، والأعمال البشعة من مجازر وتدمير وإرهاب دموي مكشوف لم تستثن أحدا في جزائر المليون شهيد، حيث استهدف الإرهاب العسكريين والمدنيين ومعظمهم من القرويين والفقراء والكادحين، كما استهدف مكونات النخبة التي تضم السياسيين والأكاديميين والكتاب والإعلاميين ومحترفي الفكر والإبداع والفن، واضطر مئات الآلاف إلى مغادرة مناطقهم ومساكنهم، أو الهجرة إلى خارج البلاد. تلك الأحداث يتحمل مسؤوليتها بدرجات متفاوتة كما توضح المعطيات الأطراف (السلطة والمعارضة الإسلامية) كافة.
هناك من يحمل السلطة والجيش آنذاك مسؤولية ما جرى عندما ألغيت نتائج انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 1991 التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حيث سعت بعض القوى ”الليبرالية” و”العلمانية” الاستئصالية داخل الحكم وخارجه، وكذالك بعض الأطراف الخارجية، لقطع الطريق أمام تطور العملية السياسية، التي قد تضر بمصالحها وامتيازاتها، أو لدوافع سياسية وأيدلوجية، وبالتالي فإنه كان يتعين احتواء الإسلاميين عبر إدماجهم في المسار الديمقراطي، والقبول بنتائج الانتخابات ضمن سقف المؤسسات الدستورية من دون أي تدخل من السلطة والجيش، وإعطائهم الفرصة ليطبقوا برنامجهم، وهو برنامج يستند في الواقع إلى شعار عام وفضفاض، مما سيجعلهم بالضرورة يصطدمون بالواقع الشديد التعقيد، الذي يحتاج إلى سياسات وبرامج ومواقف عملية وواقعية، تأخذ بعين الاعتبار الظروف والشروط الداخلية الملموسة والأبعاد الإقليمية والدولية المؤثرة. غير أن هناك من يرد على هذا الرأي والتوجه، بوجهة نظر أخرى معاكسة. ترى انه بعد حكم شمولي استمر ربع قرن، ونظرا للفراغ السياسي، والتكلس والجمود الاجتماعي والاقتصادي، ومظاهر التغريب والتبعية، وفقدان الشعور بالهوية الوطنية والثقافية، وفي ظل عدم التدرج عبر فترة انتقالية مناسبة، تتيح لكافة التيارات والقوى إعادة تشكيل أوعيتها وأطرها التنظيمية والسياسية والفكرية والتعبوية والإعلامية، هو ما خدم (في الحالة الجزائرية وحالات عربية وإسلامية مشابهة) فعليا نمو وترسخ الأصولية، وتقدم تيار الإسلام السياسي لتصدر واجهة العمل الشعبي والسياسي، نظرا لتواجده الممتد والقديم بين تشكيلات ومواقع ومكونات المجتمع الأهلي ”التقليدي”، مثل التكايا والزوايا، والطرق الصوفية، والمعاهد الدينية، وسيطرته على المساجد، المنابر، المواقع الدعوية، العمل الخيري والاجتماعي وخصوصا في الأرياف، والجبال، والبوادي، وبين ضواحي وأحزمة الفقر في المدن الكبرى، بل وامتد نفوذه إلى أوساط الطبقة الوسطى في المدن التي تضم شرائح واسعة من المتعلمين، وصغار ومتوسطي التجار ورجال الأعمال، الذين همشوا وتضررت مصالحهم بفعل سياسات النظام السابق.
والجدير بالذكر أن التيار الأصولي حظي لمدة طويلة بدعم مباشر وغير مباشر من قبل السلطات (على غرار كثير من البلدان العربية والإسلامية) الجزائرية، إذ اعتبرته أداة تستفيد من قوته وحضوره في دعم سياساتها، ومواجهة ومحاصرة خصومها ومنافسيها الفعلين أو المحتملين (عبر القشرة الإسلامية) وخصوصا الليبراليين واليساريين، الذين ظلوا لسنوات طويلة مهمشين، وعرضه للملاحقة، وممنوعين من ممارسة النشاط السياسي المستقل، وهو ما مكن التيار الإسلامي بمختلف تلويناته وأطيافه (الذي كان يمتلك حرية الحركة نسبيا وخبرة تعبوية قديمة ومصادر تمويل واسعة) وساعده على تشكيل بنية وماكينة تنظيمية وسياسية وإعلامية فعالة في فترة وجيزة تمثلت في ”جبهة الإنقاذ الإسلامية”، واستطاعت خلالها بلورة مطالب التغير والإصلاح عبر رفع شعار بسيط ومغر ”الإسلام هو الحل” ردا على المشكلات والأزمات التي عانتها الجزائر طويلا. غير أن تيار الإسلام السياسي من وجهة نظر القوى الليبرالية والعلمانية، لم يكن في جوهره مكترثا أو محترما لقوانين اللعبة السياسية، ومبادئ الديمقراطية، والتعددية الفكرية والسياسية والثقافية، ويستندون في ذلك إلى مواقف وتصريحات العديد من قادته، حول احتقار ورفض المبادئ التي يعتبرونها ‘تغريبية” مثل الدستور، والقوانين، والانتخابات، ومفهوم تداول السلطة، وحقوق المرأة، من خلال تأكيدهم على مبدأ ”الحاكمية لله” وليس للبشر. وفي الواقع سارعت جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى تكفير الدولة والسلطة والمجتمع ”الجاهلي” وإباحة دم كل من يخالفهم، خصوصا بعد إلغاء نتائج الانتخابات وحظر نشاط جبهة الإنقاذ وإيداع قادتها السجن، اثر اندلاع أعمال العنف المسلح في يناير/ كانون الثاني ,1992 وما أعقبها من بروز العديد من الجماعات والميليشيات وفرق الموت (الأصولية والحكومية المسلحة) وتزايد أعمال العنف والتطرف والإرهاب واشتداد وتيرة الدم المراق التي طالت الجميع. الأمر الذي دفع الرئيس الجزائري آنذاك الشاذلي بن جديد إلى تقديم استقالته، وخلفه الرئيس محمد بوضياف الذي اغتيل لاحقا في ظروف غامضة. وتسلم الرئاسة بعده وبدعم من الجيش الرئيس السابق بن زروال.
غير أن مسلسل القتل والعنف المتبادل، استمر طيلة سبع سنوات عجاف ذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، والجرحى، والمعاقين، والمهجرين، واتسعت الدائرة الجهنمية لتشمل اندلاع تصفيات دموية متبادلة بين المجموعات الإسلامية المتنافسة، وفي داخلها. وكان ذالك تعبيرا عن المأزق والطريق المسدود الذي وصلت إليه جماعات الإسلام السياسي المتشدد، خصوصا بعد فشل جهودها في إسقاط النظام أو إلحاق الهزيمة بقوات الجيش والأمن الجزائري. ضمن تلك الظروف، جاء إعلان جيش الإنقاذ الذي يعتبر الذراع العسكري لجبهة الإنقاذ الإسلامية، بإلقاء السلاح، ونبذ العنف، والتجاوب مع شعار المصالحة الوطنية، وقرار العفو العام الذي استثنى منه قتلة المدنين، الذي وعد به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عشية انتخابات ابريل/ نيسان 1999 التي فاز فيها بنسبة 70 % من الأصوات، وما تبعه من فتح باب المشاركة والحوار مع مكونات المجتمع السياسية والفكرية الجزائرية المختلفة، بما في ذالك الجماعات الإسلامية المعتدلة، على قاعدة احترام الاختلاف، والالتزام بقبول الآخر، وعزل فقه التكفير والإرهاب والوصاية والاستئصال. تلك الخطوات المهمة والضرورية استهدفت إخراج الجزائر من النفق المظلم والعزلة، وتكريس المصالحة الوطنية الشاملة، والذي تبلور في القانون المقدم إلى مجلسي الأمة والشعب والمسمى قانون ”استرجاع الوئام الوطني” الذي تم طرحه للاستفتاء العام، ونال موافقة غالبية ساحقة من المصوتين. وبفضل تلك الجهود المضنية التي بذلتها الدولة تحت قيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والواقعية السياسية الجديدة للجماعات الإسلامية، والإقرار بفشل الخيار العسكري من قبل الأطراف المتصارعة، تمكنت الجزائر من التقاط أنفاسها، و استعادة الاستقرار، وتدعيم السلم الأهلي، الذي تعكره بين الحين والآخر بعض أعمال العنف والإرهاب الذي نأمل أن تكون محدودة، على شاكلة ما حدث حديثا.
استطاعت الدولة الجزائرية بفضل الزيادة الضخمة في مواردها المالية اثر ارتفاع أسعار النفط والغاز إلى مستويات قياسية، من تسديد معظم ديونها التي انخفضت إلى 7,4 مليار دولار فقط من أصل دين بلغ 33 مليار دولار، كما وصل حجم احتياطي الدولة من العملات الصعبة إلى أكثر من 60 مليار دولار، وهو ما انعكس في تحسين فرص العمل، وتقليص نسبة البطالة، وارتفاع مستوى الدخل لقطاعات متزايدة من الجزائريين، لكن مازال هناك كثير من المتطلبات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وغيرها من الاستحقاقات الداخلية، لتجاوز تبعات وذيول الماضي المؤلم، والانطلاق نحو المستقبل. ما يستدعي بذل الكثير من العمل والجهود المشتركة من قبل جميع الجزائريين من دون استثناء.
na.khonaizi@hotmail.com
* كاتب سعودي — صحيفة الوقت البحرينية
هل كان الصدام حتمياً في الجزائر؟
تحصيل حاصل