تشهد المجتمعات العربية والإسلامية منذ مطلع الثمانينات وحتى الآن، تنامي ظاهرتين متلازمتين إلى حد كبير، هما الصعود القوي لما بات يعرف بالأصولية أو الاسلام السياسي (السني والشيعي) من جهة، وازدياد وتفشي مظاهر العنف والارهاب الذي وصل إلى مرحلة الحرب الأهلية، أو الحرب المفتوحة بين الجماعات الأصولية المسلحة، والأنظمة الحاكمة في العديد من البلدان العربية والإسلامية من جهة أخرى. استطاع الإسلام السياسي الوصول إلى السلطة في بعض البلدان إما عن طريق الثورة الشعبية (1979م) كما في إيران (حيث استأثر التيار الديني الشيعي بالسلطة بعد تصفية المكونات السياسية الليبرالية واليسارية الأخرى) أو من خلال المقاومة المسلحة ضد الجيش السوفيتي والنظام اليساري الأفغاني السابق التي قادتها الفصائل الإسلامية في أفغانستان (1991م) بدعم من قبل الولايات المتحدة وباكستان وبعض الدول العربية، كما شهدنا بروز وتنامي حركات مقاومة إسلامية موجهة ضد الاحتلال الأجنبي، مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وبعض فصائل المقاومة العراقية والأفغانية، الموجهة ضد قوات الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان، وهناك نموذج الانقلاب العسكري كما جرى في السودان (1988م) بواسطة الجبهة الإسلامية ضد الحكومة السودانية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وفي بلدان أخرى سعى الإسلام السياسي إلى إسقاط النظام الحاكم عن طريق العنف المسلح، والتفجيرات التي تطال مجمعات واهداف اقتصادية وافواج سياحية، واغتيالات للشخصيات السياسية والدينية (الرسمية) والثقافية مثل ما حصل في مصر منذ الفترة الأخيرة من حكم أنور السادات الذي اغتيل (اكتوبر1981م) على أيدي جماعة أصولية تنتمي إلى حركة الجهاد الإسلامي المصرية، وفي سوريا اندلعت مواجهات عنيفة، بين الجناح العسكري لحركة الأخوان المسلمين والأجهزة الأمنية السورية أبرزها أحداث حماة وحلب الدامية وذلك بين العامين 1980 و1981 في فترة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد. إلى جانب الاتهامات التي وجهت إلى الاسلامين في ضلوعهم بمخططات عنف، واستهداف إسقاط النظامين في العراق (إبان الحكم السابق) وتونس، كما نشير إلى المواجهة المسلحة في الحرم المكي (1400هـ) بين اجهزة الامن السعودية ومجموعة متطرفة يقودها جهيمان، ناهيك عما قامت وتقوم به منظمة القاعدة، وشركاؤها، من المنظمات الإرهابية، من قتل وحشي، واختطاف للمدنيين، وتدمير للمرافق المدنية العامة والخاصة كما حصل في بعض الدول الافريقية والآسيوية ودول اوربية مثل فرنسا وبريطانيا واسبانيا وكما يجري في العراق والمغرب والجزائر واليمن والسعودية وغيرها من البلدان في العالمين العربي والإسلامي، وعلى مستوى العالم. وضمن هذه الحالة نشير الى الدور المتنامي حتى وقت قريب لمليشيات المحاكم الإسلامية في الصومال التي تطحنها الحرب الأهلية منذ سنوات. غير أن هناك حالات استطاع خلالها قوى من الإسلام السياسي من الوصول إلى السلطة عن طرق صناديق الاقتراع، كما حصل مع الحركة الإسلامية التي تزعمها تورغوت أوزال أول رئيس وزراء إسلامي في تركيا (العلمانية) الحديثة التي أسسها كمال أتاتورك وامتداداتها التي تحكم تركيا في الوقت الحاضر، وما كاد يحصل في الجزائر اثر الانتخابات البلدية ثم التشريعية (1991) لولا تدخل مؤسسة الجيش القوية لإيقاف المسار الانتخابي، كما لا نستطيع إغفال واقع تصدر الاسلاميين، وبروزهم كقوة انتخابية كبيرة في معظم الدورات الانتخابية التي شهدتها البلدان العربية والإسلامية حديثاً، مثل العراق والأراضي الفلسطينية المحتلة التي تحكمهما تنظيمات إسلامية (شيعية أو سنية) أو على صعيد انتخابات المجالس البلدية والتشريعية، كما هو الحال في البلدان العربية مثل مصر، الأردن، المغرب، اليمن، الكويت، البحرين والسعودية، وكذلك الدول الإسلامية مثل إيران، باكستان، اندونيسيا. واللافت انه في معظم تلك الحالات كان الخاسر الأكبر فيها النظم والنخب ‘’الحديثة’’ الحاكمة، التي تشكلت عقب معارك التحرير، والاستقلال الوطني، أو نتيجة انقلابات عسكرية، غير أنها فشلت في تحقيق الخيارات، والأهداف التي رفعتها، مثل الاستقلال الوطني، المشاركة الشعبية، التنمية، التحديث بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجرى استحواذ واحتكار تلك النخب، لمقومات القوة، السلطة، الثروة تحت واجهات حزبية وعسكرية وعشائرية وعائلية وطائفية، صادرت الدولة، والسلطة، والمجتمع المدني.
نستعرض هنا الحالة الجزائرية كنموذج ومثال لظاهرة صعود الإسلام السياسي، وأزمته في الوقت نفسه، حيث تتقاطع (تلتقي وتتمايز) مع حالات مشابهة في الوضع العربي العام. المصالحة الوطنية، هي الشعار المركزي الذي رفعه الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة عشية انتخابه في ابريل/ نيسان ,1999 وترافق معه خطوات وإجراءات سياسية وعملية، خصوصا بعد القرار الذي اتخذه مدني مرزاق قائد جيش الإنقاذ، وهو الذراع العسكري لجبهة الإنقاذ الجزائرية بإلقاء السلاح، وإعلانه استعداده لوضع قواته بتصرف الجيش والأمن الجزائري في ملاحقة الجماعات الإسلامية المسلحة المناوئة للسلطة، كما أن الرسالة التي وجهها الشيخ عباس مدني زعيم الجبهة الإسلامية للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من مقر إقامته الجبرية – آنذاك -، والبيان الذي أصدره أربعة من قادة الجبهة الإسلامية وفي مقدمتهم الشيخ عبدالقادر حشاني لتوضيح موقفهم من مبادرة مرزاق، ومن رسالة مدني تصب في اتجاه الإقرار بفشل سياسة إسقاط واحتواء السلطة عن طريق القوة والعنف، وبالتالي فإن الخيار الوحيد المتاح المطروح، هو القبول بمبدأ المصالحة الوطنية، والتحول باتجاه العمل السياسي وفقا للدستور، وفي ضوء ذلك أعلن الرئيس الجزائري بوتفليقة العفو العام الذي شمل قيادة الجبهة الإسلامية وآلاف المعتقلين الإسلاميين، باستثناء المتورطين في اعمال قتل المدنيين وزرع المتفجرات في الأماكن العامة، وهو ما ساهم في انفراج الأزمة المستفحلة في الجزائر، والتي وصلت إلى مرحلة الحرب الأهلية والتصفيات والعنف المتبادل بين السلطة والمجموعات الإسلامية المسلحة، أو فيما بين الجماعات الإسلامية نفسها، والتي استمرت ما يزيد على سبع سنوات، وذهب ضحيتها ما يزيد على مئتي ألف قتيل، وأدى الى هجرة عشرات الآلاف من الكفاءات الجزائرية الى الخارج، وأصاب الاقتصاد والمجتمع بالشلل والتفكك.. وللحديث صلة.
na.khonaizi@hotmail.com
صحيفة الوقت البحرينية