فوجىء الكثيرون، ممن لم يكونوا مُطلعين على كواليس ما كان يجري داخل حزب الاتحاد الوطني
للقوات الشعبية، أن يقبل اليوسفي ربيع سنة 1998 بتشكيل حكومة التناوب ليس ذلك فحسب، بل ويقسم، وهو اليساري العَلماني، ويده فوق المصحف، بطلب من الملك الداهية العجوز الحسن الثاني، على أن يُساعد في انتقال سلس للعرش من هذا الأخير لابنه، وكذلك كان حيث مر كل شيء كما رسمه الملك الراحل، ليس وهو على قيد الحياة فقط، بل وبعد مماته كذلك، ليتأكد أن الرجل – أي الحسن الثاني – فعل فعلته بالمعارضة السياسية حيا وميتا.
وفي الحقيقة فإنه بموازاة مع توغل الحسن الثاني في التجربة السياسية والسن، كان يُكيل لمُعارضيه، ومن خلالهم للمغاربة جميعا، ضربات موجعة، والكثير منها كان للأسف، تحت الحزام ( في الواقع كان هذا النوع من الضربات مُتبادلا كما سنرى فيما سيلي ) .
لم ينس الحسن الثاني أبدا، أن أقطاب المعارضة الاتحادية، ومعهم بعض نُظرائهم بالحزب اليميني العتيق “الاستقلال”، كانوا على علم ( بله وتواطؤ ) بحدث الإعداد للانقلاب العسكري الثاني، الذي كاد يودي بحياته وبالنظام الملكي، يوم سادس عشر غشت ( آب ) من سنة 1972 – أي سنة واحدة تقريبا عقب الانقلاب الأول الفاشل بدوره – لذا فقد ترك الملك أمر هذه ” الخيانة ” سرا بينه وبين معارضيه، بيد أنه قايضهم سلامتهم، وفي ذلك مُنتهى الدهاء، بخضوعهم لمشيئته، وكذلك كان، حيث سيقطع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كل صلة إيديولوجية وتنظيمية له ” بالخيار الثوري ” كما أبدعه قادته التاريخيون، نظير المهدي بنبركة وعمر بنجلون ومحمد البصري ( الملقب ب الفقيه )..ليُدشن مرحلة تالية، أُطلق عليها اسم المسلسل الديمقراطي، مع مؤتمر سنة 1975.
عرف الحسن الثاني منذئذ، أنه اقتلع شوكة كبيرة دامية من قدمه، لذا تفرغ لأشياء أخرى ، من بينها ” صنع ” مغرب على المقاس الذي يريده، ومما صنعه أنه طبق فكرته التي طالما ملكت عليه جُماع عقله وشعوره، ألا وهي جعل غالبية المغاربة مرتهنينُ له، يفعل بحاضرهم ومستقبلهم ما يشاء، وما شاءه هو هذا الانحطاط الخطير الذي بلغه الزمن والمكان المغربيين، ذلك أن نمط الحكم الذي أراده مطلقا، جعل السلطة مُصرفة بالتقسيط، عصى للترهيب وجزرة للترغيب، وقد نجح في ذلك إلى حد مذهل حقا بحيث يمكن لمن يملك مصيرا ما، ماديا كان أو معنويا، لمغربي أو مجموعة مغاربة، أن يصنع منهم وبهم ما يشاء.. طبعا، إن في مثل هذا التعميم محاذير، غير أن القالب الحياتي للمغاربة يظل في مجمله على هذا الحال، وثمة كثير من الشواهد على ما نقوله، من قمة التسيير السياسي والاقتصادي.. للدولة والمجتمع، حتى أخمصه، ومن القمة – نقصد السلطة – أذكر، مما جمعته في خضم العمل الصحافي، أن ضابطا كبيرا مُحترما، في المسار القصير الحديث للجيش المغربي، ما قبل وبعد الاستعمار، هو الجنرال “عروب” رأى ذات مرة أن خط دفاع الجيش المغربي المُرابط في الصحراء الغربية، خلال فترة نهاية السبعينيات، من القرن الماضي، حين كانت المواجهة العسكرية مع جبهة البوليساريو ما زالت ساخنة.. رأى أن الخط المذكور، يشكو من ضعف، وأنه يحتاج باستعجال، بالنظر لظروف الحرب، إلى تعزيزات وتغييرات استراتيجية، ووصل أمر هذه الاقتراحات للحسن الثاني، فكان أن استدعى جنيراله وقال له في غِلظة :” أنت في منصبك لتنفذ لا لتقترح “. وصرفه صرفا غير لطيف، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن الملك أمر بتجميد مهام الجنرال عروب، ليلزم هذا الأخير عقر بيته، في فترة بيات شتوي وصيفي غير محدودة، ولحسن حظ الجنرال المغضوب عليه، أن النقطة الدفاعية المذكورة، التي اقترح تعزيزها، تعرضت لهجوم كاسح من جيش البوليساريو، مُكبدا وحدات الجيش المغربي خسائر جسيمة في الارواح والعتاد، وكانت تلك اهانة كبيرة لجيش الملك، واكتشف هذا الأخير أن جنراله المغضوب عليه، كان على حق، فكان أن بعث في طلبه، وعندما مَثُل أمامه، أعاده لمهامه كاملة ،ورخص له بتطبيق الإصلاحات التي اقترحها أول مرة .
هكذا كان يتعامل الحسن الثاني مع كبار ضباطه العسكريين، الذين نصحهم غداة العملية الانقلابية العسكرية الأولى، الفاشلة،أن يُراكموا الثروات ويتركوا السياسة .
وحسبما حكاه الضابط العسكري السابق، محمد الطوبجي، الهارب ب ” حقائقه ” إلى فرنسا، والتي ضمنها مؤخرا كتابا صدر في باريس، فإن ” الحسن الثاني ” فعل كل شيء من أجل أن يطأطئ العسكريون المغاربة هاماتهم ” حيث ” لم يكن يتورع، مثلا، في إهانة كبار الضباط أمام مرؤوسيهم، روى ” الطوبجي ” بعضا مما كان شاهد عيان عليه، ومنه مثلا، أن الملك لم يتورع عن إهانة جنرال كبير آخر هو” الصفريوي ” أمامه ( أي أمام الطوبجي، الذي كان مرؤوسا أثيرا لذا الصفريوي برتبة رائد ) وهو ما ظل دائما يحز في نفس الجنرال الكبير، الذي كان قد نال نياشينه في واحد من أكبر الجيوش العالم ( فرنسا ) خلال الحرب العالمية الثانية،حيث روى ” الطوبجي ” في معرض حديثه عن حدث وفاة الصفريوي في لندن بأنه مات بلا شك، غما وكمدا، لمعاينته استمرار الحسن الثاني في حكم المغرب .
لا عجب إذن، أنه بعد الإبادة شبه الكلية، التي اعتمدها الحسن الثاني في حق كبار ضباط جيشه، عقب الانقلابين العسكريين المُتتابعين، أن ساحة هذا الجيش، عرفت صعود ” نجم ” ضباط جدد مُحدثون سُموا ب ” ضباط الصالونات ” أي أولئك العسكريين الذين انتزعوا رُتبهم العسكرية ،ليس بالبلاء الحسن في ميادين الوغى، بل من كثرة تبويس أيدي رُؤسائهم، وعلى رأسهم الملك الحسن، وبطبيعة الحال، فإن هذا النوع من الضباط لا تكون له كبير كفاءة، فما بالك بالتوفر على النخوة العسكرية، التي كانت للذين سبقوهم، أمثال الكولونيل محمد اعبابو والجينرال المذبوح ( الذي كان سبب تخطيطه للانقلاب الأول ضد الحسن الثاني، هو وقوفه على تفاصيل الفساد السياسي والاقتصادي الأخلاقي للنظام الملكي ) والكولونيل الشلواطي الذي بصق في وجه الحسن الثاني، دقيقة قبل إعدامه رميا بالرصاص، وغيرهم من الضباط الشجعان حقا، الذين حاولوا تغيير الأوضاع البئيسة لبلدهم، لكنهم خسروا الرهان، فدفعوا حياتهم ثمنا لذلك، وبطبيعة الحال نحن هنا لسنا بصدد مُناقشة القيمة السياسية، لمعطاة الانقلاب العسكري، أو جدواها، بل للوقوف فحسب، عند خصائص مُكون أساسي في دولة الحسن الثاني ( أي مؤسسة الجيش ) كما ” صنعها ” الملك، الذي كان كل همه هو إخضاع الجميع : ساسة وعسكريين ومثقفين ورجال اقتصاد وصحافيين….. ومن خلالهم كل الشعب لمشيئته، ويجب الاعتراف بأنه نجح في ذلك ، غير أن الثمن كان فادحا جدا، حيث أنه قتل كل المبادرات السياسية والاقتصادية والفكرية.. التي وجدها أمامه، باعتبارها عائقا أمام حكمه الشمولي، يجب مَحقُها قبل فوات الأوان، و بذلك وأد كل ما كان ممكنا
أن كون مصدر ” إزعاج ” في مهده.
يجدر أن نفهم من كل هذا، أن الحسن الثاني لم يكن ليستسيغ أن يرتفع صوت على صوته، في أي مجال كان، لفهم ذلك، يكفي أن نعلم بأنه هو مَن كان يختار عناصر الفريق المغربي لكرة القدم ( حيث لم يكن ليسمح هو المهووس بنمط الحكم الشمولي، أن يعمل غيره على هندسة هذه الوسيلة الرياضية الآخذة بألباب الجماهير ) لذا وكما فكما جاء في الكتاب القيم للصحافي المغربي، المتخصص في الشأن الرياضي، منصف اليازغي بعنوان ” مخزنة كرة القدم المغربية ” فإن الحسن الثاني كان يسهر، ليس فقط على دقائق السياسة والاقتصاد و…. بل أيضا تفاصيل الكرة المغربية، التي صنعها على هواه، تماما مثلما فعل بباقي امور الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاعلامية … للمغاربة كان مثلا، كما سطر ذلك الزميل اليازغي، يختار المدرب ( الذي كان دائما أجنبيا ) إذ لم يكن يكتفي باختيار عناصر المنتخب، كما سبقت الإشارة، بل يختار خطة اللعب، ويأمر المدرب باعتمادها على أرض الملعب، كأن تكون خطة 4 -4 -3 أو 3- 4 -4 إلخ، وعندما كان يصدف أن تنجح لصدفة ما ” الخطة الملكية الكُروية ” فإن الحسن الثاني يزداد ثقة في ” خبراته ” الكروية ويضيفها إلى ” عبقرياته ” الأخرى في السياسة والاقتصاد والفلاحة والفن …إلخ، ولكم أن تتخيلوا عزف جوقة المداحين المُتزلفين تطبيلا وتضخيما ” عبقريات ” الحسن الثاني ، وهي تُشنف أسماعه، ناهيك عن غسيل الدماغ الذي كان يخضع له عامة الناس، عبر إعلام سمعي بصري ومكتوب، ملكي بل حسني – نسبة للحسن الثاني – والذي لم يكن يتورع صحافيوه ومذيعوه عن إطلاق الألقاب الفضفاضة، كثياب المهرجين، على الحسن الثاني من قبيل “الرياضي الأول..” والفنان الأول..” إلخ ، مما جر تلك الواقعة او الحكاية ( لسنا ندري ) الطريفة لبضعة جزارين بسطاء ، التي ذكرناها في السابق ( انظر مقالنا ” هكذا بهذل الحسن الثاني السياسة والسياسيين بالمغرب ” ) أما حينما يحدث أن ينال الفريق الملكي ، عفوا ، المغربي لكرة القدم علقة ساخنة ، أي الهزيمة ، كما حدث خلال المباراة المشهودة ، في أحد أيام سنة 1979 ، حين انهزم أمام الفريق الوطني الجزائري على أرضية ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء بحصة مذلة حقا : 5/1 وهو ما اعتُبر كارثة وطنية، بالرغم من ذلك فإن الحسن الثاني لم يجعل مسألة ” عبقريته ” الكروية موضع تساؤل، بل صب جام غضبه على لاعبيه، حيث أمر بألا يضع أي واحد منهم قدميه بعد ذلك فوق الملعب، وكذلك كان، حيث خاض مُقابلة الذهاب، التي جرت بعد أسبوعين من الهزيمة بالعاصمة الجزائر، بفريق جديد تماما ،قوامه لاعبون شبان، والذين عادوا بهزيمة ” أقل ” : 3/0 .. ولم يكن لأحد من الصحافيين أو السياسيين، وباقي ” الفاعلين” ( هم ليسوا بفاعلين في حقيقة الأمر إلا بمشيئة الملك ) ممن كانوا يعلمون بتدخلات الحسن الثاني، في كل صغيرة وكبيرة، لم يكن لهم لجرؤوا على التفوه بكلمة حق، لإرجاع الملك إلى صوابه، ناهيك عن مُحاسبته، وكان يجب انتظار قُرابة عشر سنوات بعد ذلك، ليس ليؤوب الملك إلى رشده، بل ليسترجع ثقته في ” عبقريته ” الكروية من جديد كيف ؟ لقد حقق منتخبه الكروي الذي شارك في كأس العالم بالمكسيك سنة 1986 ما يشبه المعجزة، بتأهله للدور التصفوي الثاني، بنتائج جيدة حقا : تعادلان صفر لصفر أمام كل من بولونيا وإنجلترا، وانتصار ساحق على البرتغال بحصة لا تقبل الجدل 3/1 ، كان ذلك في حقيقة الأمر” انتصار” للحسن الثاني، الذي استعاد ثقته في كبريائه الكروية – إن صح هذا الربط – المستمدة من “عبقريته” الشمولية، والتي دفعته دائما إلى هندسة كل مناحي الحياة، بدءا بالبشر، الذين دحّاهُم كما الشكل الدائري للكرة .
ثمة صحافيين رياضيين متخصصين مُخضرمين،شأن نجيب السالمي، يعرفون الكثير من هذه التفاصيل المُؤسفة والطريفة في ذات الآن، عن علاقة الحسن الثاني بالرياضة المغربية، وهم بذلك يتحملون مسؤولية تاريخية، في وضع ما يعلمونه من حقائق مُهمة أمام الأجيال القادمة، نعم، ثمة اعتبارات الحذر، بله الخوف من رد الفعل الذي قد يكون عنيفا، فالمغرب ما زال محكوما بملكية تنفيذية مُطلقة، والصمت في مثل هذا الحال المُلتبس، قد يبدو لأصحابه من ذهب، لكنه ذهب مسروق، قوامه حاضر ومستقبل الأجيال القادمة، ونعتقد ان المغاربة سلموا، بما يكفي ويزيد، ماضيهم، لملكية مُطلقة ونخبها الفاسدة الملتصقة بها، كالعلق .
ثمة أيضا تفاصيل أخرى مُلحة، من نفس العيار الذي نحن بصدده، توضح أيضا تلك الشمولية التي اعتمدها الحسن الثاني لحكم مغرب ما بعد الاستقلال، بعضها مما توفر ونُشر في صحف مغربية، بعد وفاة ذلك الملك الأوتوقراطي، لكن في سياقات، إما مُمجدة لشخصه، أو حيادية، وهذا أضعف الإيمان.
مزيد من هذه الكتابات الاستيعادية لهذا العجب العجاب المُُسمى الحياة المغربية في مقالات أخرى.
mustapha-rohane@hotmail.fr
كيف صنع الحسن الثاني مغربا دائريا ككرة القدم؟ (3)
lhasan 2 sana”a maghraban mtadhwiran wa fasidan w ibnoho wotimo 3malaho