تثبت التجربة يوما بعد يوم أن القرارات السياسية هي الأكثر حسما في القضاء على الممانعة الاجتماعية التي تصاحب أية تغييرات جديدة في حياة الناس، فالقرار السياسي قادر على فك عقد هذه الممانعة ودحر مخاوف الناس من إدخال تحديثات جديدة. فقرار تعليم المرأة فرض بقرار سياسي، وقد كانت قضية تعليم المرأة تقابل بالرفض الشديد والتوجس من عدد غير قليل من الناس، ولكن القرار السياسي فرض ذلك القرار، وتعامل بحكمة وحنكة مع الممانعة الاجتماعية إبان ذلك الوقت، ثم ما لبثت مخاوف الناس أن توارت خلف الفوائد الجمة التي حققها تعليم المرأة في المملكة. ولم يلزم ذلك القرار الناس بأن يدخلوا بناتهم قسرا المدارس ولكنه كسر الأبواب الموصدة أمام تعليم المرأة، وتركها مشرعة أمام كل من يريد إلحاق ابنته بركب العلم والتعليم.. فإن شاء ألحقها بالمدرسة وإن شاء أبقاها في المنزل. و ما أن ثبت للرافضين هشاشة مخاوفهم من تعليم المرأة وأنها قائمة على أوهام وتهويمات ليس لها أساس من الصحة في واقع الحياة المعاش، حتى سكُنت أمواج الرفض والممانعة. وراح الرافضون –سابقا- أنفسهم يتسابقون على إلحاق بناتهم بالمدارس، ويجنون فوائد وثمار تعليمها مع أنهم كانوا في البداية له من الممانعين والمتخوفين.
ذات الحيثيات تتطابق مع قضية إنشاء محطات التلفزيون في المملكة، فارتفعت وقتها الأصوات المعارضة وبيارق التوجس من الشرور التي قد يجلبها إدخال التلفزيون إلى البيت السعودي. بل لم يكتف بعض المعارضين بالاحتجاج بل لجأوا إلى العنف والقوة كي يوقفوا إنشاء محطات التلفزيون، وصدرت فتاوى تحرم استخدام التلفزيون من بعض الشيوخ في ذلك الوقت. ولكن القرار السياسي الحاسم قطع دابر المعارضة، وما لبثت الأصوات المعارضة أن هدأت بعد التأكد أن التلفزيون لم يغير حياة الناس للأسوأ ولم يفسد أخلاقهم، بل وفر لهم الفائدة والمتعة والتسلية في حدود الضوابط الدينية، فتسابق الناس على اقتناء أجهزة التلفزيون وتعاطوا مع تلك التقنية الجديدة بمرونة، بل احتفى الكثير منهم بها. ومن نافل القول أن التحديثات على اختلافها إجراءات ووسائل تستخدم لتحسين حياة الناس ولتوفر لهم مواكبة عصرهم، والاستفادة مما جد في جميع الحقول السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية، وأنها في ذات الوقت سلاح ذو حدين.. من الممكن تحقيق الفائدة عبره إذا ما استخدم إيجابيا كما يمكن تحصيل الضرر أيضا عبره لو استخدم بطريقة سلبية، وهنا يأتي دور تثقيف وتوعية الناس ليتم حصد ثمار المنفعة وليبتعدوا عن السلبيات التي قد تنتج عن إساءة استخدام هذه الوسائل.
أؤمن أنه يمكننا تهشيم جسور الرفض في الكثير من القضايا المعلقة بالمرأة خاصة والمتمترسة خلف منعة أسوار الممانعة الاجتماعية، بقرار سياسي شجاع يخلص المجتمع من ربقة العادات والتقاليد البعيدة عن جوهر الدين. فما دام تغيير هذه الأوضاع لا يتعارض مع تعاليم الدين الحنيف، فالقرار السياسي سيضع النقاط على الحروف ويحرر الناس من مخاوفهم. ولا أعتقد أن هناك نصاً دينياً يمنع المرأة من قيادة السيارة على سبيل المثال إذا ما التزمت بضوابط الشريعة، ولكن قوة العادة ومنعة العرف هي التي تقف أمامها. وقس على ذلك الكثير من القضايا الأخرى التي يمانع المجتمع في تغييرها.
يرفض الناس عادة تغيير ما ألفوه وما أعتادوا على رتابته خوفا مما قد يجلبه هذا التغيير معه، فالإنسان بطبعه عبد للعادة..يلوذ بأمان جدرانها، ويلتصق بأرضها التي تمنحه الإحساس بالتجذر والثبات. فيقاوم أية محاولة تخرجه من قضبان عادة، ألف تفاصيلها، وتصادق مع رتابتها، وارتبط بها وارتبطت به.. فخروجه من قيودها، يعرضه للتأرجح والإحساس بفقدان التوازن، واهتزاز المرئيات أمام عينيه. ومهما كان واقعه سيئاً وحافلاً بما يزعجه ويضايقه، يظل معلوماً لديه ومعروفاً عنده، ولا يحتاج منه إلى كبير جهد كي يتكيف معه، ولن يضطره إلى التعرض لخوض غمار المجهول وقد قال الإمام علي كرم الله وجهه:(( الناس أعداء ما جهلوا )). أما التغيير فسيضعه وجهاً لوجه أمام طريق جديد مزروع بكافة الاحتمالات، وتفاصيل لا تستطيع مخيلته أن تعطيه صورة واضحة محددة لها، توفر له الإحساس بالأمان والثقة. ولذلك تجده لا شعورياً يميل إلى مقاومة ريح التغيير، مهما كانت توفر له من فرص جديدة أو تفتح له آفاقاً قد تجلب له الكثير من الخير. كما أن التغيير كلمة لها وجهين، يرتبط أحدهما بالاحتمال الأفضل ويرتبط الآخر بنقيضه الأسوأ، ولذلك يتمسك الإنسان بحال ألفها وتأقلم مع حيثياتها،خوفاً من الشرور التي قد يجلبها التغيير في معيته. فسجن العادة يلتف حول الإنسان بنعومة مبطنة لا تشعره أنها تقوم بتقييده، وأشد السجون قسوةً هو ذاك الذي يشد أسرك بخيوط من حرير لأن الجهل به مركب، وعدم إدراك البشر لوجوده يعطيه القدرة على تلبسهم والتمكن منهم والاستحواذ عليهم. وكل الأنبياء جاءوا لتثوير البشر وإخراجهم من دائرة المألوف و كهوف العادة إلى رحاب الحرية وفضائها الواسع ومن عتمة تقاليد الآباء والأجداد إلى قيم الأديان المثلى. والقرآن الكريم يستنهض همة الإنسان للتغيير ويربطه بتغيير البشر لأنفسهم، وهذا بالتالي يلزمهم بالنظرة الناقدة المشّرحة لها ولسلوكياتها، قال تعالى :(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )).
يخشى البشر التغيير ويتوجسون منه، ولكنهم ما يلبثوا أن يألفوه إذا ما فرض عليهم ووجدوا أنفسهم وجها لوجه أمامه، وإذا ما تيقنوا أنه يجلب لهم المنفعة ولا يعرضهم للخطر. وفي مجتمعنا السعودي الكثير مما يحتاج إلى أن تعصف به رياح التغيير كونه بعيداً عن جوهر الدين الحنيف وقاصياً عن مقاصد الشريعة الكلية، وسيف القرار السياسي الشجاع هو القادر على بتر المخاوف وتهشيم التوجسات والانتقال بمجتمعنا إلى ما يحقق له المنفعة ويحصد من تبنيه الفائدة والرخاء، وأحلم وآمل أن يحمل لنا المستقبل الكثير من هذه القرارات السياسية الشجاعة.
Amal_zahid@hotmail.com
* المدينة
(“الجزيرة” السعودية)