مر حين من الدهر على العالم العربي، كانت فيه جدلية المفاضلة ما بين الملكية و الجمهورية تستأثر بالنقاش إلى أن توارت و لم يعد لها أدنى نصيب من الاهتمام، بعدما ثبت أن الأنظمة الجمهورية التي قامت على أنقاض أنظمة ملكية لم تنجز شيئا من وعودها الوردية للجماهير في التنمية و العدالة والحرية والديمقراطية، بل وتسببت في الهزائم و النكبات والحروب وضرب أسس ومقومات الدولة والمجتمع المدنيين.
لكن الأمر في نيبال يبدو مختلفا، ويحظى باهتمام شديد من المراقبين انطلاقا من أهمية هذه البلاد المعزولة والفقيرة في التأثير على أوضاع منطقة جنوب آسيا و ديناميكيات العلاقات ما بين العملاقين الهندي و الصيني. فهناك اليوم توجه متزايد نحو التخلص من النظام الملكي الطويل لصالح إقامة جمهورية ديمقراطية، لم يعد يقتصر على الجماعات الماوية التي ظلت تقود تمردا مسلحا منذ التسعينات من اجل هذا الهدف. فمثلا رئيس الحكومة الانتقالية “جيريجا براساد كويرالا” الذي يحكم من خلال تحالف سبع قوى سياسية، غير موقفه مائة و ثمانين درجة مؤخرا بقوله أنه يفضل أن يتنازل عاهل البلاد الملك جيانيندرا عن العرش، و يأخذ معه أيضا ولي عهده.
وهو لئن لم يدعو صراحة إلى تبني النظام الجمهوري، فان دعوته إلى تسمية اصغر أبناء الملك البالغ من العمر خمس سنوات ملكا جديد مع مجلس وصاية تحت رئاسته مؤشر على مدى انحسار قوة أنصار الملكية، بما فيهم أنصار الملكية الدستورية. و من ناحية أخرى، فان هذه الدعوة مؤشر على رضوخ رئيس الحكومة العجوز (86 عاما) لضغوط زملائه في حزب المؤتمر (احد أقدم الأحزاب السياسية في نيبال) الذين ما برحوا يصفون الملك جيانيندرا كحجر عثرة أمام الإصلاح الديمقراطي و الاستقرار الداخلي.
و المعروف أن هذه التطور سبقه قرار من رئيس الحكومة لتشكيل لجنة وزارية – برلمانية للبدء في أعمال تأميم الممتلكات الملكية من الأراضي و العقارات و تقليص امتيازات العائلة المالكة. هذا القرار الذي فسره المراقبون بأنه يهدف إلى تقليص نفوذ الملك و ولي عهده كيلا يستطيعا التأثير في الانتخابات التشريعية القادمة المقررة مبدئيا في يونيو من العام الجاري، و المفترض فيها أن يمنح البلاد برلمانا لوضع دستور جديد بدلا من الدستور المؤقت الحالي و البرلمان الانتقالي المكون من 330 عضوا بما فيهم ممثلي المتمردين الماويين، و اللذين ولدا بموجب اتفاقية للسلام و التهدئة وقعت في العام الماضي برعاية الأمم المتحدة.
لكن السؤال القائم هو: هل سيوافق الملك جيانيندرا على التنازل عن العرش طواعية، أو حتى على تحويله إلى ملك رمزي، هو الذي يعرف بتعطشه للسلطة بدليل انقلابه على المؤسسات الدستورية و تعطيله للحقوق و الحريات في الأول من فبراير 2005 ؟
الجواب ربما أمكن استنباطه من خطاب الملك في يوم الديمقراطية و الذي وصفته القوى السياسية بأنه إهانة للشعب و تمرد ملكي جديد على القانون و الدستور الانتقالي، وسط آراء كثيرة تقول بأن الملك و ولي عهده سوف يستخدمان كل ما في حوزتهما من أسلحة للبقاء و مواجهة عملية تقليص نفوذ العائلة الملكية. في هذا الخطاب الذي بدأه بجملة “إلى شعبي المحبوب”، دافع الملك دفاعا حارا عن حله للبرلمان في عام 2005 ، قائلا أن الظروف الأمنية و واجبه إزاء طموحات الشعب اجبره على القيام بذلك، و مفندا مقولة أن تحرك أنصار الديمقراطية هو الذي اجبره في ابريل 2006 على إعادة البرلمان.
وطبقا للمراقبين، يبدو أن الملك يحاول استثمار جملة من الظروف و العوامل لصالحه من بينها الانقسامات في مواقف القوى السياسية المدنية ، و تذمر المتمردين الماويين من عدم إشراكهم في الحكم والاكتفاء فقط بتمثيلهم في البرلمان، و عدم استعداد البلاد لإجراء انتخابات نيابية حرة في الموعد المقرر لأسباب فنية، و الخلاف الناشيء حول مدى التزام الجماعات الماوية بتجميع أسلحتها في أماكن تحت إشراف مراقبي الأمم المتحدة، و المخاوف الناجمة من احتمال أن تسفر الانتخابات القادمة عن وصول الماويين إلى السلطة و من ثم انقضاضهم على الديمقراطية، ناهيك عن تذمر قطاعات واسعة من الشعب من فشل الحكومة حتى الآن في توفير الأمن و النظام و إيجاد حلول للاضرابات العمالية المتكررة و مشاكل النقل العام و الخدمات.
يضاف إلى هذه العوامل، التمرد الجديد الآخذ في الاتساع من قبل أبناء إقليم “تيراي” الجنوبي المحاذي لحدود البلاد مع الهند والبالغ طولها نحو 1800 كيلومتر، و الذين انتفضوا اعتداء على الشرطة و حرقا للمكاتب الحكومية و تهجيرا لمن لا ينتمون إلى اثنيتهم و سلبا للممتلكات العامة والخاصة، بدعوى أنهم غير ممثلين في البرلمان الانتقالي بصورة تتناسب مع أعدادهم، إضافة إلى خلو الدستور المؤقت من مواد تضمن لهم الحكم الذاتي في ظل النظام الفيدرالي المقترح. فهذا التمرد المبالغ في تبريره و الذي يتهم البعض قوى هندية متشددة بالوقوف خلفها، يعطي الملك فرصة لكي يوحي للجماهير بأن هذه مجرد عينة لما ينتظرهم من فوضى مستقبلا. لكنه في الوقت نفسه يعطي أيضا ذريعة للعسكر للانقضاض على السلطة مباشرة أو بطريقة ملتوية بذريعة حماية السيادة الوطنية و الوحدة الجغرافية.
و الحقيقة أن تاريخ الجيش النيبالي نظيف من الانقلابات العسكرية، لأنه عرف دوما بولائه الشديد للمؤسسة الملكية، على نحو ما ثبت في عام 1960 و لاحقا في عام 2005 حينما أيد إجراءات الملك جيانيندرا غير الدستورية. غير أن اتفاقية السلام الأخيرة و ما تبعها من إجراءات فككت علاقته بالملك، ليصير اسمه “الجيش الوطني النيبالي” بدلا من “الجيش الملكي النيبالي”، ولتؤول قيادته العليا لرئيس الوزراء المدني بدلا من الملك. و رغم التصريحات المتكررة لقائده الحالي الجنرال كاتاوالا، الذي يقود نحو مائة ألف عنصر مدرب تدريبا عاليا، بأن مؤسسته غير معنية بالسياسة و خاضعة لأوامر رئيس الحكومة وحده، فان احتمالات قيامه بانقلاب واردة، وخاصة إذا ما أسفرت التطورات عن وصول الماويين عبر صناديق الاقتراع إلى السلطة لإقامة نظام راديكالي قمعي متناغم مع إيديولوجيتهم. وقتها قد لا يجد الجنرال كاتاوالا – و هو بالمناسبة زميل دراسة لقائد الانقلاب العسكري الأخير في باكستان الجنرال برويز مشرف – مفرا من تنفيذ انقلاب على شاكلة انقلاب تايلاند العسكري في العام الماضي، أو ربما على شاكلة التدخل الذي قام به الجيش في بنغلاديش في يناير الماضي حينما طالب قادته رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطواريء و تأجيل الاستحقاقات الانتخابية قبل أيام من موعدها.
السؤال الذي يتردد بقوة هو: ماذا سيكون موقف نيودلهي و واشنطون من هكذا سيناريوهات؟ وكيف ستتصرف جارة نيبال الكبيرة الأخرى، أي الصين؟ علما بأن للهنود و الأمريكيين مواقف متناغمة حول ضرورة عدم تمكين الماويين من السلطة بأي ثمن، فيما تدعم الصين استمرار النظام الملكي، بدليل مسارعتها إلى دعم الملك جيانيندرا بالسلاح و العتاد تعويضا له عن المساعدات العسكرية الهندية التي جمدت في أعقاب قيامه بضرب الديمقراطية في عام 2005 .
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية