إذا كانت إعادة تأهيل ضحايا التعذيب تتضمن فيما تتضمن، معالجة جسدية ونفسية عما عانته الأجساد المتعبة من ركل و لكم وشبح ودولبة، والنفوس المحطمة من مهانة وتقزيم وتجريح، فماذا عن عائلة الضحية التي لم تعش مباشرة أيا من ذلك؟
لا نتحدث هنا عن انعكاس آثار التعذيب وما يتركه في الضحية، على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية والأسرية، وهو ما يدخل في إطار إعادة تأهيل الضحايا وذويهم بطبيعة الحال. لكننا نتحدث عن التعذيب النفسي الذي يطال أهالي الضحايا بالتزامن مع ذلك الذي يلقاه أبناءهم.
أم محمد واحدة من مئات الأمهات الجميلات، اللواتي يحملن ألماً وقهراً بحجم ما يحملن من محبة وطيبة. يتنقلن بحملهن ما بين الأفرع الأمنية المختلفة والمحاكم الاستثنائية، بحثاً عن خبر هنا أو هناك عمن فَقد من أشهر ولا يعرف عنه خبر.
أم محمد فقدت ثلاثة أبناء دفعة واحدة، جرى اعتقالهم منذ أكثر من تسعة أشهر. هي تعرف فقط أنهم اعتقلوا، لا أكثر ولا أقل.
أحاول طمأنتها بأنهم لا بد سينقلون بعد انتهاء التحقيقات معهم إلى سجن صيدنايا العسكري أو سجن عدرا- الجناح السياسي، وستجري محاكمتهم وتطمئن عليهم!!. لكن وخلافا لتوقعاتي لم أتلق أسئلة حول التهم أو إجراءات المحكمة أو ما إلى ذلك مما أستطيع الإجابة عليه. أم محمد تسأل، هل هم بخير؟ هل يتناولون ما يكفي من الطعام، هل يتألمون، هل يتنفسون، هل يتعرضون للضرب، هل هم مع بعضهم البعض أم معزولين، يعني، هل هم بالتأكيد أحياء؟!.
وما أدراني أنا بالأجوبة عن أسئلة أمهات ملتاعات؟ خاصة عندما أبادر بالإجابة في سبيل التطمين، بأنهم بالتأكيد بخير، كل ما في الأمر، أنه لا يسمح لهم بتلقي الزيارات أثناء فترة التحقيق. فتواجهني أم محمد بعجزي عندما تقول، يا ستي لا أريد زيارتهم أثناء التحقيق، فقط فليخبرني أحدهم أين هم بدل هذا التعتير وحرق الأعصاب والذل من فرع إلى فرع ومن محكمة إلى محكمة.
تنازلت أم محمد عن جملة من حقوقها و حقوق أبنائها، في مقابل حق واحد فقط، أن تعرف مكان اعتقاله. أن تتأكد من أنه ما يزال موجوداً ويحمل اسماً ويتنفس هواء ويمشي على قدمين، وهو ما لم تحصل عليه حتى الآن. لذلك فهي تثابر بناء على نصيحة أصحاب الخبرة من أهالي معتقلين آخرين، على الذهاب إلى محكمة أمن الدولة مرتين في الأسبوع على الأقل، لتبحث عن وجه ولدها بين وجوه المعتقلين أثناء سوقهم من سيارة السجن إلى المحكمة، أو لترجو بقية الأهالي أن يسألوا أبنائهم عن أبنائها!.
هذا التكتم على مصير المعتقلين – “الإسلاميين” منهم خاصة- خلال الأشهر الأولى للاعتقال، لا يتعلق بطبيعة الحال بالحفاظ على الأمن العام أو خشية التأثير على مجريات التحقيق. لعله يتضمن عقاباً إضافياً للمعتقل من قبيل الضغط النفسي عليه، ولعله يمثل عقاباً ضمنياً للعائلة التي لم تحسن تربية ولدها!. وربما أيضاً، لأن منح هذا الحق من شأنه أن يدفع إلى المطالبة بمزيد من الحقوق، وهو ما يفضل تفاديه أصلا.
يزيد الأمور تعقيدا، أنه مع “ظهور” المعتقل من جديد إلى الحياة عبر إحالته إلى المحكمة، ومع امتداد المحاكمة أمام محكمة أمن الدولة أشهراً طويلة، ومع استمرار منع الزيارة عن سجن صيدنايا العسكري لغير المحكومين، تستمر معاناة أم محمد وسواها لمرحلة طويلة أخرى.
ومن غير المفهوم – خارج إطار عالم الاستثناء- أن يستمر منع الزيارة عن المعتقلين في سجن صيدنايا لغير المحكومين، طالما أنه كشف عن مصيرهم، وأنهم باتوا في عهدة المحكمة – بغض النظر عن صوريتها.
ينص المبدأ 15 من مجموعة المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء على أنه ” بصرف النظر عن الاستثناءات الواردة في الفقرة 4 من المبدأ 16 والفقرة 3 من المبدأ 18 لا يجوز حرمان الشخص المحتجز أو المسجون من الاتصال بالعالم الخارجي، وخاصة بأسرته أو محاميه، لفترة تزيد عن أيام”.
كما اعتُبر العذاب الذي يقاسيه أقرباء “المختفي” بأنه يصل إلى حد التعذيب أو سوء المعاملة. وفي قضية كوينتيروس ضد الأوروغواي، تبين للجنة حقوق الإنسان في معرض ملاحظتها” للكرب والشقاء اللذين تعرضت لهما الأم جراء اختفاء ابنتها واستمرار الشكوك المحيطة بمصيرها ومكان وجودها”، أن أم امرأة “اختفت” بعد اعتقالها على يد قوات الأمن كانت هي نفسها ضحية انتهاك للمادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وفي قضية كورت ضد تركيا، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن امرأة شاهدت اعتقال ابنها وحُرمت فيما بعد من أية معلومات رسمية حول مصيره كانت “هي نفسها ضحية تهاون السلطات إزاء كربها وشقائها” وقد تعرضت لانتهاك بموجب المادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وأصدرت محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان حكماً مشابهاً في قضية بليك ضد غواتيمالا. (مكافحة التعذيب: دليل التحركات منظمة العفو الدولية).
ليس في الحديث السابق أي جديد. لكن السكوت عنه أيضا ليس بوارد، خاصة وأنه يعتريني دائما إحساس أنني كناشطة، وأننا كنشطاء وكمنظمات حقوقية، لا نقوم بما يكفي وبما يجب في الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان التي لا تتصل مباشرة بقضية معتقلي الرأي والضمير في سوريا.
وعلى ذلك، لم نقم بأي نشاط – رمزي، على غرار أنشطتنا الأخرى، فيما يتعلق بهذه القضية. ولو حتى على سبيل عرائض أو رسائل توجه إلى السلطات المختصة، وهو ما سبقنا إليه الكثير من الأهالي الذين وجهوا عشرات الرسائل في هذا الصدد، من غير مجيب بطبيعة الحال. لكن الأمر يستحق المحاولة ويتطلب المثابرة وإبداء المزيد من الاهتمام والعمل، في تلك الحقول التي تكاد تكون ما تزال فارغة من أي حركة أو اهتمام.
razanw77@gmail.com
* دمشق