قبل أن ينفذ بن لادن أكبر حماقاته الشوفينية باسم المسلمين في 11 سبتمبر عام 2001، كانت باكستان تئن تحت ثقل عقوبتين اقتصاديتين دوليتين مترادفتين، الأولى صدرت عام 1998 إثر قيامها بتفجيرات نووية، والثانية عام 1999 بعد الانقلاب العسكري الذي قام به برويز مشرف وتجميده الديمقراطية بحل البرلمان.
في تلك الفترة بلغت ديون باكستان 72 مليار دولار، وانخفض النمو إلى نسبة 2.6%، وازدادت معدلات البطالة، وبلغ التضخم 5.4%، وارتفعت نسبة الفقر إلى 40.1% بين السكان (140 مليون نسمة) وفي نفس الفترة حلت موجة من الجفاف بالبلاد جاءت مثل لعنة على رؤوس الضباط الانقلابيين، لأن زراعة القطن، وهو المنتج الأول في مجال التصدير، أصيب بضرر كبير، بينما أغلقت دول العالم الغربي أبوابها بوجه السلع الجلدية الباكستانية، الناتج الثاني في التصدير.
كان الاقتصاد الباكستاني على وشك الانهيار عندما حمل وفد أمريكي إلى إسلام آباد إثر تفجير برجي نيويورك في سبتمبر عام 2001 رسالة ذات معنى لا يقبل غير تفسير واحد: “إذا لم تتعاونوا معنا في الحرب على الإرهاب، ستتعرض باكستان إلى نفس الضربة التي سنوجهها إلى أفغانستان للإطاحة بنظام طالبان!” فاختار برويز مشرف وكبار ضباطه بلا تردد التعاون.
في باكستان، سواء كان الجنرالات في السلطة أو خارجها، تعتبر المؤسسة العسكرية مشكلة كشمير في الشمال وجهاد طالبان في أفغانستان قضيتين تخصانها قبل غيرها. وفي المرتين اللتين انتزع فيها الضباط السلطة من الحكومات المدنية المنتخبة، كان السبب ظهور طرح من قبل الأحزاب يدعو إلى حل القضية الكشميرية بالطرق السلمية، واعتبارها مشكلة سياسية وليست دينية كما يصر الجنرالات، من ضياء الحق 1977 إلى برويز مشرف 1999.
وتعبر قضية كشمير من أكثر المشاكل الإقليمية استعصاءً على الحلّ نتيجة إضفاء المؤسسة العسكرية الباكستانية الطابع الديني عليها لكسب الأموال من الدول الإسلامية. وقد وضعت المشكلة الهند وباكستان على حافة الحرب مواجهات خطيرة أكثر من مرة، كانت إحداها نووية، كما جعلت النظام في باكستان غير مستقر، ينتقل من أيدي العسكريين إلى أيدي المدنيين، ثم يعود إلى العسكريين. وتخصص الحكومات بأنواعها 5% من ميزانية الدولة للمؤسسة العسكرية، وعندما قبل مشرف التعاون مع أمريكا في حربها ضد طالبان، لم يكن مخلصاً في التعاون ضد الإرهاب أبعد من طالبان.
1- لقد أرادت المؤسسة العسكرية إنقاذ باكستان من انهيار اقتصادي وأمني لا محالة منه إذا وجهت أمريكا ضربة جوية إلى المؤسسات العسكرية والاقتصادية والمنشآت النووية. ويعود سبب عدم تعاون المؤسسة العسكرية مع أمريكا في الحرب ضد الإرهاب إلى:
إن المؤسسة العسكرية تعتمد على تأييد شعبي كبير في أوساط القبائل داخل المناطق المحاذية لكشمير وأفغانستان، وهي مناطق ذات كثافة عالية، يرتبط سكانها بأواصر قبلية وعائلية وتجارية بالسكان المقيمين على الحدود المقابلة في كل من كشمير وأفغانستان، وجميع هذه القبائل احتضنت، باسم الجهاد، حركة طالبان في فترة احتلال السوفييت لأفغانستان، ثم احتضنتها من جديد، مع زعماء القاعدة، بعد انهيار نظام طالبان وهرب زعماؤها إلى باكستان بصحبة زعماء القاعدة هذه المرة.
لذلك لا تريد المؤسسة العسكرية في باكستان إغضاب هذه القبائل وفقدان تأييدها من أجل التعاون في حرب حقيقية ضد الجماعات الإرهابية القاطنة بين تلك القبائل، والمدعومة معنوياً من قبلها.
2- السبب الثاني، والأهم بالنسبة للباكستانيين، أن مناطق القبائل الممتدة من حدود الهند شمالاً حتى حدود إيران في الغرب، شهدت في فترة حرب طالبان والإسلاميين ضد الاحتلال السوفييتي تدفقاً هائلاً في الأموال والسلاح والتموين من قبل أمريكا ودول الغرب والحكومات العربية والإسلامية لدعم ما أطلق عليه الجهاد ضد السوفييت، مما جعل تلك المناطق تزدهر اقتصادياً وتؤدي إلى انتعاش مالي عمّ جميع باكستان. وبعودة طالبان الآن مع زعماء وعناصر القاعدة إلى تلك المناطق حافظت المناطق المذكورة على حركة مالية لا يستهان بها من دخول الأموال التي يتبرع بها تجار وأحزاب عربية أصولية وشيوخ متعاطفين من دول الخليج والسعودية، بعلم أو من دون علم حكوماتهم. ولا تريد المؤسسة العسكرية فقدان هذا الطفح المالي الذي لا يخشى عليه من جفاف ولا من عقوبات دولية!
لذلك، عندما يشتكي الأمريكيون والإنكليز اليوم من عدم تعاون الحكومة الباكستانية، فلأنهم اكتشفوا منذ أكثر من سنة أن باكستان أصبحت أكبر مصدر للإرهاب ضد الغرب، ولا شك أن استخباراتهم قدمت الدلائل القوية عن تلاعب المؤسسة العسكرية الباكستانية بالمعلومات التي يجمعها الأمريكيون عن نشاط زعماء القاعدة وطالبان داخل باكستان، وحين قدموا تحذيراً رسمياً وعلنياً إلى برويز مشرف عن قطع المساعدات الاقتصادية إذا لم تتعاون أجهزته مع الحكومة الأفغانية لمنع نشاط الجماعتين، القاعدة وطالبان، داخل باكستان، قدم الرئيس الباكستاني خروفاً صغيراً لواشنطن عندما أعلن قبل وصول نائب الرئيس الأمريكي تشيني إلى باكستان عن اعتقال الملا عبيدالله اخوند، وزير الدفاع السابق في حركة «طالبان» اثر عملية دهم فندق في كويتا.
هذا يعني أن زعماء طالبان يعيشون في الفنادق داخل المدن الباكستانية، وليس في الكهوف داخل الجبال الأفغانية كما تدعي المؤسسة العسكرية في إسلام آباد! لكن الأمريكيين نظروا بازدراء إلى هذا الطعام الباكستاني الشحيح، لأن تشيني ورئيس الاستخبارات الأمريكية المرافق له قدموا لمشرف معلومات عن وجود بن لادن والظواهري إضافة إلى قادة طالبان في باكستان. وقد أكد المسؤولون الأفغان هذه المعلومات أكثر مرة، وربطوا بين العمليات الانتحارية التي تشهدها بلدهم منذ عام بالتكتيك المستخدم من قبل القاعدة وحدها.
هذه المقدمة الطويلة أوردناها لتقديم صورة عن أخلاقية المؤسسة العسكرية الباكستانية في التعامل مع التعهدات التي تقطعها للدول التي تمد لها يد العون والإنقاذ، قبل الدخول إلى موضوع علاقات باكستان مع العرب.
باكستان، الدولة الحديثة التي انسلخ بها زعماؤها عن شبه القارة الهندية عام 1947 تحت ضغط التشدد الديني لقبائلها الكبيرة، ما زال الدين (الإسلام) بمفاهيمه القبلية المتخلفة يتحكم بسياساتها وعلاقاتها بجيرانها وبالعلم، ويربط مصير نصف شعبها من سكان المدن، الأكثر تطوراً وتمدناً، بأهواء ونزعات تلك القبائل المتطرفة التي يعمها الجهل، وتتمسك بنط حياة وأفطرا لم تمسها حركة التاريخ منذ خمسة قرون أو أكثر.
ولم نكن نحن العرب نعرف شيئاً عن سكان القبائل الباكستانية (إخواننا في الدين) إلى أن زرنا، أو عشنا قرب تجمعاتهم السكنية “الكيتو” في لندن أو ليدز أو برادفورد، وشاهدنا لحاهم الكثة وجلابياتهم المسربلة، والبيوت الإنكليزية الجميلة التي تتحول حدائقها الأمامية إلى مكبّ للأزبال، ونظراتهم المليئة بالحقد تجاه الشعب الذي يعيشون في كنفه، باعتباره كافراً يحلّ للمسلم قتله مقابل دخول الجنة، وما أن يبلغ أولادهم سن الرشد حتى يتركوا المدارس الإنكليزية ويطلقوا العنان للحاهم قبل الذهاب إلى مسقط رأس آبائهم في المناطق القبلية من باكستان، يتدربون هناك على تفخيخ الحقائب ثم يعودون ليفجروا أنفسهم بين ركاب القطارات والباصات في لندن.
وغالباً ما تستقبل دكاكين الباكستانيين العرب المسلمين بوجوه باشّة، مرحبة: السلام عليكم Brother لكن لا يخرج عربي Brother منها من دون أن يدفع أكثر من السعر المثبت على البضاعة. وعندما فجرت باكستان أو تجربة نووية لها، ابتهج العرب “المساكين” لأن إسلام آباد أسرّت لهم أن قنبلتها سوف توجه إلى أعداء الإسلام والعرب على وجه الخصوص. وبعد خمس سنوات اكتشف الـ Brothers العرب أن المعادلات والمخططات الهندسية النووية تباع في السوق السوداء الدولية لمن يدفع، وأن إيران التي خلقت للعرب أكبر مشكلة أمنية في تاريخهم كانت أول المشترين! رغم معرفة إسلام آباد بالأطماع الإيرانية في الشرق الأوسط.
بناءً على هذه الحقائق التي لا يتطرق إليها العرب إلاّ نادراً، وقعت أمريكا وأوربا في الفخ الباكستاني، عندما اكتشفت، بعد إغراق الخزينة الباكستانية بمساعدات رفعت مستوى النمو من 2.6% عام 1999 إلى 5.3% في العام 2003، أن المؤسسة العسكرية الباكستانية لم تكن تنوي التضحية بالسوق العالمية للإرهاب، المنتعشة فوق أراضيها، رغم كل ما أغدقته أمريكا وأوربا من مساعدات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية وائتمانات بنكية بمبالغ طائلة!
ليس الغرب وحده من يعاني من الإرهاب التي تحتضن المؤسسة العسكرية الباكستانية قواعده وزعماءه وتسهل وصول الأموال إليه، بل كان العرب أول من عانى، وما زالوا يعانون من نشاط الإرهابيين، إذ لم تسلم دولة عربية واحدة (طبعاً عدا سوريا وقطر) من أعمال الإرهابيين وتفجيراتهم الانتحارية، والآن يضاف إلى تلك الأعمال، أو بالتنسيق معها، نشاط الحكومة الإسلامية الإيرانية، التي أقامت لها قواعد ثابتة لنوع من الإرهاب أكثر فاعلية وتأثيراً داخل المنطقة العربية (لبنان – العراق – فلسطين) تفرض من خلالها سياساتها وتدخلها الإقليمي في شؤون العرب.
بَيدَ أن أخطر ما يبيته الـ Brothers الباكستانيون للعرب، أنهم بعد بيع الإسرار النووية لإيران، قاموا بمجموعة من الزيارات للمنطقة العربية أغروا فيها بعض المسؤولين على فتح سوق نووية باكستانية في الشرق الأوسط. ويبدو أن مساعيهم بدأت تعطي ثمارها في أقل من خمس سنوات، حيث أدرج الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى في البيان الختامي لوزراء الخارجية العرب الأخير دعوة صريحة إلى ما أسماه: “تنمية الاستخدامات السلمية للطاقة النووية في الدول العربية”
وذهب أبعد من ذلك في حماسته للموضوع بأن كلف هيئة الطاقة الذرية العربية بالإسراع (لاحظ كلمة الإسراع) في وضع استراتيجية عربية خاصة بامتلاك العلوم والتقنيات النووية… للأغراض السلمية!
لا شك أن السيد عمرو موسى، الذي “قتل” خريطة الطريق العام الماضي رغم أنف الزعماء العرب، متحمس الآن لفتح المنطقة العربية أمام البضاعة النووية لإخواننا الباكستانيين، برفع درجة الصراع في الشرق الأوسط إلى مستوى صراع نووي، إيراني – عربي – إسرائيلي، لأن النمط العسكري التقليدي للصراع لا يتناسب مع العاطفة القومية المشبوبة للأمين العام السيد عمرو موسى. وهذه العاطفة التي لا تريد الكف عن الهياج، على الأقل احتراماً للدول العربية الكبيرة التي تملك رؤى أخرى لحل الصراع العربي الإسرائيلي، هي التي توجه مواقف الأمين العام للجامعة العربية، الذي لم نسمع منه انتقاداً واحداً سواء لتدخل طهران في الشؤون العربية، أو لموضوع التخصيب النووي الذي يثير القلق بين حكومات وشعوب الدول الخليجية!
arifalwan@yahoo.com
*كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا