قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-149
على مدى خمسة عشر شهرا منذ انتخابات مجلس الشعب في نوفمبر 2005,وعقب تنامي نصيب التيار الإسلامي من الكعكة السياسية, شغل هذا التيار الرأي العام بالكثير من الضجيج والصوت العالي والتظاهرات والتصادم مع الأمن دون أن يكون لذلك القدر من الضجيج ما يتناسب معه في اتجاه البناء الوطني أو الإصلاح المأمول سواء الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي.
وأذكر أنه بعد انقضاء انتخابات مجلس الشعب مباشرة ووصول 88 نائبا تابعين للتيار الإسلامي إلي المجلس- الأمر الذي كان يمثل قفزة كبيرة بعد أن كان ممثلو التيار في المجلس السابق 17 نائبا-أن تجيب لدعوة الصديق محمد عبد القدوس لإجراء حوار مع مجموعة من قيادات جماعة الإخوان المسلمين,وأوضحت وقتها بجلاء أن ما أقدمت عليه لم يكن في إطار ما كان يحلو للكثيرين وصفه بأنهحوار بين الأقباط والإخوان المسلمين,وإنما هو حوار بين مصريين تحت مظلة المواطنة ,وأنه بالرغم من التناقض في المواقف حيث أنتمي أنا إلي دعاة الدولة المدنية بينما يرفع الإخوان شعار الدولة الدينية,إلا أن التركيز علي مساحة الاختلاف وحدها لاينفع ويؤدي إلي القطيعة والعداء-الأمر المدمر للعمل الوطني-والأفضل البحث عن مساحات الاتفاق التي تجمعنا وهي الوطن الذي نعيش معا شركاء فيه ونحمل معا ميراث تاريخه وثقافته,فيكون التواصل والحوار سبيلنا إلي صناعة مستقبله.
وتأكيدا علي هذا التوجه حرصت في مستهل جلسات الحوار علي تنمية أمرين شاع الخوض فيهما وقتها في دوائر أخري عن برنامج الحوار:الأمر الأول مناقشة فكر واستراتيجيات الإخوان المسلمين وقلت إنه لا جدوي من الخوض في تلك المنطقة لأنها تزخر بكثير من المتناقضات والغموض بين المكتوب والمصرح به,بين المعلن والسري,مما خلق مساحة من التوجس وعدم الثقة يصعب تجاوزها,وأن علي الإخوان مسئولية علاج ذلك لإزالة القلق والخوف الذي يعتري نفوس الكثير من المصريين إزاء فكر الجماعة.أما الأمر الثاني الذي حرصت علي تنحيته فكان السعي لدي الإخوان للسؤال عن وضع الأقباط لديهم في ظل الدولة الإسلامية التي يدعون لتأسيسها في مصر ,لأن ذلك في حد ذاته هو أبلغ إهانة للمواطنة.
وكان أن وافقت المجموعة الممثلة لجماعة الإخوان علي ذلك واتفقنا علي منهج آخر هو العمل علي رأب الصدع الذي أصاب العلاقة بين المسلمين والأقباط عبر العقود الثلاثة الماضية-وخاصة بالنسبة للشباب من الجنسين-بتشجيع الأنشطة الحياتية المشتركة بينهم سعيا نحو ترسيخ مبدأ المواطنة والعيش المشترك وقبول الاختلاف,وهو المنهج الذي تتبعهوطنيدوما,وتحققت من خلاله نتائج عظيمة فيبرلمان الشبابوفيمركز التكوين الصحفي,وكانت ثالثتهمامجموعة العيش المشتركالتي ترعاها بالمشاركة معوطنيلجنة الحريات بنقابة الصحفيين.وكلها نماذج أثبتت أن تجاوز مساحة الاختلاف والبحث عن المساحات المشتركة يمكنه أن يقلص حدة الاحتقان ويخلق مناخا لقبول الآخر…وأعود وأذكر أن الدكتور عصام العريان قال في ذلك الحين إن تصاعد عدد نواب التيار الإسلامي ووصوله إلي شغل نسبة 20% من مقاعد مجلس الشعب هو مسئولية كبيرة ملقاة علي عاتق هذا التيار أمام الشعب,لذلك فهم عاكفون علي كتابة برنامج جاد لتحديث وإصلاح مصر للعمل من خلاله,ولن يكون دورهم مقصورا علي الصراخ والضجيج ومعاداة الحكومة,بل قد يتفق برنامجهم في بعض أجزائه مع برنامج الحكومة ويختلف معه في أجزاء أخري وهو أمر طبيعي,كما أكد علي إيمان الإخوان بالمواطنة والديموقراطية والتعددية وتداول السلطة وحقوق المرأة وغيرها وغيرها من ملامح الدولة العصرية الحديثة.
والآن بعد عام وربع العام علي ذلك الحوار الذي جمعنا,إذ أتأمل ما تحقق منه أجدني أكثر حيرة وأشد قلقا من ذي قبل,ولست وحدي في ذلك بل يقف معي الكثير من المصريين وعلي وجه الخصوص المثقفون والمفكرون والكتاب والسياسيون فقد نجحت الجماعة بشكل ملفت في إثارة فزع المجتمع بين الحين والآخر,سواء بتصريحات المرشد العام لها أو بسلوكيات نواب التيار الإسلامي في البرلمان أو بتظاهر شبابها في جامعة الأزهر,وأخيرا بما تضمنه إعلانها الأخير محاولة تأسيس حزب سياسي وما تضمنه ذلك من مباديء وتوجهات تطعن الوطن والمواطنة في الصميم…ففي جميع هذه المواقف والأحداث برزت بدرجة مخيفة الروح العنصرية للجماعة,وهي ليست عنصرية ضد الأقباط وحدهم إنما ضد المصريين المسلمين أيضا,لأنها تولت رسم منهاج للحياة وللوطن يخالف في أكثر جوانبه ما يحياه المصريون مسلمين ومسيحيين علي السواء,مع التأكيد علي أن تلك الرؤية هي الوحيدة التي تتفق مع شريعة الله وأن ماعداها هو الكفر والخطيئة!!لم تترك الجماعة أي مساحة للاختلاف أو وسيلة للحوار بل وصل الأمر أن يقف نائب في البرلمان تابع للتيار الإسلامي ليقول:إن مشروعنا للدولة الإسلامية هو الصواب ومن يختلف معه عليه أن يبحث لنفسه عن دين آخر!!!
لست نادما إطلاقا علي حواري وتواصلي مع الإخوان المسلمين,ومازلت أعتز بصداقتي مع البعض منهم-قيادات وشبابا-وأحرص علي استمرار التواصل رغم الاختلاف,لكني إذ أتأمل حصيلة عام ونيف مضي أقول إن هناك مساحة أوسع من ذي قبل أصبحت تفصل بينهم وبين الرأي العام ,وأن عليهم الكثير والكثير الذي يجب أن يفعلوه في إطار إزالة المخاوف التاريخية والحاضرة المترسبة في النفوس قبل الإعلان عن نوايا الانخراط في اللعبة السياسية.
وأخيرا أقول رب ضارة نافعةفتصريحات المرشد العام وحدها وردود أفعال المصريين عليها أثبتت أننا إزاء معركة تحديث مصر وأمام قضية المواطنة لا نقف في مواجهة بين مسلم ومسيحي,إنما في مواجهة بين أغلبية مصرية وأقلية متطرفة.