منطقيا وعمليا، يفترض أن يكون التعليم والتربية أول هدف لأي عملية إصلاح وذلك بسبب أنه من خلال هذا النظام بالذات يتم إعداد إنسان المستقبل وصياغة أفكاره وقيمه وتوجهاته، التي يفترض بها أن تكون الأفكار والقيم والتوجهات التي تتبناها عملية الإصلاح وتسعى للتحقق من خلالها. ليست هذه الفكرة متحققة بشكل واضح واستراتيجي لدينا في السعودية. ويمكن أن أضرب مثالا بسيطا على ذلك من خلال هذا الوضع: تم ويتم الإعلان عن مدن اقتصادية ضخمة جدا في السعودية، مدينة الملك عبدالله مثلا التي بلغت تكلفتها مئة مليار ريال، لكن في نفس الوقت لا يستطيع النظام التعليمي أن يوفر أحداً من المواطنين ليكون صالحا للعمل في هذه المدن الهائلة!! مما سيؤدي إلى فشل هذه المشاريع الكبرى إذا تولى مسؤوليتها مواطنون غير مؤهلين أو أن يتولاها مؤهلون من الخارج وهذا يعني اغتراب المواطن عن خط سير بلده مما يعني فشل العملية أيضا كونها لم تتضمن بناء وتطوير الفرد معها.
إلا أن هذا الأمر المحير والمحبط تم بعث الحياة فيه مرّة أخرى من خلال الإعلان عن “مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام”. وهو المشروع الذي يهدف إلى إحداث “نقلة نوعية” كما جاء في المؤتمر الصحفي ونشر ملخص له هنا، في “الوطن”، يوم الأربعاء الماضي. هذا المشروع رصد له مبلغ تسعة مليارات ريال على أن يتحقق في مدّة زمنية حددت بست سنوات. ومن أبرز أهدافه كما جاء في حديث نائب وزير التربية والتعليم الأمير خالد بن عبدالله المشاري أنه “سيلغي نظام التعليم بالتلقين ويساعد المعلمين على تحقيق رسالتهم ويهدف إلى مشاركة الطالب في الفصل بشكل أكبر مما يؤدي إلى بناء مجموعة مهارات وقدرات مبنية على التفكير، وسيتم الأخذ بأحدث ما وصلت إليه التقنية ومنها المناهج الرقمية التي تراعي الفوارق الفردية بين الطلاب وتعزز جانب التعلم الذاتي وأن دور المعلم سيكون مساعداً للطالب ومرشداً له مؤكدا على أن البيئة المدرسية ستتحول بعد إنجاز المشروع إلى منبع للمعلومات من خلال ربط الفصول الدراسية بأنواع كثيرة من الشبكات التعليمية والمعلوماتية، إضافة إلى إدخال الحاسوب والتقنيات الحديثة”. ولتحقيق هذه الأهداف ستتم إعادة تأهيل 400 ألف
معلم ومعلمة للتعامل مع النظام الجديد.
هناك واقع مستقر في دول العالم الثالث يتعلق بموضوعنا هنا وهو كما تصوّره الدكتورة فوزية البكر في كتابها “مدرستي صندوق مغلق” كالتالي “إننا كمواطنين عاديين في دول العالم الثالث لا نملك في ما يخص قرارات التعليم سوى الترقب والصمت والنقد في المجالس الخاصة حيث إن النظام الإداري الذي تتبناه وزارات التربية والتعليم وتدار على أساسه المدارس لا يتيح للأهالي المجال للمشاركة في صنع القرار تجاه ما يحدث في مدارس أبنائهم وبناتهم…”. ونتيجة لهذا الواقع تنحرف كثير من أنظمة التعليم عن تحقيق مصالح ومطامح الفرد المواطن في أن يمتلك أدوات تساعده على التعامل مع الحياة كما في الواقع وعوضا عن ذلك تضغط جوّه وخياله بالكثير من الخيالات والأوهام وما لا يعنيه مما يجعله يشعر أن الكثير مما تعلمه إما مزيف ومشوه ومبتور أو أنه لا علاقة له بالحياة التي يعيشها ولا ينفعه في تحقيق حياة كريمة ومستقرّة. والنتيجة المحصلة في النهاية ليست فردا لم يستفد من تعليمه فقط بل فرد يعاني حالة اغتراب وتشوّه نفسي يؤثر سلبا على باقي حياته.
نحن هنا أمام مشروع مهم جدا صحيح أنه لا يتطرق، فيما نشر عنه حتى الآن، لأساس وسياسة وأهداف النظام التعليمي الحالي التي برأيي لن يتحقق إصلاح حقيقي دون إعادة صياغتها لتناسب هذا العصر الذي نعيشه. كما أنه لم يتعرض إلى المضمون الفكري والأيديولوجي الذي يضخ في النظام الحالي بمعنى أنه نظام للتطوير فعلا وليس للتغيير ولا للإصلاح الشامل إلا أنه رغم هذا كله يتضمن أهدافاً مهمة وستؤثر بالتأكيد على العملية التعليمية ويمكن أن تحرك شيئاً من الركود والجمود الحالي. ولذا فمن المهم الآن أن يتم نقل هذا المشروع ليكون شأنا اجتماعيا يشارك كل مهتم في المجتمع في نقد هذا المشروع ومراقبته ومتابعته والتأكد من سير تطبيقه بشكل علني وواضح وشفاف.
فتح المجال للمجتمع ليهتم بما يعنيه ويهمه مبدأ عام واستحقاق يجب دعمه وتحقيقه باستمرار إلا أن هذا الأمر يتأكد هنا أكثر من غيره. وهو أن الكثير من المشاريع التطويرية التي يعلن عنها لا تلبث بعد الإعلان عن بداية العمل فيها أن تختفي شيئا فشيئا ويختفي الحديث عنها وتموت في مهدها دون أن يعرف العموم، الذين هم المستفيدون الأصليون منها، عن سبب وفاتها أي شيء. من هذه المشاريع مثلا مشروع تطوير المناهج الذي أعلن عنه قبل تسع سنوات ولم ير النور حتى الآن ومشروع جهاز كمبيوتر لكل طالب وغيرها من المشاريع. ومن هنا يأتي السؤال كيف نستطيع نحن كمواطنين التأكد من أن هذا المشروع المهم بأهدافه الإيجابية وملياراته التسعة سيتحقق كما يفترض به أن يتحقق. صحيح أن نظام الوزارات يحتوي في داخله على أجهزة للرقابة لكن الأيام والتجارب تخبرنا أن هذه الأجهزة لا تكفي وأن الرقابة العامة التي تمارسها فئات المجتمع ووسائل الفعل والتعبير فيه هي القادرة على إحداث نوع من الرقابة الفاعلة.
هذا الاستحقاق يفترض أن يحميه القانون ويلزم جميع الأطراف بتحقيقه. ولذا فمن المهم إلزام الوزارة بنشر كامل تفاصيل المشروع في وسائل الإعلام متضمنا خطوات تطبيقه وجدولها الزمني على أن تلزم أيضا بتقديم ونشر تقرير واضح عمّا تم إنجازه خلال كل ستة أشهر من العمل. هذه الشفافية ستمكن المجتمع من ممارسة حقه في العلم والمتابعة والرقابة كما أنه سيحث العاملين على تنفيذ المشروع على العمل بجد ومثابرة كما أنه سيحميهم من التدخلات ومحاولة إعاقة عملهم فهم مطالبون بتقديم تقارير للناس ويجب أن يكون كل شيء واضحاً وتحت النور.
بهذا الشكل يمكن أن يكون هذا المشروع خطوة ونقطة انطلاق قوية في طريق إصلاح النظام التعليمي الذي أعتقد أنه طريق طويل ويحتاج إلى الكثير من العمل والشجاعة وتجاوز الكثير من الحسابات الصغيرة من أجل بناء مستقبل أجمل لهذا البلد، مستقبل لا يمكن أن تحققه الخطب والشعارات والقصائد ولا حتى النوايا الحسنة كما أنه لا يمكن أن تحققه المشاريع والإصلاحات الجزئية بل هو بحاجة إلى وعي دقيق وصادق بمرحلة التخلف التي يعانيها نظامنا التعليمي وعجزه الحالي عن تقديم ما يمكن أن يساعد إنسان هذا البلد على العيش بشكل إيجابي ومثمر في هذا العصر. هذا الوعي هو الذي سيوفر الأرضية الصلبة للقيام بتغيير شامل وجذري للنظام التعليمي تسخر له طاقات البلد المالية والعقلية التي تستطيع التعامل مع أحدث ما أنجز من نظريات وآفاق للتربية والتعليم في العالم مما يعد نقلة تاريخية لإنسان المستقبل السعودي.
* كاتب سعودي