(نشر “الشفّاف” قبل أيام وجهة نظر الصديق سالم جبران في تصريحات الرئيس بوتين الأخيرة ضد التفرّد الأميركي. في ما يلي، من جريدة “السفير” وجهة نظر متعارضة في روسيا بوتين. لفتح باب النقاش، ربما—- الشفاف).
عكف مولانا كارل هينرش ماركس، بعد هزيمة هبّات 1848 الديموقراطية في ألمانيا، ولجوئه الى لندن، على تمييز نفسه عن بقية المنفيين من «عصبة الشيوعيين» وغيرها، وقــال في شراذمهم ما لم يقله وليد جنبلاط في بشـار الأســد يوم 14 شباط.
لم يتردد مولانا ماركس حينها في وضع يده في يد ديفيد أوركوهرت، الدبلوماسي البريطاني العاشق للآستانة، والسياسي اليميني المحافظ والناشر المعروف بالعداء الفظيع لكل ما هو روسي. وقد ظهر الرجلان جنباً الى جنب في ندوات عامة، دافعا فيها عن القيم الأوروبية وما يتهدّدها من خطر قيصري داهم، كما أفسحت جريدة The Free Press التي يملكها أوركوهرت، المجال لمقالات مسهبة من ماركس ابتداء من عام ,1853 وهي مقالات فاضت بروح العداء لروسيا، وتقصدت السجال مع أي تواطؤ من جانب دولة أوروبية مع قيصر الروس ضد دولة أوروبية أخرى. بل ان أوركوهرت قد مرر الى ماركس محاضر سرية روسية بريطانية كي يعلّق عليها الأخير ويندد بها. لقد جمعهما «رهاب روسيا». لم يتميز أوركوهرت عن ماركس، إلا من حيث درجة عشقه وهيامه بدولتنا العلية العثمانية، اذ كان حريصاً على استمرارها، ورأى فيها حصناً منيعاً ضد التمدد الروسي جنوباً وغرباً، وقد عرف نفسه وقت اقامته بالآستانة بكنية «داود باشا». أما صديقه ماركس، فبقي أكثر واقعية من «حليفه»، وأكثر توازناً في اطار السياسة الخارجية البريطانية التي استمرّ ماركس يعمل لحسابها أمداً طويلاً من ضمن شبكات كان قد أسسها اللورد بالمرستون، وإن شارك ماركس أوركوهرت بعضاً من الموقف المتعاطف مع سلاطيـن بني عثمان. هذا عن ماركس، أما فريدريك انجلز فإنه لم يكلّ ولم ييأس وهو ينادي باجتماع الأمم الأوروبية في حرب على روسيا، وقال بالحرف إن «الحرب على روسيا انما هي السبيل للتحرير والتوحيد الحقيقيين لألمانيا».
إذا ما نحّينا جانباً تعالي ماركس عن كل ما هو سلافي ثقافياً، يمكن أن تُجتلى فائدة من النهج الذي اعتمده بازاء القيصرية. اذ لم يعترف ماركس بأنه جزء حيوي من الوسط الليبرالي الا عند مواجهته خطر القيصرية الروسية. بهذا المعنى بالذات يمكن الاحتفاء بماركس بوصفه مؤسسا كبيرا لمدرسة مناهضي الممانعة، ومناصرا بروميثيوسيا طـوباويــا لا غنى عنه لمدرسة توسيع رقعة الغرب. ويكون توسيع الغرب في منظار ماركس بتوسيع آفاقه، الى أن يأتي يوم يصير فيه كوكب الأرض كلّه غرباً، بدلا من أن يكون الغرب اقليماً مُسْتبعِداً لبقية الأقاليم التي يهيمن عليها، وبدلاً من أن تودي بقية الأقاليم بحداثة الغرب.
ما أبعدنا إذاً عن المدرسة الحديثة العهد في أوساط بعض المتمركسة من العرب والعجم حالياً، والتي تحتفي بانبعاث روح القيصرية الروسية، أو بانبعاث الاتحاد السوفياتي في نسخة فلاديمير بوتين، وهو انبعاث لم نر منه حتى الآن، الا اغتيال الصحافية الجريئة آنا بوليتكوفسكايا ومن قبلها نحواً من عشرين صحافياً آخرين، فضلاً عن المدرسة البوتينية في مكافحة الارهاب، على أساس مبدأ حرق أكوام من التبن لاقتفاء أثر ابرة.
تؤسَّس على فلاديمير بوتين في شرقنا المتعب والمضجر أوهام كثيرة. المراهنون عليه يجدون خيراً في سيرته الاستخبارية وهو يكافح المنشقين في الثمانينيات. لكنه ليس جيمس بوند، كما نبهنا الى ذلك اندريه غلوكسمان في كتابه «دوستويفسكي في مانهاتن». وفي كل الحالات، فإن الاتحاد السوفياتي، بكل عظمته وهيلمانه، لم يكن جدياً في سياسته الشرق أوسطية، ودفعت شعوبنا ثمن الانحياز له، ودفع «الشيوعيون» فوق ذلك ثمن انحيازهم الاهتيامي «المباشر» اليه دون الانحياز الى الأنظمة المنحازة له «استراتيجيا»، مع أنها أنظمة كانت تدرك عند كل منعطف حاسم أنه لا مجال للمقارنة بين درجة اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، ودرجة عزوف الاتحاد السوفياتي عنها، رغم التجاور الجغرافي البديهي.
بيد أن أكثر ما يثير اعجاب الممانعين «التقدميين» العرب ببوتين اليوم، من بعد ولعهم بتشافيز وموراليس ونجاد، هو أن الرفيق القيصر أهلك واحدا وعشرين زميلاً صحافياً من دون أن يفكر أحد بقيام تحقيق دولي أو محكمة ذات طابع دولي، كما أن الرفيق القيصر أهلك شعباً بكامله في القوقاز، ثم نظم لهذا الشعب انتخابات نيابية مبكرة.
(السفير)
سالم جبران: روسيا تقود المجهود العالمي
لإسقاط نظام القطب الواحد الأمريكي