تحول التنين الأصفر، الصين، إلى عملاق اقتصادي يهيمن على جزء يعتد به من الاقتصاد العالمي، ويهدد الكثير من القوي التقليدية والحديثة في النظام الاقتصادي العالمي، يأتي في مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. نجحت الصين في تسويق منتجاتها في مختلف دول العالم، وتحديدا في الدول النامية، ولم تعد الصين تصنف ضمن الدول النامية. ساعد الصين في تحقيق معدلات نمو لا مثيل لها عالميا، تتجاوز 9.5% سنويا، أن نجحت في غزو الكثير من الأسواق، ومنها الأسواق العربية والأفريقية، وفي مقدمتها السوق المصرية، عن طريق ما يعرف باسم سياسات الإغراق، إذ أنها تبيع منتجاتها بأسعار أقل من تكلفة إنتاج المنتجات المناظرة في الدول التي تغزوها المنتجات الصينية. في هذا المقال نحاول رصد سياسات الإغراق الصينية في مجالات محددة، وسياسات الحكومة المصرية لمواجهة هذه السياسات، من خلال التعاون بين المنظمات الحكومية ومنظمات رجال الصناعة وأصحاب الأعمال، خاصة وأن الجزء الغالب من المنتجات الصينية يتم تهريبه للسوق المصرية، والاستغلال الأمثل للتكنولوجيا الحديثة للارتقاء بالصناعة وزيادة قدرتها علي المنافسة، والاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة ومنها برتوكول “الكويز” لزيادة الصادرات المصرية إلي الخارج.
يأتي في مقدمة المجالات التي نعاني فيها من الإغراق الصيني، منتجات الملابس الجاهزة، خاصة في ظل تدهور سياسة مصر الزراعية بشأن القطن، إذ أن التركيز علي القطن طويل التيلة يجعل من مصر دولة مستوردة للقطن. وعلي الرغم من كثرة الوعود من مسئولي وزارة الزراعة بخريطة زراعية قطنية أكثر توازنا، تهتم بزراعة القطن قصير ومتوسط التيلة، إلا أن هذه الوعود لم تجد بعد طريقها إلي أرض الواقع.
يذكر أن عدد من رجال الأعمال والصناعة اتفقوا مع المسئولين عن الزراعة علي زراعة أماكن ممتدة في توشكي بالقطن قصير التيلة، علي أن تقوم الوزارة بتوفير البذور، وتقوم اللجنة التابعة للوزارة بالأشراف علي عملية التنفيذ التي تتحمل مسئولياتها شركات القطاع الخاص، إلا أنه كالمعتاد العراقيل دائما ما تأتي من جانب الجهات الحكومية المعنية بتوفير التيسيرات والتسهيلات!!
إن المشكلة الرئيسية للقطن طويل التيلة تتمثل في أنه يتم تصديره بكميات ضخمة إلي الأسواق الخارجية، حيث تقوم الدول المستوردة بخلطه بالألياف الصناعية لرفع نسبة أقطانهم. بينما القطن قصير التيلة أفضل من حيث الجودة في صناعة الغزل والنسيج ومن ثم الملابس الجاهزة. ويصل إجمالي صادرات مصر من القطن طويل التيلة إلي 115 ألف طن، موزعة علي 36 دولة مستوردة، بمتوسط 3 آلاف طن لكل دولة. الخلاصة أن القطن قصير ومتوسط التيلة يتمتع بجدوى اقتصادية أعلي من طويل التيلة صناعيا وتصديريا.
يضاف إلي هذا أن مشكلة القطن طويل التيلة تتمثل في أنه النوع الوحيد من القطن الذي يزرع في مصر، مما يؤدي إلي استيراد مصر للقطن قصير ومتوسط التيلة. كما أن نسبة المهدر من القطن طويل التيلة في عملية الحلج عالية، فإذا كان الإنتاج المصري 6 ملايين قنطار، توظف المناول حوالي 2 مليون قنطار فقط. وأشار تقرير عن مجلس إستراتيجية القطن والمجلس السلعي ، إلي أن وزارة الزراعة تضع العراقيل، وترفض استيراد القطن متوسط التيلة لأسباب غير مبررة، يضاف إلي ذلك أن تكلفة القطن طويل التيلة مرتفعة، ولكن استخدام الخامة لا تستطيع التقنيات الحالية أن تصل به إلي المستوي الأمثل. في الماضي، كان هناك دعم تقدمه الحكومة لمزارعي القطن طويل التيلة، نتيجة ارتفاع تكاليف زراعته وجمعه، يذكر أن قنطار القطن طويل التيلة الذي يقوم بتجميعه ما بين 12-15 شخصا، أجر كل منهم اليومي يدور حول 20 جنيها (3.5 دولار)، فيكون إجمالي الأجور اليومية لتجميع قنطار القطن، حوالي 400 جنيه (75 دولارا)، يضاف إليها 400 جنيه أخري قيمة تكاليف الزراعة، تصبح إجمالي تكلفة الزراعة وجمع القطن فقط 800 جنيه، وهذه تكلفة عالية للغاية.
تصل إنتاجية الفدان المصري من القطن إلي ما يتراوح بين 7 – 9 قناطير، بينما إنتاجية الفدان الأمريكي من القطن تدور ما بين 17 – 19 قنطارا، وفي إسرائيل الفدان يعطي 16 قنطارا من القطن. وحتى الآن لم تستطع مصر حل هذه المشكلة مع وزارة الزراعة كقطاع صناعي خاص. أما مشكلة المغازل فتتمثل في حاجتها الماسة إلي القطن الشعر، بالة إلي الرسوم الجمركية التي تتراوح نسبتها ما بين 3% – 5%. وهذا يؤدي في النهاية إلي ارتفاع التكلفة، وأحيانا الخسارة. كما طلب رجال الصناعة من وزارة الزراعة تخصيص 100 ألف فدان لزراعتها بالقطن متوسط التيلة، ولم يكن هناك أي استجابة حتى الآن.
هناك حلول مقترحة لمواجهة هذه المشاكل، الحل الأولي يتمثل في إزالة الرسوم الجمركية، والتي مع الجهود التي بذلت من جانب ممثلي تنظيمات رجال الأعمال والقطاع الخاص، تم إزالتها. أما المعوق الإداري المتمثل في لجنة القطن التابعة لوزارة الزراعة التي ترفض تخصيص مساحات لزراعة القطن متوسط وقصير التيلة، وتقوم الشركة القابضة وبعض شركات القطاع الخاص باستيراده من اليونان والسودان. ويمثل أن القطن المصري طويل التيلة 50% من نسبة القطن العالمي طويل التيلة، وما يدور حول 3% – 4% من إجمالي تجارة القطن العالمية بأنواعها المختلفة. إن القطن طويل التيلة قليلا ما يستخدم في صناعة الأقمشة واللينوهات والمفروشات، بالة إلي أن الكثير من مصانع الغزل مستوي عملية التمشيط فيها ليس مرتفعا. كما أن الماكينات تعود إلي موديلات قديمة ومتهالكة، أحدثها يعود إلي عام 1984، ولا يوجد في مصر غير شركتي الإسكندرية وإيران وشركتين تابعتين للقطاع الخاص تستخدم ماكينات حديثة نسبيا تعود إلي عام 1994، وكلها شركات صغيرة ومتوسطة الحجم لا تقوي علي الإنتاج الكبير والضخم. ويأتي حل هذه المشكلة من خلال الاهتمام بصناعة الغزل نفسها، كحلقة في سلسلة تطوير مراحل التجهيز والحلج والغزل والسباب والتجهيز وأخيرا التفصيل.
هناك تهديدا كبيرا تمثله صادرات الصين والهند وباكستان للصناعة المصرية. والتغلب علي هذه المشكلة يتم من خلال مشاركتهم من أجل الحصول علي القطن الشعر في مصر لإتمام عملية الغزل بكفاءة، لذا لا يجب أن يخاف المنتجون المصريون من دخولهم إلي السوق المصرية. لكن علي المنتجين المصريين أن يحددوا نوعية هذا الدخول، وكيفية استفادتهم منه. كما تحدث رجال الصناعة والأعمال مع د. يوسف بطرس غالي، وزير المالية، لتصدير “الفوط” المصرية عالية الوبرة إلي السوق الأمريكية، فاكتشف رجال الأعمال في البداية أن هناك منتجات نسيجية عديدة تحمل بيانات أن “القطن مصري”، وبعد التحري والتحقق اكتشف أن الدول التي تستورد القطن طويل التيلة وتقوم بخلطه مع ألياف أخري، وتقوم باستغلال هذا لكتابة أن المنتج من “قطن مصري”. تم الاتفاق بين رجال الصناعة والأعمال و د. يوسف بطرس غالي (عندما كان وزيرا للتجارة الخارجية) علي فكرة “اللوجو” لحماية المنتج المصري في الخارج. لكن المشكلة من يحمي هذا اللوجو في الخارج من عمليات الغش المستمرة؟
هنا تبرز أهمية استيراد التكنولوجيا المتقدمة من الدول ذات الإنتاجية المرتفعة، لأن ذلك سيقلل من التكاليف ومن ثم سيزيد من تنافسية سعر القطن. في ظل التخلف الذي تعاني منها شركات كانت تعد من قبيل قلاع الصناعة المصرية في مجال صناعة الملابس الجاهزة والمنسوجات، نذكر منها: شركات كفر الدوار والمحلة الكبرى التي كانت قلعة الصناعة الوطنية، وخاصة صناعة الغزل والنسيج والملابس الجاهزة، التي تعاني حاليا من خسائر فادحة، نتيجة تخلف الماكينات المستخدمة، وغياب الصيانة الدورية، وعلميات التطوير والإحلال للماكينات. ومع التأكيد علي عدم تصدير القطن طويل التيلة خام، والقيام بتصنيعه وتصدير مصنعا، لزيادة القيمة المضافة الناتجة عنه.
ولن تكتمل هذه المنظومة إلا من خلال تعاون غرفة صناعة النسيج باتحاد الصناعات المصرية، مع لجنة الصناعة بجمعية رجال الأعمال المصريين وغيرها من تنظيمات رجال الأعمال والشركات العاملة في مجال صناعة الأقطان، لصياغة سياسة مقترحة واضحة المعالم تستهدف تطوير زراعة وصناعة الأقطان في مصر، يتم تنفيذها بالتعاون مع وزارتي الصناعة والزراعة من أجل التوصل إلي حلول وسط تحقق مصلحة الجميع.
* متخصص في دراسات الاقتصاد السياسي
باحث وصحفي