*فصل من رواية بعنوان “كما ينبغي لنهر” منعت من النشر في سوريا. اعتبروها تتحدث بلغة الرمز عن أحداث حماة شباط 82. نالت جائزة دائرة الثقافة في الشارقة للرواية عام 2002، يعاد نشرها عن الدار العربية للعلوم” الناشرون” بيروت.
*
نفدت المؤونة على كثرتها من البيوت، قلّ الزيت بعد أن استخدم للإنارة، اشتدت معارك النساء حول قبضة من البرغل، حول سكين ضائعة أو غطاء صوفي لطفل مريض، بينما كان شك الرجال ببعضهم على أشده. مضوا يفتشون عن طريقة ينجون فيها من هذا الحصار. كان عزرائيل ينام في فراشهم، يخطف ملعقة الطعام منهم، ألفوا وجوده، باتوا يبحثون عن طريقة يدفنون فيها موتاهم، من دون أن يبرحوا أماكنهم، حتى لا يصابوا برصاصة طائشة أو غير طائشة. غير أن أم راغب تململت من رائحة جثة ابنها ماسكة برأس ابنها المتبقي حياً في حضنها، فاتفقوا جميعاً على تحمل مسؤولية دفنه في حفرة على ضفة النهر.
كانت نخلة فطمة، رغم الصقيع، تنمو بعصبية واضحة طولاً وعرضاً، بأوراق متيبسة وخشنة.
كانوا يلتفون بالأغطية كي يمنعوا عنهم برد الأربعينية *، يصغون بانتباه إلى صوت عربة الخبز التي ترمي بالأرغفة على الأرض، يهبون من أماكنهم كي يختطفوا رغيفاً، يرسلون الصغار فيتشقلبون فوق بعضهم ويعودون باكين ممزقي الثياب يلتقطون أنفاسهم بصعوبة بالغة، عروقهم نافرة وشفاههم ترتجف من البرد والغضب مغبرة بالطحين وتراب الطريق، وهم يعلكون قطع الخبز التي استطاعوا أن يحصلوا عليها.
شبّت خلافات استمرت أعواماً بسبب قطعة من الخبز. لم يكن نصيب الواحد أكثر من لقيمات مغروزة بأظافر مدماة.
رغم الرعــب من الموت، أومن اغتصاب النساء، كانوا يخترعون النكات عن أبو شامة، ورجال أبو شامة، مؤخرة أخت أبو شامة. قد يدعم أحدهم معنوياتهم فيقول: يا جماعة، أبو شامة بالبراد.
حين صاح بهم رجال أبو شامة أن يخرجوا من الحارة جميعاً قبل قتلهم حاملين رايات بيضاء، حار كثيرون في إيجاد رمز أبيض مقنع، فمنهم من خلع قميصه الداخلي ومنهم من سحب غطاء مخدته ومن حمل منشفته ومنديله. أما مطيعة فقد وزعت على من بقي بلا راية، “حفاضات” ابنها، حملوها من دون احتجاج، وتراكضوا يتخاطفون الرموز قبل القتل شاتمين مطيعة لأنها لم تخط “حفاضات” كافية لمثل هذه الأيام.
صبراً، فلميا بعد ساعات ستصبح لميا المجنونة، تماماً عند الفجر.
باق في تنكة المازوت ليتر أو أقل، موضوعة خلف باب بيتها عند ركن الخطر مع منقل الفحم ووابور الكاز وكل ما تتوقع منه أن يؤذي طفلتها الشقية “سحورة “.
كانت لميا نائمة بعيون نصف مغلقة، ثديها مع طفلها، دفن زوجها رأسه وتنهيدته بين كتفيها خلف ظهرها. نامت طفلتها ابنة الثلاث سنوات نوماً عجيباً غريباً عند قدميها.
أغفت، من تعبها، لميا اليقظة دائماً، كذلك فعل زوجها المريض. لكن الطرق الشديد جعله، يقفز من شدة الخوف، ليفتح الباب. ركلوا قامته النحيلة، داسوا أرض الدار الإسمنتية السوداء، خطوتان، وجدتهم أمامها بشعارهم المعروف. سحبت ملاءتها وشدّتها عليها وعلى ابنها المتشبث بثديها. غضبت من الرضيع فرمته فوق ظهرها، لكنه ظل متشبثاً بكتفيها اللتين تحولتا شرفة لمراقبة الغرباء. نخزوا بالحراب الثياب المعلقة، دفعوا بأحذيتهم القاسية خف الطفلة البلاستيكي الأحمر والمقصوصة مقدمته، رفعوا الوسادة التي تحمل رأس الطفلة وفتشوا تحتها،لم يجدوا شيئاً، تركوها، هوى رأس سحورة، لكنها لم تستيقظ. كانت عينا أنس ترقبان كل شيء من شرفته التي هي كتفي أمه الملهوفة، تصعد وتهبط وتلملم وتسوي ما يخربه المقتحمون في بيتها الصغير. في غفلة منها، بسرعة الحقد، أمسك أحدهم تنكة المازوت المتبقي من خلف باب بيتها وسكبها على كل شيء. أما لميا المأخوذة فقد سحبت وسادة زواجها، بدل سحورة التي لم تستيقظ، رغم كل الصخب، من غفوتها المطمئنة عند قدمي أمها، ولن تسمح لأي سبب بسحب السكينة منها.
لذلك تفحمت سحورة.
فوجئت لميا في ركضها بحملها الوسادة على صدرها بدل الطفلة. الطفل الصامت “أنس” في يد والوسادة في اليد الأخرى، وقفت على الجسر، وقررت أن ترمي الوسادة التي خدعتها.
لكنها بدل أن ترمي الوسادة رمت الطفل.
وجدت لميا نفسها بدون أعباء، بلا طفليها، بلا زوجها، ثم بلا عقل.
“لميا، يا لميا، أتذكرين زوجك الفقير حارس إصطبلات الخيول لأغنياء الضفة الثانية؟ حين كان يوجد خيول. أتذكرين طفليك، سحّورة بنت الثلاث سنوات وأنس ابن الثلاثة أشهر؟ أتذكرين أرض دارك الإسمنتية اللامعة المغسولة في عصرونية الصيف، وبرميل الغسيل الذي كنت تغلين فيه خرق طفلك؟”
لميا كانت كالنحلة، تقطع الجسر في اليوم الواحد عشرات المرات، تدفع أي باب بدون تكلّف، تضع خفها تحت أول شجرة، وملاءتها فوق أول غصن، تغسل يديها ووجهها ورقبتها، ترتب ما حولها وتلملم بيديها كل ما تجده في طريقها، تسقي الأحواض على عجل، تشوي الباذنجان، تقطف الملوخية، وتقلي البطاطا لعشاء الأطفال المدللين، تهرع إليها دجاجات البيت والأطفال، تسليهم، بيديها، بلسانها، بقدميها، يلحقون طرف ثوبها. تثرثر مع الجميع، ولا تكف، وإن لم تجد أحداً تثرثر معه، فسوف تغني. قد تجد أمامها صندوق فاكهة، تتناول واحدة تمسحها بصدر ثوبها، وتأكلها على تعبها مواصلة ثرثرتها، وعندما تصادف شيئاً مجهولاً، مسجلة حديثة أو آلة كهربائية فإنها تضحك ساخرة من جهلها معتذرة من كل من حولها. لا تسأل أحداً ماذا يحتاج؟ فهي تعرف ما يحتاجه الجميع، ولا أحد يعرف ما تحتاجه لميا، اللهم إلا حاجتها لتأمين حاجاتهم.
احترق بيتها، ثم انهار مع بيوت الضفة الثانية، وغاب زوجها مع من غابوا، ورمت الوسادة من حضنها. رأت حارس الطاحونة يتحول إلى قط ليلي ورأت حارتها والضفة الثانية كلها ركاماً.
دخلت الملجأ في الضفة الأولى بجانب باب النهر الكبير، هناك كانت النساء مكومات والأطفال صرعى. رأت بطن أم العز المقتولة، يتحرك. كانت أم العز على وشك الولادة، حين قتلوها.
جلست لميا على الأرض التصقت برحم المرأة حامل الطفل العنيد، وضعت خدها على البطن ثم أذنها وكفها، كانت حرارتها رغم البرد الشديد والموت تجعل كل شيء يغلي. غنت للبطن المتحرك، نامت دقائق ثم استيقظت، أخذت غطاء صوفياً عن أحد الموتى المكومين حولها، وغطت البطن المتحرك، لكن الحمى شديدة، لا بد أن الطفل قد اختنق في بيته: رحم أمه. ظلت ثلاثة أيام تغطي البطن حين تبرد، وتكشفه حين تشعر بالحر، ذاهلة عن سحورة وأنس، إلى أن كف البطن عن الحركة، وأدركت أن الجنين مات أيضاً. وأن الجنة خلال أيام امتلأت بأطفال الحارة.
ـ كان يا ما كان، كان هناك لميا عاقلة، وثلاثة أطفال، لا، طفلان وزوج. كان زوجها كالحمَل يرتدي بنطالاً رقيقاً وعريضاً ينظف البيوت ويطعم الخيول المتبقية. أطعمت لميا من يديها كل البيوت، كوسا بالبندورة وعرايس زعتر ومغمومة. كانت تحوش الخبيزة بيديها، وتغطي الطفل النائم، تحقن بحقنة الماء الطفل الذي يعاني من الإمساك وتدهن بطنه بالزيت. إن صادفت في سعيها على الجسر الأطفال يسبحون، فسوف تتناولهم، تجفف بطرف ثوبها وجوههم وأعناقهم الرقيقة، تمص الماء من آذانهم، تسوي غرّتهم ثم تضربهم على مؤخراتهم مداعبة: “عالبيت” رأساً.
لم تكن تنظر في كفها إن أعطوها مالاً، بل تكتفي بتمتمات خجولة، ولم تكن تطيل الجلوس في بيتها إلا للنوم أومداعبة الحمل، زوجها، طفلها.
كانت بيوت تلك المنطقة متطاولة، أسقفها قبب تعلوها أهلّة أو أسقفها من قرميد، نوافذها متقاربة وشرفاتها صغيرة وخجولة وقريبة. واجهتها من أحجار كتيمة تتخللها نوافذ ضيقة وعالية. في الطبقة الأولى إسطبلات الخيل، حين كان الفرسان يعرفون كيف تُروّض الخيول وكيف يعتلونها، يغنون معيّرين وزير الفرنسيين بحاله، يغنون للصبية بثقة الرجولة وتوق عال للأنوثة المتخفية وراء النوافذ.
هناك، بعد الجسر الصغير، كانت الشرفات تتقدم البناء لتطل على النهر، تكاد أن تلتقي شرفة فطمة طالبة عفو النهر، الذي لا تستطيع تجاوزه فهو، رغم هدوئه، كان يوماً يفور فوراناً شديداً مخيفاً.
كأن الشمس تشرق من أجل هذه البيوت فقط، تضيء الواجهات، ثم ترتد إلى الشرفات المقابلة، فتشكل لوحات حيرت فناني الضفتين الذين تباروا في تصويرها. كان من يسكن هذه البيوت يدعو الناس أن يصدقوا أن شمسه مختلفة في شروقها وغروبها، فالشمس تشرق عليها أولاً، بشعاع مضيئ بدون حرارة، ترمي بضفيرتها باكراً لتلمس الخد بضربة خفيفة، توقظه، وتتبختر في كل زوايا البيت، وقبل المغيب ترحل قاصدة التأخر.
هناك كان بيت أهل لميا المجنونة، التي لم تكن مجنونة، محشوراً بين بيوت كبيرة، ولا يبدو ناتئاً، هم أهل حارة واحدة، الأبواب كلها مفتوحة، فلا فرق إن كانت أسقف البيوت قرميدية مزينة من الداخل بطبقات خشبية معقدة في زخرفتها وفخامتها وتلوينها الفستقي والزهري والأزرق الفاتح، وبين سقف “سادة”. لا فرق بين أرض مرمرية وأرض إسمنتية سوداء تلمع بعد الغسل عصراً. لا فرق بين خياط وبين صاحب ضيعة، ربما كانت هناك فروق، لكن اليوم وبعد أن هُدمتْ كلها وصارت دارسة خواء فقد تذكروها. تذكروا جمالها فقط.
أمر رجال أبو شامة ببناء مركز “الخلية الذكية” للاتصالات مكان تلك البيوت، وأمر أن ينصب عمود عال، وتعلق لوحة كهربائية هائلة تحمل إعلانات ضوئية متناوبة تحتل سطح النهر حين تنعكس فيه. انتشر رجاله في كل مكان، وانتصر أبو شامة.
لميا المجنونة مازالت تركض، تروح وتجيء على الجسر بين الضفتين حاملة صرة، الله وحده يعلم ما بداخلها، تقطع الجسر، تبصق على اللافتة وعلى النهر، ثم تعود إلى مصطبة بيت فطمة كي تسترد أنفاسها.
*أربعون يوماً بارداً من الشتاء، تبدأ في كانون الأول وتنتهي في شهر شباط
sarraj15@hotmail.com
* كاتبة سورية- استوكهولم