يستأهل لبنان الزمن الجميل، زمن ما قبل 1975 وزمن رفيق الحريري الذي عمل على استعادة الزمن الجميل، اعتذاراً. من أجمل الاعتذارات ذلك الصادر عن كريم مروّة ابن الجنوب ونجل كامل مروّة شهيد الصحافة اللبنانية الذي اغتيل في العام 1966. تحدّث كريم كامل مروّة في مقال له صدر حديثاً، بكلّ نبل وصدق وإنصاف، عن “إنكار مجحف لفضل لبنان الكبير على الشيعة”.
لا يستأهل لبنان بالتأكيد السعي إلى الانتصار عليه بديلاً من الانتصار على إسرائيل، كما يفعل الحزب و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي تقف خلفه. يستأهل لبنان كلاماً من نوع ذلك الصادر عن مهندس عرف قيمة لبنان بعدما عمل فيه وخارجه.
الكل أساء إلى لبنان
لم توجد طائفة في لبنان لم تُسىء إلى لبنان. تناوب المسيئون على البلد الذي احتضن الجميع وحماهم ووفّر لهم البحبوحة والعلم والمعرفة كي يكونوا على تماسّ مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. ثمّة بين زعماء هذه الطوائف اللبنانيّة، من السُّنّة والشيعة والمسيحيين والدروز، من اعتذر، وثمّة من لم يعتذر، بل يصرّ على التنكّر للبنان.
في مرحلة معيّنة، لعب السُّنّة دوراً محورياً في تدمير الصيغة اللبنانيّة، خصوصاً في أيّام صعود الناصريّة وصولاً إلى الضغط في اتجاه توقيع اتفاق القاهرة في عام 1969. كان ذلك بغطاء من الزعيم الدرزي كمال جنبلاط وفي ظلّ تخاذل مسيحي في ضوء طموح كلّ زعيم من الزعماء المسيحيين، باستثناء العميد ريمون إدّه، إلى الوصول إلى موقع رئيس الجمهوريّة. استفاق السُّنّة على “لبنان أوّلاً” متأخّرين.
بقي الشيعة في معظم الأحيان عند موقف عاقل بعدما استشعر زعماؤهم الخطر المحدق بلبنان في ظلّ دولة لم تدرك البعد الخطير للتنازل عن السيادة على جزء من أرض الجنوب ووضعها في تصرّف منظمة التحرير الفلسطينية. لم تدرك منظمة التحرير بفصائلها المختلفة، أنّها صارت من حيث تدري أو لا تدري رهينة لدى النظام السوري. كان النظام السوري يصرّ بلسان حافظ الأسد على أنّ “القرار الفلسطيني المستقلّ مجرّد بدعة”. استخدم النظام السوري الفلسطينيين إلى أبعد حدود، قبل أن يستخدم الشيعة في تدمير ممنهج للبنان ومؤسّساته بغية توجيه رسالة إلى العالم. فحوى تلك الرسالة أنّه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة من الناقورة في أقصى الجنوب اللبناني… إلى العقبة في الأردن.
خارطة التوازنات تغيّرت
مع انخراط الشيعة، كمقاتلين عند الآخرين، في الحرب الأهليّة اللبنانية بعد عام 1975، ومع بدء التدخّل الإيراني المباشر في شؤون لبنان ابتداء من عام 1982 عندما وصلت طلائع “الحرس الثوري” إلى بعلبك عن طريق الأراضي السوريّة، تغيّرت خريطة التوازنات على الأرض اللبنانية. ما يزال العمل مستمرّاً على قدم وساق من أجل زيادة الهوّة القائمة بين الشيعة واللبنانيين الآخرين، خصوصاً بعدما اغتيل رفيق الحريري بكلّ ما كان يرمز إليه من عودة للبنان وإلى موقعه على خريطة المنطقة. ليست شهادة كريم كامل مروّة سوى تأكيد لوجود شيعة يؤمنون بلبنان ويرفضون التبعية لإيران. هناك رجل أراد أن يكون منصفاً وأن يقول كلمة حقّ لا أكثر. لذلك كتب، وكأنّه يكتب للتاريخ: “الحرمان عند الشيعة ونغمة بدن يردّونا مسّاحي أحذية إنكار مجحف لفضل لبنان الكبير على الشيعة، هذا الكيان الذي أعطاهم ما لم يحصلوا عليه خلال 500 عام من الحكم العثماني و250 عاماً من الحكم المملوكي. دخل شيعة جبل عامل والبقاع الكيان اللبناني عام 1920 وأكثرهم في فقر مدقع وأمّيّة تامّة ورهاب تاريخي من الاضطهاد.
ذلك أنّ سلاطين المسلمين منذ أيام المماليك اعتبروا الشيعة خارجين عن الدين وفتكوا بهم بلا رحمة. مذابح الشيعة عبر العصور كثيرة وامتدّت إلى كلّ أنحاء الشرق من جبيل وكسروان إلى طرابلس وحلب وإلى البصرة والنجف وغيرها. ومجزرة جبل عامل عام 1781 أيام العثمانيين، وما رافقها من تخريب لقراه، سبقت مذابح المسيحيين في جبل لبنان ودمشق عام 1860. وكلّ ذلك محفور في ذاكرتهم الجماعية. دخول الشيعة لبنان الكبير شكّل إلى حدّ كبير انعتاقاً من الظلم. الانتداب الفرنسي تبنّى سياسة تقوية الأقلّيات منذ اليوم الأول لكسر شوكة الأكثرية السنّية في لبنان وسوريا. واستفاد الشيعة من هذه السياسة، فدخلوا نادي الطوائف في لبنان وسُمح لهم بإنشاء محكمة جعفرية رسمية للمرّة الأولى في تاريخهم. وساهمت المدارس الابتدائية الرسمية الناشئة في محو الأمّية لدى أجيالهم الطالعة. ووصلت مشاريع الإنفراستراكتشر (البنية التحتيّة) إلى مناطقهم في الجنوب والبقاع. وتضاعفت الهجرة إلى المستعمرات الفرنسية في إفريقيا الغربية حيث راكم الكثير منهم ثروات. وفي عهد الاستقلال تواصل الإنماء ولو بشكل غير متوازن. لكنّه كان موجوداً ووفّر فرصاً اقتصادية للكثيرين: من مصفاة النفط في الزهراني إلى مشروع ريّ القاسمية (الذي سمح بتمدّد بساتين الحمضيّات على كامل الساحل الجنوبي) إلى بحيرة القرعون وصولاً إلى محطّة توليد الكهرباء على نهر الأوّلي وغيرها. وللتاريخ فإنّ جميع هذه المشاريع الإنمائية كانت، يا للهول، بتمويل من الولايات المتحدة الأميركية (…) الحرمان والادّعاء أنّ هناك مؤامرة لردّ الشيعة ماسحي أحذية، ما هما إلا جحود ونكران للاحتضان الوطني الذي نعم به شيعة لبنان بعد 1920. تخويف الشيعة من هذا المآل هو للتعمية. إنّه كلام مخزٍ هدفه التغطية على خوف آخر… خوف أولي الأمر من تراخي العصبيّة التي غذّوها بسرديّتهم المجتزأة، والتي يستنهضونها في كلّ مناسبة حتى تبقى قبضتهم مُحكمة على لبنان وعلى الطائفة.
هذا الكلام صادر عن مثقف شيعي في منتصف العمر عرف لبنان عن كثب وعرف زمنه الجميل ليس عيباً.. القيام بعمليات نقد للذات ليس عيباً. وحدهم الرجال الكبار يعرفون أنّ المطلوب الاعتذار من لبنان، الذي له فضل على كلّ اللبنانيين، بدل الانتصار عليه في خدمة مشروع إيراني ذي نفَس مذهبي دمّر إيران قبل أن يدمّر لبنان…
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@
ذهب فاروق عيتاني بعيدا. فلا كريم قدم بحثا تاريخيا عن تاريخ الشيعة السياسي ولا خير الله في هذا الوارد اصلا.
أعتقد أن الصديق طلال لم “ينتبه” إلى المقطع الأول من مقال خيرالله خيرالله، الذي صحّح خطأ لا نتحمّل نحن مسؤوليته!!
خير الله خيرالله يردد الاسطوانة المشروخة نفسها عن مظلومية الشيعة التاريخية.مثلا في النصف الثاني من القرن 15 كان التحالف بين المماليك و شيعة لبنان في أوجه فتعاونا معا على دعم إسماعيل الصفوي للوقوف بوجه التمدد العثماني، فدفعوا الثمن.في العراق خلال القرن 18التحقوا بنادر شاه. إشكالية الشيعة الاساسية هي في اعتبار السياسة تخضع للدين
كريم مروة من المثقفين والمناضلين القلائل الذين اعملوا سلاح النقد في تحاربهم وافكارهم وتاريخهم النضالي بكل شجاعة قبل ان ينتقدوا الآخرين.
وهو من المخضرمين القلائل الدين زرعوا ساحات ١٧ تشرين الشبابية حبا وكرامة، بما فيها الساحة الطرابلسية التي اتاها مرارا مع الزميل الحبيب الياس خوري الذي نتمنى له الشفاء واخرين من مناضلين ومثقفين من الجنوب والشبعة عموما.