ينتهي العام 2008 وإيران تتهيأ لخطوة مصيرية في تاريخها الحديث بعد نجاح مراهنتها السياسية على نجاح المرشح الديموقراطي باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الأميركية وخروج جورج دبليو بوش من البيت الأبيض، وهو ما يعني تراجع خيار الضربة العسكرية لإيران. مما يؤسس لإمكان واقعي لفتح الأبواب أمام مفاوضات أميركية- إيرانية، تشرع وتقنن – كما ترغب طهران – دورها الإقليمي في المنطقة.
وكانت فرص الحل العسكري للصراع الأميركي-الإيراني قائمة بشدة حتى الأيام الأخيرة من السنة المنقضية بوجود إدارة بوش في عامها الأخير في مواقع السلطة، وهي الإدارة الإيديولوجية التي اعتبرت إيران “محوراً للشر” يجب مواجهته بكل السبل. وبالرغم من أن القوة العسكرية الراهنة للولايات المتحدة هي الأعظم في التاريخ، إلا أن شن الحرب على إيران لا يتوقف بالأساس على التوجه الإيديولوجي للإدارة، أو القدرات العسكرية بقدر ما يتوقف على أوراق إيران الردعية. والأخيرة تتكون من خليط الإمكانات الذاتية والموقع الجغرافي والامتداد السياسي والطائفي في دول الجوار، معطوفة على إخفاقات الإدارة الأميركية في العراق.
وتمثل الدرس الأساس للإدارة الأميركية من تجربة العراق في ان اطاحة نظام صدام حسين أتاحت الفرصة لإيران الأضخم مساحة والأوفر سكانياً كي تتمدد في العراق كما لم تفعل من قبل، مكرسة اختلالا في التوازنات ارتد سلباً على واشنطن ومصالحها في المنطقة. وبخلاف ورقة التحكم في مضيق هرمز الذي يمر منه 40% من نفط العالم، تحتفظ إيران بأوراق إقليمية ممتازة في العراق وأفغانستان ولبنان بشكل يمكنها من امتلاك غالبية مفاتيح التصعيد والتهدئة في هذه المناطق.
تطل إيران أيضاً على آبار النفط العربية في مياه الخليج وعلى الضفة الشرقية لشبه الجزيرة العربية، ويمكنها استهداف هذه المناطق الإستراتيجية بصواريخها القصيرة المدى وبسهولة نسبية. وبالرغم من القيمة الفائقة للأوراق الإيرانية إلا أن المتفحص يجد أنها أوراق ردع في الأساس، بمعنى أن استخدام إيران لها يرتبط نظرياً باشتعال السيناريو العسكري ضدها، ولا يمكن تصور أن إيران ستكون البادئة باستخدام هذه الأوراق للضغط على واشنطن، بسبب طبيعتها المحدودة. وبسبب تلك الطبيعة تحديداً عمدت إيران طوال 2008 إلى إظهار قدراتها في مناسبات وأماكن مختلفة، ومن ثم التلويح والتذكير بها دون استخدامها جدياً، جرياً على منطق الصراع القائل إن التهديد بالردع يعتبر أقوى من الردع ذاته. ويعكس الانضباط الإعلامي والوضوح الاستراتيجي وعي إيران بالحدود المكانية والزمنية للصراعات، وإدارتها بشكل يمكن طهران من ضبطها على قياس إستراتيجية مفاوضيها. لذلك تعد أوراق إيران القوية بالإضافة إلى طريقة إدارتها هذه الأوراق في السياقات الإقليمية المتغيرة، وحرفيتها العالية في تمييز الطبيعة الصراعية المحدودة لها، مفتاحاً ومدخلاً لإنجاز تفاهمات في العمق مع القطب الدولي الأوحد من موقع القوة الإقليمية؛ وليس الاشتباك معه من موقع إيديولوجي. وبسبب تقاطع والتقاء المصالح الاميركي والإيرانية في أكثر من موضع لا يبدو التصعيد العسكري يخدم مصلحة أي من الطرفين.
انتخابات البرلمان
شهدت إيران في العام المنصرم أحداث داخلية مهمة منها انتخابات البرلمان الثامنة التي جرت في شهر آذار، ثم تولي علي لاريجاني منصب رئيس البرلمان خلفاً لغلام علي حداد عادل. وكانت الانتخابات قد شهدت تنافساً بين اصطفافين وليس معسكرين: الأول يضم “ياران خاتمي” أو تحالف خاتمي تحت قيادة “حزب جبهة المشاركة” أكبر الأحزاب الإصلاحية في إيران وزعيمه محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس السابق خاتمي، ومعه “حزب الاعتماد الوطني” القريب من رئيس البرلمان السابق مهدي كروبي، و”منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية” و”كوادر البناء” القريبة من الشيخ هاشمي رفسنجاني أحد مفاتيح صنع القرار في إيران. وضم الاصطفاف الثاني التيار الأصولي المتشدد ممثلاً بـ”جبهة الأصوليين المتحدة” الداعمة للرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد، و”جبهة الأصوليين الموسعة” المتمثلين في السياسة الإيرانية برموز معروفة مثل علي لاريجاني السكرتير السابق لمجلس الأمن القومي الإيراني، ومحمد باقر قاليباف محافظ طهران ومحسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري. ويلاحظ أن الحملة الانتخابية للفريق الأخير ركزت على الإخفاقات الاقتصادية للرئيس نجاد مثل ارتفاع نسبة التضخم والبطالة، وبشكل سحب أصوات مهمة ومؤثرة من فريق نجاد. أشارت نتائج الانتخابات البرلمانية الثامنة الى أن التحدي الحقيقي لسلطة الرئيس نجاد وتياره يأتي من علي لاريجاني ومعه رموز المحافظين البراغماتيين، وليس من الإصلاحيين. كما يعني ذلك أن تقاسم السلطة الإيرانية بين مؤسسة رجال الدين والمؤسسة العسكرية ممثلة بالحرس الثوري يشهد الآن تنافساً واضحاً بينهما، ليس لإنهاء هذا التحالف الذي يشكل الأرضية الاقتصادية-الاجتماعية للنظام الإيراني، بل بهدف تعديل حصص كل طرف فيه. ومن شأن هذه الجدلية: الوحدة على أرضية الانتماء للمحافظين والولاء للدولة والمرشد، بالترافق مع الصراع على حصص كل طرف في كعكة السلطة، أن تطبع الحراك السياسي في البرلمان بطابعها. من وقتها تمت إعادة توجيه الاستقطاب السياسي الجاري في إيران من أقصى اليمين كما هو الحال في البرلمان السابق إلى الوسط ويمين الوسط.
الملف النووي
ينهض الملف النووي الإيراني والأزمة الدائرة عليه مع الولايات المتحدة الأميركية وكيلاً عن مطالب أخرى للطرفين، إذ يجسد الملف النووي الطموح الإيراني للزعامة الإقليمية، في حين اعتبر الملف نفسه المدخل الرئيس لاستهداف النظام الإيراني من طرف الإدارة المنقضية ولايتها في واشنطن. وشهد العام الماضي زيارة جديدة لخافيير سولانا إلى طهران اعادت تقويم “سلة المزايا” الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية إلى إيران مرة أخرى لقاء التوقف عن تخصيب الاورانيوم، وهو ما رفضته إيران بلباقة.
بدت البراعة الديبلوماسية الإيرانية واضحة في طريقة رفض عرض سولانا، فطهران لم تعلن على الطريقة العربية أن العرض “لا يساوي الحبر الذي كتب به”. كما لم تعلن رفضها استقبال سولانا مع أنها تعلم – على الأرجح – ان مهمته تصب من البداية في غير مصلحتها، بل واجهته بحزمة اقتراحات مقابلة لنزع المبادأة التفاوضية والديبلوماسية منه. ولأن مطالب ومقتضيات “سلة المزايا” التي حملها قامت بالأساس على مبدأ تخلي إيران عن امتلاك دورة الوقود النووي، باعتباره المدخل الوحيد القادر على ضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني بشكل نهائي، فقد جاء الرد الإيراني “إيرانياً” بامتياز. وارب الرد الإيراني الباب ولم يغلقه، ولكنه لم يفقد بأي حال التمييز بين الأهداف الرئيسة والثانوية. كان طبيعياً ألا توافق إيران على المطالب الأميركية والدولية القاضية بوقف التخصيب أثناء التفاوض، حتى تضع الأطراف الدولية المفاوضة تحت ضغط “عامل الوقت” الذي يعمل حتى الآن في مصلحة طهران المستمرة بالتخصيب. ومن وجه آخر يعد إيقاف التخصيب بمثابة “الجائزة” التي ستقدمها إيران للدول الست في مقابل ما تضمنته “سلة مزاياها”، ولكن بعد مفاوضات تحدد طبيعة وملامح هذه المميزات وما ستجنيه طهران مقابل ملفها النووي.
وتقديم “الجائزة” قبل التفاوض، أو إيقاف التخصيب قبل الحصول على المزايا، أمر لا يليق بالمفاوض المتمرس. كما أن إيقاف التخصيب أثناء المفاوضات سيضع إيران في حالة “هزيمة تفاوضية” ستمتد إلى باقي الجبهات الإقليمية والداخلية، وهو ما كان سيؤدي إلى إحكام الحصار على النظام السياسي الإيراني داخلياً وإقليمياً. وأكد الرد الإيراني الرافض سلة سولانا أن طهران اعتقدت –عن حق- بعدم تطابق العرض مع الأمر الواقع الذي فرضته عبر تخصيب الاورانيوم ووصول عدد أجهزة الطرد المركزي إلى خمسة آلاف جهاز بنهاية العام المنصرم 2008.
توقعات 2009
شكل فوز علي لاريجاني برئاسة البرلمان خطوة تعزز فرصه بالترشح لرئاسة الجمهورية في 2009 وفي مواجهة نجاد. كما رتبت نتيجة انتخابات البرلمان الإيراني الثامن نتائج داخلية أبرزها أن “المحافظين البراغماتيين” ربما يتقدمون لشغل موقع “الإصلاحيين” كالجناح الثاني للنظام لاحقاً، في حين سيتوارى رموز التيار الإصلاحي من بؤرة المشهد السياسي الإيراني. أما على الصعيد الاقتصادي فمن شأن انخفاض سعر برميل النفط في السوق العالمية أن يقلص العائدات الإيرانية، وبالشكل الذي يحد من هامش المناورة في الداخل لحكومة نجاد، وهو ما سيمنعه من تنفيذ برامج اقتصادية لشراء رضا الشرائح الاقتصادية الفقيرة في إيران.
على الصعيد الخارجي يتوقع أن تجرى مفاوضات بين واشنطن وطهران للحديث عن الملفات العالقة، ولكن دون أن تحظى إيران بما تراهن عليه من قبول أميركي بدورها الإقليمي دفعة واحدة، ومرد ذلك أن إدارة أوباما لا تتشاطر الأفكار المؤسسة لشكل المنطقة مع حكومة طهران. وإن كانت إدارة أوباما تتمتع ببعد نظر وواقعية سياسية –على عكس إدارة بوش-، فإن هذا لا يعني بالضرورة التسليم لإيران بما تطمح إليه دونما نظر إلى مصالح وضغوط اللوبي الصهيوني واللوبي السعودي في واشنطن. وإذا كانت النخبة السياسية الإيرانية تتندر وتتفاءل بالصدف الكامنة في اسم الرئيس الأميركي الجديد (أو-با-ما) الذي يعني بالفارسية: هو معنا، فإنها تعلم على الأرجح أن الجلوس الى مائدة المفاوضات مع واشنطن لن يتحقق في ظل رئاسة الرئيس الإيراني الحالي محمود أحمدي نجاد. النتيجة المنطقية لانتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة تقول إن الثنائي بوش-نجاد هو الخاسر الأكبر من وصول أوباما إلى البيت الأبيض الأميركي، وليس بوش فقط. تأسيساً على ذلك فمن الممكن أن تشهد 2009 انتخابات رئاسية في إيران لا يترشح لها الرئيس نجاد، ليفتح الباب أمام فوز مرشح من تيار المحافظين البراغماتيين الغالب في الدولة الإيرانية (علي لاريجاني رئيس البرلمان أو باقر قاليباف محافظ طهران) للحوار مع أوباما. يفتح العام الجديد فرصاً أمام إيران لتحقيق أهدافها التفاوضية وتحسين صورتها الدولية، ولكنه يضع أخطاراً أيضاً أمامها في حال لم تحسن طهران التعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة وبشكل يرسخ صورتها السلبية في المنطقة. تتنازع صورتان إيران: الأولى “الضامنة للاستقرار” والتي تريدها إيران لنفسها، والثانية “الدولة المشاغبة” المرسومة لها في الغرب، والنتيجة سيحسمها السلوك الإيراني حيال إدارة أوباما في العام الجديد.
* القاهرة