المقابلة التي أجرتها جريدة “حريات” التركية مع وزير الخارجية السابق “يشار ياكيش”، وسفير تركيا الأسبق في مصر (المقابلة بالإنكليزية على الرابط التالي) مدهشة بقدر ما هي جديرة بالقراءة. فالسيد ياكيش ليس سياسياً “ليبرالياً” بل هو أحد مؤسسي “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا وهو واحد من ٦ أشخاص كتبوا برنامج الحزب الإسلامي التركي. وهو يبدي امتنانه لـ”العلمانية” التي أوصلت حزبه إلى السلطة وجعلت على “مسافة بعيدة” أمام أحزب الإسلام السياسي العربية! وهو ينتقد ليس الإخوان المسلمين وحدهم بل معظم الأحزاب المصرية حينما يأسف لأن الجيش المصري لم يقم بإلغاء مادة الشريعة من الدستور بعد سقوط مبارك :”لو كان المصريون تبنّوا دستوراً علمانياً، لكانوا قد وصلوا إلى نقطة أخرى عما هم عليه حالياً”!!
ويظهر كلام السيد “يشار ياكيش” كيف استخدم “إصلاحيو” الإسلام السياسي التركي مبدأ “رياضة الجودو”، أي الإستفادة من قوة الخصم واندفاعه (والخصم هنا كان “العلمانية” التي ينص عليها الدستور التركي) للوصول إلى السلطة! فأعلن إسلاميو تركيا ولاءهم للدستور “العلماني”، بدفع من الرئيس الحالي عبدالله غول، في حين يغرق الإسلاميون العرب في لفظية بدائية لا تظهر أحياناً حتى “الفائدة العملية” لها! فماذا يعني مثلاً الإصرار على أن “دين الدولة هو الإسلام”، باستثناء الإشارة “الطريفة” التالية الواردة في الويكيبيديا مثلاً: “محمد حسني السيد مبارك وشهرته حسني مبارك”! وقبله “محمد أنور السادات وشهرته أنور السادات”!! (وبموجبها يصبح جمال عبد الناصر.. قبطياً؟)!، أو الإصرار على أن يكون رئيس الدولة مسلماً! فهل يخشى الإخوان المسلمون والسلفيون المصريون، مثلاً، أن يصوّت ٨٠ مليون سنّي مصري لانتخاب “قبطي” رئيساً لمصر؟ (حول الكوارث التي تسبّب بها نص “دين الدولة الإسلام” أنظر ما قاله طه حسين في النص المنشور على الشفاف). ويدخل في إطار “بدائية” أو غباء الإسلام السياسي العربي القانون الذي شرّعه البرلمان الكويتي السابق ورفضه أمير البلاد، وبموجبه يُحكَم على غير المسلم الذي يسيء لما يسمى “الذات الإلهية” بالسجن ١٠ سنوات مقابل الإعدام.. للمسلم! وهذا، بالحد الأدنى، يلغي مبدأ “المساواة” بين المواطنين!
وتتضمن مقابلة السيد “يشار ياكيش” إشارة مهمة إلى مسألة “الحجاب” التي اكتشف عبدالله غول ورفاقه أنها، رغم النقاشات الحامية حولها، لم تكن موضوعاً أساسياً بالنسبة للناخب التركي الذي كان همّه الأول هو “البطالة” و”الأمن” وليس تحجيب المرأة (أو حتى “تحجيب أبو الهول!).
وتعزّز مقابلة وزير خارجية تركيا “الإسلامي” السابق الإنطباع الذي تولّد من حديث الرئيس عبدالله غول (من الواضح أن “يشار ياكيش” أقرب إلى عبدالله غول، وأن موقفه “نقدي” من طيب إردوغان ونزعته السلطوية) يوم أمس مع السفير المصري في أنقرة: وهو أن تركيا “احتجت” على “الإنقلاب” لكنها تعتبر أن “ما حصل قد حصل”! واستطراداً، فإن موقف “حزب العدالة والتنمية” التركي سيكون، على الأرجح، باتجاه دفع الإخوان المسلمين المصريين إلى إجراء “مراجعة ذاتية” وليس باتجاه دفعهم إلى الصدام مع الجيش المصري. ولكن ذلك يفترض وجود “إصلاحيين” داخل الإخوان المسلمين المصريين. وذلك ليس مؤكدا على الإطلاق!
هنالك نقطة وحيدة يبدو لنا أن السيد “يشار ياكيش” يخطئ حولها (بسبب إيديولوجيته الإسلامية) وهي ربط موقف الغرب من “الإنقلاب” الذي حصل في يوم ٣ تموز/يوليو (وبرأينا، فهو “إنقلاب”..) بالحرص على الأقباط وإسرائيل. فليس في السياسات الأميركية أو الأوروبية ما يشير إلى مثل هذا الحرص على الأقباط، مثلما لم يظهر ما يشير إلى حرص كبير على المسيحيين العراقيين الذين تعرضوا لما يقارب الإبادة الجماعية.. بوجود نصف مليون جندي اميركي! أما عن إسرائيل، فلم تنم عن أي تبرّم علني بسياسات الرئيس المعزول، محمد مرسي، الذي خاطب رئيس إسرائيل بلقب “صديقي العزيز” (لأسباب بروتوكولية .. طبعاً!).
بيار عقل
*
<img3970|center>
ما رأيك بالنقاشات الدائرة حول إطلاق صفة ”الإنقلاب” على ما حدث في مصر؟
ليس هنالك شك في إنه كان انقلاباً. إن كل بلد يقيّم الأحداث وفقاً لمصالحه القومية. وهذا ينطبق على الولايات المتحدة وعلى بلدان أوروبا. وأنا أظن أن النفور من الإسلام كان عاملاً مهما في التقييم الذي قامت به تلك البلدان.
إذا، فإن الطابع الإسلامي لـ”الإخوان المسلمين” لم يخدمهم؟
لم يخدمهم لأن الغرب لم يكن مرتاحاً لوصول الإسلام السياسي إلى السلطة. في مصر، الغرب يهمه مصير الأقباط وأمن إسرائيل. وفي ضوء هذين العاملين، فإنه لا يناسبهم أن يكون الإخوان المسلمون في السلطة!!
ماذا تجيب حينما يُطلَب منك مقارنة الإسلام السياسي في تركيا بالإسلام السياسي بلدان المنطقة الأخرى؟
كان “حزب الفضيلة”، الذي تفرّع عنه “حزب العدالة والتنمية” (الحاكم حالياً في تركيا) منقسماً إلى إصلاحيين ومحافظين. ومنذ تلك الحقبة برز منحى مختلف في تركيا. فقال السيد عبدالله غول (رئيس جمهورية تركيا حالياً): “لا نستطيع أن نحقّق شيئاً إذا حاربنا النظام العلماني. حينما نبدأ بالعمل من داخل البرلمان فعلينا أن نقول أننا سنظل أوفياء لنظام تركيا العلماني.”. وأصبحت كلماته هذه هي الخط الموجّه للحزب. إن “حزب العدالة والتنمية” هو نتاج ذلك القرار. ومن الواضح أن الحزب بات أقوى. إن السلطة تُفسِد، والسلطة المطلقة تُفسِد بصورة مطلقة. وحينما نبدأ بالشعور بأننا بتنا أقوى في السلطة، فإننا نسعى للتصرف مثل لاعب قوي الامر الذي يمكن أن يدفع العديد من الناس للنظر إلينا كتهديد.
إذاً أنت تعتقد أن الفارق الرئيسي بين تركيا والشرق الأوسط هو أن الإسلام السياسي يتجنّب الإصطدام مع النظام؟
حينما نجري مقارنات، فإن بوسعنا أن نقول أن بعض التطورات في تركيا يمكن أن تشكل نموذجاً تستوحيه بلدان الشرق الأوسط. وأحد هذه التطورات هو التحوّل الذي طرأ على “حزب العدالة والتنمية”. ولو قامت أحزاب الإسلام السياسي (العربية) بتحوّل مشابه، فلربما كان وضعها الآن مشابهاً للوضع في تركيا.
إذا نظرت الآن إلى شوارع مصر، فستجدين نمط حياة علمانياً. إن مصر مجتمع متحرر. في تركيا لا يمكن سن قانون إستناداً إلى الدين في حين أنه كانت هنالك مادة في الدستور المصري تنص على أنه لا يجوز سن قانون يتعارض مع الشريعة. وبعد سقوط مبارك، لم يأخذ العسكريون قراراً بإلغاء تلك المادة من الدستور المؤقت. وأعلنت كل الأحزاب تقريباً، باستثناء حفنة منها، أنها تؤيد الإبقاء على تلك المادة. إذا ما قارنت بين تركيا ومصر: فلو كان المصريون تبنّوا دستوراً علمانياً، لكانوا قد وصلوا إلى نقطة أخرى عما هم عليه حالياً. لقد تعثّر المصريون في ما يتعلق بالعلمانية. ونحن ندرك الميزة الكبيرة التي نتمتع بها في تركيا العلمانية حينما ننظر إلى ما يحدث في مصر.
إن العلمانية توصل إلى نتائج مختلفة. إن العلمانية راسخة في الدستور التركي. والأمر ليس كذلك في البلدان العربية. ولم تنجح تلك البلدان (على هذا الصعيد) حتى بعد الربيع العربي.
إذاً، العلمانية هي العنصر الرئيسي الذي يميّز تركيا عن بلدان المنطقة الأخرى؟
حتماً، وكذلك القرار الإستراتيجي الذي اتخذه السيد عبدالله غول.
في ذلك الوقت، أجرينا استطلاعاً للرأي العام تبيّن منه أن ٤٦ بالمئة من الناس كانوا غير مقتنعين بالأحزاب القائمة. وأظهر الإستطلاع أن شعبية ”حزب الفضيلة” انخفضت من ٢٣ إلى ١٣ بالمئة.
وحيث أن الحزب كان منقسماً على نفسه، فقد كان بوسعنا، نحن الإصلاحيين، أن نسعى لاستقطاب نصف جمهور الحزب، سوى أننا قرّرنا أن نسعى لاستقطاب الـ٤٦ بالمئة من الرأي العام التركي الذي لم يكن مقتنعاً بالأحزاب القائمة. وأنا واحد من ٦ أشخاص قاموا بكتابة برنامج الحزب الذي لم يتضمن أي إشارة إلى الدين!
وقد أظهرت إستطلاعات الرأي أن كثيراً من الناس كانوا يعتبرون البطالة والأمن كمشكلات رئيسية في البلاد. وفي حين كان هنالك نقاش حاد حول موضوع الحجاب في تلك الحقبة، فإن استطلاعات الرأي لم تخبرنا بأن موضوع الحجاب كان يشكل أولوية بالنسبة للرأي العام.
لقد كتبنا برنامج الحزب إستناداً إلى ما خلصت إليه استطلاعات الرأي العام.
وقد فزنا بالإنتخابات بنسبة ٣٤ بالمئة. وقد سعينا للوصول إلى الهدف الصحيح عبر القيام بعملية هندسة سوسيولوجية. ولو قامت بلدان الربيع العربي بمثل تلك الهندسة السوسيولوجية، ولو قرأت تطلعات شعوبها بصورة صحيحة، لكانت وجدت نفسها في وضع مختلف الآن.
ولكن العلمانية ليست ”شعبية” في المنطقة. بل كان هنالك رد فعل من الإخوان المسلمين حينما تطرق رئيس الحكومة، طيب إردوغان، عن العلمانية أثناء زيارته لمصر؟
ذلك يظهر المسافة الكبيرة التي قطعناها نحن.
ما رأيك برد فعل تركيا الرسمية على ما حدث في مصر؟
كان ردّ الفعل جيد جداً. فقد تصرف رئيس الحكومة طيب إردوغان كقائد مسؤول، فانتقد ما حدث وتوقف عند ذلك الحد. وأنا أخشى أن نواجه نفس المصاعب التي واجهناها في سوريا إذا ما تجاوزنا ذلك الحد وشرعنا بمساعدة الإخوان المسلمين (المصريين). إن المصريين هم وحدهم من يقرر من الذي سيحكم بلدهم. ومحاورنا هو الطرف الذي يتم الإعتراف به بصفته الدولة المصرية. إن السفير المصري في أنقرة يأخذ تعليماته من الجيش المصري، وليس بوسعنا أن نقول له ”نحن لا نعترف بك”!
ما هو نوع العلاقة القائمة بين ”حزب العدالة والتنمية” التركي و”الإخوان المسلمين”؟
إنهما يحملان نفس النظرة للعالم. ومن الطبيعي إذا أن يقف الواحد منهما إلى جنب الآخر. تماماً مثلما تلتقي الأحزب المسيحية الديمقراطية الأوروبية تحت مسمّى ”حزب الشعب الأوروبي” داخل البرلمان الأوروبي.