سواء كانت الحركة الدبلوماسية الأميركية في اتجاه لبنان سابقة أو لاحقة للتحرك الإيراني الذي كان يهدف، في حده الأدنى، إلى تحقيق مكاسب معنوية، مع اشتداد الضغوط عليها وعلى حلفائها، فإن زيارة كل من مساعد وزيرة الخارجية الأميركية السفير جيفري فيلتمان والسناتور جوزيف ليبرمان إلى بيروت، بالتزامن مع وفد حكومي إيراني موسّع يتقدمه نائب الرئيس الإيراني محمد رضى رحيمي للمشاركة في اجتماعات اللجنة العليا اللبنانية – الإيرانية المشتركة، قد خطفت وهج الزيارة الإيرانية، وأفقدتها زخمها على أقله في الشكل.
ولكن في المضمون، فإن الحركة الأميركية حملت في توقيتها رسائل متعددة الاتجاهات. أولها لإيران، وقوامها أن لبنان لا يدور في فلكها، وإنْ كان «حزب الله» يسيطر راهناً على حكومته بوهج السلاح، وتالياً فهو ليس متروكاً، حيث أن لواشنطن حلفاء محليين محضَهم الشعب اللبناني ثقته للحكم في انتخابات 2009 قبل أن يستولي «حزب الله» على السلطة بفعل انقلابه الدستوري.
وثاني هذه الرسائل تستهدف الدولة اللبنانية، ومفادها أن واشنطن تراقب بدقة مدى احترام مؤسساتها للعقوبات الدولية المفروضة على سوريا وإيران وحتى على «حزب الله». وهي لن تتهاون أبداً إذا تم خرقها مجدداً، ولا سيما من قبل النظام المصرفي اللبناني. ولا شك في أنّ مَن يعنيهم الأمر وصلت إلى مسامعهم أصداء ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» في السادس والعشرين من نيسان الماضي، من أن «إدارة أوباما تُكثّف تدقيقها في النظام المصرفي اللبناني، خشية أن تكون سوريا وإيران و«حزب الله» تستخدم مصارف بيروت للتهرّب من العقوبات الدولية ولتمويل أنشطتها». كما وصلهم «القرار التنفيذي» الذي وقّعه الرئيس الأميركي منذ أيام قليلة، ومنح بموجبه وزارة الخزانة الأميركية صلاحيات أوسع للتشدّد في تطبيق العقوبات الأميركية ضد سوريا وإيران من خلال استهداف «أفراد ووحدات أجنبية التفّت على العقوبات».
وكان لافتاً في التقييم السياسي الأميركي لأداء كبار المسؤولين، ما نُقل عن فيلتمان من أن الولايات المتحدة مرتاحة لكيفية إدارة رئيس الجمهورية ميشال سليمان للملفات السياسية والإدارية والمالية في البلاد، إلا أن قلقاً ما بدا يعتريها حيال أداء رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، محفوفاً بخشية من أن يخضع لضغوط «حزب الله» في إدارته الملفات الداخلية التي من شأنها أن تُكرّس مزيداً من سيطرة «حزب الله» وحلفائه على مفاصل الدولة في المرحلة المتبقية من عمر الحكومة.
أما ثالث هذه الرسائل، فهي موجهة إلى الحلفاء في قوى الرابع عشر من آذار، وفيها أنه إذا كانت الظروف الإقليمية وموازين القوى في لحظة الانقلاب لم تكن في صالحهم للتحرّك، فإن تحولات «الربيع العربي»، ولا سيما تلك التي تشهدها سوريا، قد خلقت المناخات المؤاتية والظروف الموضوعية لحركة سياسية تُعيد لبنان إلى موقعه السياسي الطبيعي. وتشكل الانتخابات النيابية عام 2013 الاستحقاق – المفصل، الذي سيرسم من جديد مستقبل لبنان ووجهته السياسية، ولا سيما بعدما خرج حلفاء إيران وسوريا على «صيغة التوافق» التي كانت تحكم البلاد لسنوات طويلة، بهدف الإمساك الكلي بالقرار وتغيير موقعه في المعادلة الإقليمية. وهو مشروع لا يزال قائماً، لا بل بات اليوم ضرورة أكبر لحزب الله ومرجعيته، وهدفاً سيعمل على تحقيقه بكل الوسائل والطرق. وستسخّر إيران كل وسائل الدعم المالي والمعنوي ليحصد حلفاؤها الأكثرية في الانتخابات المقبلة.
الحكومة الحالية لا يمكنها الإشراف على الانتخابات… ونقاش حول أهمية عودة الحريري إلى بيروت
تلك القراءة المشتركة بين فيلتمان ومن التقاه من الحلفاء، آلت إلى التوافق على وجوب البدء بالبحث الجدّي لمرحلة الانتخابات التي تريد واشنطن أن يتم احترام مواعيدها. وكان نقاش للنائب وليد جنبلاط خلال لقائه الموفد الأميركي حول أهمية أن يعود الرئيس سعد الحريري إلى بيروت، لما يُشكّله من رافعة في إدارة التحضيرات لهذه المعركة، واتخاذه الإجراءات الأمنية اللازمة التي تُسهم في هكذا عودة.
وثمة خلاصات أفضت إليها محادثات فيلتمان، أولها أن هناك حاجة للحفاظ على الاستقرار في البلاد، وعدم جرّه إلى حال الفوضى والفلتان الأمني الذي تُفيد منه القوى المتضررة من إجراء الانتخابات مستقبلاً، خصوصاً إذا أظهرت الحسابات إمكانية تحقيق قوى الرابع عشر من آذار فوزاً جديداً في الاستحقاق الانتخابي.
ثاني الخلاصات، أن التحالفات بين قوى الرابع عشر من آذار، والتي خاضت على أساسها انتخابات 2009 لا تزال تشكل أرضية صلبة لخوض المعركة المقبلة. ولا يمكن لجنبلاط إلا أن يكون إلى جانب قوى الرابع عشر من آذار، ولا سيما أن التلاقي بات معدوماً بين الخيار السياسي لجنبلاط والمشروع الذي تُعبّر عنه قوى الثامن من آذار، فضلاً عن استحالة التلاقي بين زعيم المختارة والنائب ميشال عون، الحليف الاستراتيجي لحزب الله. وفي رأي أوساط عليمة أن تلك القناعة باتت محسومة لدى جنبلاط، وهي تنتظر اكتمال مسار المصالحة التي يحتاجها إعلان مثل هكذا قرار، ولا سيما أن زيارته إلى المملكة العربية السعودية ولقاءه وزير الخارجية سعود الفيصل، والتي تمت بمسعى أميركي لعب فيه فيلتان دوراً بارزاً، قد أدّت إلى ترطيب الأجواء، لكنه لم يصل إلى حد تعبيد الطريق أمام لقاء العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز إيذاناً بطي الصفحة الماضية من الانقلاب على المملكة.
أما ثالثها، فهي أن الحكومة بصيغتها الراهنة لا يمكنها أن تُشرف على الانتخابات، وأن إسقاطها لا يحتاج سوى إلى التوقيت المناسب من وجهة نظر واشنطن وحلفائها، وسبل الوصول إلى ذلك لا تحتاج سوى إلى انسحاب جنبلاط منها ليُعيد معه الأكثرية إلى حيث كانت.
على أن آخرها يتناول الوضع في سوريا، حيث أن تطورات الأحداث تشي بأن خطة الموفد الأممي – العربي كوفي أنان لن يُكتب لها النجاح، وأن فشلها سيؤول إلى خيارات بديلة يجري الإعداد لها على المستوى العربي – الإقليمي – الدولي، تتمثل في رسم خطة دعم متكاملة مالية – عسكرية – تقنية، بحيث تتولى الدول العربية المعنية بالأزمة السورية، ولا سيما المملكة العربية السعودية وقطر الجانب المالي، وتتولى تركيا الجانب العسكري واللوجستي، فيما توفر الولايات المتحدة والدول الغربية كل الدعم التقني والتكنولوجي عبر خبراتها المتطورة. وهي خطة ستحظى، عند إخفاق مهمة أنان، بغطاء دولي بغض النظر عن المسمى الذي سيتخذه، ويعوّل عليها أن تؤدي إلى وضع حد لمعاناة الشعب السوري، وتفتح الأفق أمام مسار ديموقراطي جديد في سوريا ستكون له ارتدادات حتمية وانعكاسات ذات مجرى إيجابي على لبنان.
rmowaffak@yahoo.com