ضبّاط حكومة “حماس” الثقافيون الذين صادروا “قول يا طير: نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية”، للباحثين الفلسطينيين إبراهيم مهوّي وشريف كناعنة (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001)، وهو الكتاب الجميل في المحتوى والثمين في القيمة والفريد في وظائفه الثقافية والأدبية والتراثية، اقتفوا أثر ضبّاط حركة “فتح” الذين صادروا قبل سنوات كتاب إدوارد سعيد “سلام بلا أرض”. وبين المفارقات الأشدّ إيلاماً أنّ المواطن الفلسطيني ظلّ قادراً على اقتناء كتاب سعيد في مكتبات القدس وحيفا والناصرة وتل أبيب، وهذه سوف تكون حاله أيضاً إذا نفّذ رقباء “حماس” تعميمهم ـ الصادر عن وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، للعلم! ـ بمنع “قول يا طير…” وإتلاف نسخه.
والحال أنه إذا كان الرقيب الفتحاوي قد خشي التأثير السياسي المباشر لكتابات سعيد المناهضة لاتفاقيات أوسلو، ثمّ استند في اتخاذ قرار المنع على مزيج من غطرسة عقائدية وانفلات بيروقراطي؛ فإنّ الرقيب الحمساوي يخشى التأثير الثقافي المباشر لكتاب يذكّر ـ لأنه في الواقع ليس بحاجة للبرهنة ـ أنّ الحكاية الفلسطينية الشعبية تخدش الحياء (الكاذب المنافق) بالفعل، ولعلها تنتهك الكثير من المحرّمات (المصطنعة الزائفة)، ويستند إلى المزيج ذاته… سبحان الله! ولا يجعلنا نضرب كفاً بكفّ عجباً، ونفوراً كذلك، إلا أولئك الثقاة من الفتحاويين الذين صادروا كتاب سعيد بالأمس، ويتباكون اليوم على مصادرة “قول يا طير…”، دون أن نستثني المتباكين من المسؤولين الكبار الذين كانوا في أعلى هرم القرار السياسي والأمني حين صودر “سلام بلا أرض”!
ليس من أجل هذا نشأت حركة “فتح”، وليس لاتخاذ قرارات خرقاء كهذه منح الفلسطينيون منظمة “حماس” أغلبية ساحقة في المجلس التشريعي الفلسطيني. هذه قرارات لا تلحق العار بأخلاقيات الحقّ الفلسطيني وروحية المقاومة الوطنية ضدّ الإحتلال وصورة الشعب الفلسطيني فحسب، بل هي افتئات فاضح وقبيح ضدّ التراث الفلسطيني بأسره، القديم والوسيط والمعاصر، واغتيال لأكثر صفحاته إشراقاً واستنارة، وتشويه لحقائق الوجود الفلسطيني المعاصر في مختلف تجلياته الإنسانية والحضارية.
ليست هذه فلسطين بندلي صليبا الجوزي (1871ـ1942)، الأديب والفيلسوف والعلاّمة والمؤرّخ والرحّالة المقدسيّ المسيحيّ الأرثوذكسي الذي أعطى أبكر المعالجات المادّية للتراث والتاريخ الإسلاميين، ضمن مقاربات ثورية تماماً في المحتوى والمناهج، وكان عاشقاً لذلك التراث قبل أن يكون دارساً متعمقاً لظواهره. ولقد سخّر مناهج البحث المادية لكي يرسم صورة شاملة مركبة للتواريخ الاجتماعية والاقتصادية والأسطورية والرمزية وراء التاريخ الفكري التقليدي، ولكي يرى حركة المجتمع وتصارع الجماعات وراء مختلف ظواهر التراث الإسلامي والعربي، بدءاً بالمذاهب والفِرَق والحركات السرية، وانتهاء بالنصوص الدينية والمصادر التاريخية، مروراً بمسائل سوسيولوجية وأنثروبولوجية بدَتْ غريبة الوقع وغير مسبوقة آنذاك: تاريخ العائلة، الأمومة، تاريخ الأوبئة، الكوارث الجماعية…
وبفضل دراسات بندلي الجوزي انخرط العرب في قراءات جديدة لحركات المعتزلة، والقرامطة، والزنج، والإسماعيلية، وأخوان الصفا، وبفضله تنبهوا إلى نقدّ جدّي رصين (وغير بعيد عن أن يكون الأول من نوعه في اللغة العربية) لمختلف مدارس الاستشراق الغربي حول الشرق الأوسط القديم، والإسلام بصفة خاصة. ولكنه، من جانب آخر، كان هو ذاته صليبا الجوزي الذي لم يتغافل عن ضرورات ممارسة التحليل النقدي للذات الثقافية والحضارية العربية والإسلامية، وأثار منذ عام 1929 مسائل بالغة الحساسية حول التسامح والتعددية، وحذّر من أخطار التعصّب القومي والديني.
وليست هذه، في مثال ثانٍ، فلسطين توفيق بشارة كنعان (1882ـ1964)، الطبيب والأديب والباحث والمؤرخ والأنثروبولوجي الذي كانت مؤلفاته العديدة في تاريخ فلسطين الطبيعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والإثنوغرافي والسيكولوجي والأدبي والأسطوري والأنثروبولوجي ردّاً علمياً بليغاً ومبكّراً للغاية على الشعار الصهيوني الأشهر، والأشدّ تضليلاً وخبثاً وبذاءة: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». وهذا المسيحيّ الأرثوذكسي بدوره، في كتابه الهام «قضية عرب فلسطين»، الذي صدر أولاً بالإنكليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى سنة 1936، وصف أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفسطينيون سريعاً، فولدت هويتهم العربية الإسلامية وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية)، دون أن تقترن بأيّ زعم حول أيّ نقاء عرقي، بل على العكس اقترنت بنوع من المفاخرة بهذه الحصيلة من ثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية وإسلامية…
وعلى ضبّاط “حماس” الثقافيين أن يسارعوا إلى التفتيش عن أعمال بندلي صليبا الجوزي التالية، بغية تحريمها وجمعها وإتلافها دون إبطاء: «المعتزلة والبحث الكلامي التاريخي في الإسلام»، “محمّد المكّي ومحمد المدني”، «تاريخ كنيسة أورشليم»، «البحث في القرآن»، «تاريخ حياة الفارابي وتلخيص نظامه الفلسفي»، “تاريخ النهضات الفكرية في الإسلام”، و”دراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب”. وعلى الضبّاط إياهم أنّ يفعلوا الشيء ذاته بأعمال توفيق بشار كنعان التالية: «الطبّ الشعبي في أرض الكتاب المقدس»، «علم النبات في الخرافات الفلسطينية» و«طاسات الرعبة العربية» التي تدرس تاريخ العلاقة الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، وبين العلاج النفسي عن طريق توظيف رموز الخرافة الشعبية، واستخدام التكنيك الشعبي المعروف باسم “طاسة الرعبة”…
هل فلسطين رقباء “فتح” و”حماس” هي، حقاً، فلسطين الجوزي وكنعان؟
وهل في وسعنا أن نقبل منهم تشويه أصالتها، وقتل حيويتها، وإغراقها في ظلام ثقافي بعد فساد أخلاقي بعد تفريط سياسي؟
s.hadidi@libertysurf.fr