تعيش تركيا عقدة معاهدة لوزان للعام 1923. تظنّ انّ في استطاعتها تمزيق هذه المعاهدة التي كرست تخليها عن بلدان قائمة حاليا، بينها مصر والسودان والعراق، وعن مناطق قريبة انتزعت منها. تعتبر تركيا ان السنتين اللتين تفصلان عن مرور مئة سنة على توقيع معاهدة لوزان في الرابع والعشرين من تمّوز 1923 هما سنتان مفصليتان مهمتان جدا بالنسبة الى بقاء تركيا كدولة حرة ذات سيادة.
هذا غير صحيح على الاطلاق. ليس هناك من يريد الاعتداء على تركيا، كما ليس هناك من يريد المسّ بسيادتها.
تعتقد تركيا برئاسة رجب طيّب اردوغان ان هناك فرصة كي تستعيد جزءا من الأراضي التي فقدتها بموجب معاهدة لوزان. اكثر من ذلك، تظنّ ان في استطاعتها الانتهاء من مفاعيل المعاهدة في ذكرى مرور مئة سنة على توقيعها. هل يسمح القانون الدولي بذلك؟ هل صحيح انّ المعاهدات بين الدول تنتهي بمجرد مرور مئة عام على توقيعها؟ هل هناك من هو مستعد لاعلان موت معاهدة لوزان والاحتفال بدفنها في الرابع والعشرين من تمّوز 2023؟
ذلك هو التحدّي الذي يرى اردوغان انّ عليه مواجهته كي يدخل التاريخ عبره ويعيد امجاد الدولة العثمانية. لذلك، نرى كلّ جهوده منصبّة على الانتهاء من معاهدة لوزان التي وجدت تركيا نفسها مجبرة على توقيعها بعد خسارتها الحرب العالمية الأولى التي خاضتها الى جانب المانيا. مثل هذا التصرّف ليس طبيعيا نظرا الى ان تركيا لم تستطع ان تكون قوّة اقتصادية قادرة على لعب دور اكبر من حجمها على الصعيد الإقليمي. تركيا ليست قوّة إقليمية تستطيع السماح لنفسها باستعادة قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وسوريا ومنطقة المشرق التي وجدت نفسها مضطرة الى التخلي عنها في لوزان. ليس مسموحا لتركيا، حتّى، باستعادة الموصل في العراق وذلك على الرغم من ان الموصل بقيت مدينة تركية طوال أربعة قرون من العهد العثماني.
هناك امر واقع واحد ستتمكن تركيا من فرضه، إضافة الى وجودها في شمال قبرص منذ العام 1974. هذا الامر هو وجودها الدائم في الشمال السوري وذلك بالتفاهم مع روسيا وأميركا. هذا عائد لسبب في غاية البساطة يتمثّل في ان الدولة السورية تفكّكت ولا امل في إعادة تركيبها في المدى المنظور. ستكون المشكلة الكبرى التي ستواجه تركيا في الشمال السوري مشكلة التعاطي مع الاكراد الذين يحظون بدعم روسي واميركي من اجل إقامة منطقة يكون لهم فيها حكم ذاتي في اقل تقدير.
لا حدود لطموحات رجب طيّب اردوغان التي تجعله عاجزا عن التفريق بين الأوهام والواقع، بل يظنّ انّ هناك مؤامرة على تركيا تقودها فرنسا المسيحية تستهدف التجديد لمعاهدة لوزان في السنة 2023.
اكثر من ذلك، تعتقد تركيا انّه سيكون في استطاعتها مواجهة مخطط اوروبي ـ غربي يعمل من اجل اختلاق وضع امني او عسكري يفضي الى اشتباك معين يقود الى تمديد معاهدة لوزان. من بين ما تتضمنّه معاهدة لوزان، التي لعب فيها اللورد كيرزون وزير الخارجية البريطاني دورا كبيرا في صياغتها. تمنع المعاهدة تركيا من التنقيب عن النفط والسيطرة على مضيق البوسفور، أي تقاضي رسوم في مقابل المرور فيه. في حال تمزيق معاهدة لوزان، ستكون تركيا حرّة في التنقيب عن النفط والغاز حيثما تعتقد انّه يحقّ لها، خصوصا بعد الاتفاقات التي توصّلت اليها مع حكومة الوفاق ذات التوجّه الإسلامي، او على الاصحّ الاخونجي (نسبة الى الاخوان المسلمين)، في ليبيا. لا يمكن تبرير هذه الاتفاقات قانونيا في غياب ايّ شرعية ليبية وفي ظلّ الشرذمة التي تسود البلد.
في هذا الاطار، اطار استعادة تركيا ما تعتبره حقوقها المسلوبة بموجب معاهدة لوزان، يعدّ رجب طيّب اردوغان نفسه لمعركة السنتين الفاصلتين عن مرور مئة سنة على توقيع تلك المعاهدة. في الواقع، تعدّ تركيا نفسها لخوض مواجهة مع فرنسا، ومع آخرين مثل اليونان، في البحر المتوسّط . تجد في فرنسا رأس الحربة للقوى التي تعمل من اجل تجديد معاهدة لوزان. أسوأ ما في الامر انّ الاتراك يعتبرون نفسهم في مواجهة مع الغرب المسيحي المعادي للاسلام السنّي تحديدا. وهذا شيء غير صحيح اذا اخذنا في الاعتبار انّ هذا الغرب حاول كثيرا إقامة تعاون مع تركيا قبل ان يكبر رأس اردوغان ويحوّل النظام التركي الى نظام رئاسي لا مكان فيه سوى لشخصه ولطموحاته.
هناك من دون شكّ فراغ كبير في المنطقة، لكنّ السؤال هل تركيا مؤهّلة لملئه عبر الذهاب بعيدا في تدخلاتها في غير منطقة بدءا بليبيا وصولا الى العراق مرورا بسوريا ولبنان وفلسطين ومصر وقبرص واليونان. وصل الامر بتركيا الى التدخل في اليمن وإيجاد قواعد لها في الصومال. في مرحلة معيّنة، في عهد عمر حسن البشير، السعيد الذكر، سعت تركيا الى ان تكون على البحر الأحمر في السودان بشكل دائم.
هناك موازين القوى التي تتحكّم بالعلاقات بين الدول. لم تستطع المانيا النازية تمزيق كلّ الاتفاقات والمعاهدات التي اضطرت الى توقيعها بعد الحرب العالمية الأولى الّا بعدما أصبحت القوّة العسكرية الاهمّ في أوروبا وفي ظلّ رغبة أميركية في الابتعاد عن مشاكل العالم الخارجي، في ما عرف بالسياسة الانعزالية للولايات المتحدة. وضع الهجوم الياباني علي بيرل هاربور حدّا لهذة السياسة الانعزالية في السابع من كانون الاوّل من العام 1941… وادخل اميركا الحرب العالمية الثانية الى جانب الحلفاء.
ليست أوروبا في الضعف الذي تتصورّه تركيا، على الرغم من الخلافات القائمة داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصا بين فرنسا وايطاليا. ولكن يبقى انّ هناك الأوهام وهناك الواقع. يقول الواقع انّ في استطاعة تركيا إعادة التفاوض على تعديل بنود في معاهدة لوزان. هناك القانون الدولي الذي يسمح بتعديل المعاهدات والاتفاقات في ضوء شروط معيّنة.
امّا حلم استعادة امجاد الدولة العثمانية… فهذا شيء آخر، خصوصا ان تركيا – اردوغان تنسى انّها في حاجة دائمة الى المال القطري كي تبقى اوهامها حيّة ترزق!